أدار الحوار: عبد العزيز جدير
ممتع هو الحديث إلى الطيب، تنويري وتثقيفي فعل محاورة الطيب. شجرة طيبة مثقلة بفاكهة المعرفة، تعطي من دون حساب. مثقف رصين، وهو يقودك بين دروب فكرية ومعرفية، وثقافات متنوعة، ومسالك وعرة بلغتيه اللتين عدل بينهما.. معطف الصديقي وسع كل فنون المغرب (مسرح، وغناء، ومهن المسرح…)، ومدرسته قبلت الأغلبية، واشترطت النباهة، وشحذ الهمم.. يمتع الشرفاء، ويزرع في أرواحهم رعشة السمو، ومتع الخير والحب.. كالمسرح تماما.. اقتربت منه، وزرته بدعوات نبيلة منه، وكان الهدف نسج فرجته، وتجربته كتابا.. هذا بعض منه.. الحديث عن الطيب، وحديث الطيب، هل يستويان؟
لقاء المسرح في شارع الحياة
– سي الطيب، أعتقد أنه لا بد أن أسألك عن واقع المسرح المغربي، في البداية.
– يا أخي عبد العزيز، أنا لا أتحدث عن المسرح المغربي ولا عن المسرح العربي؛ ذلك أني لا أتحدث إلا عما أريد إنجازه، عما يشغلني. ثم إن رجل المسرح ليس هو المؤهل لتقييم أعمال الآخرين؛ فهناك الجمهور، وهناك النقاد… وأنا كرجل هاو للمسرح، لا أذهب إليه أبدا؛ لأنه فضاء يولد الضجر. وعندما أذهب إلى المسرح لتقديم عرض، وألاحظ أن القاعة غاصة بالجمهور أسأل نفسي: لماذا جاء كل هؤلاء إلى هذا المكان؟… ولأن المسرح مكان مضجر أكثر من أيّ مكان آخر، فإني أفضّل أن أقرأ المسرحيات. والحقيقة، أقول لك: إني لم أشاهد، منذ سنوات، أي عرض مسرحي. أما الآن، فإني أضطر لمشاهدة بعض العروض لأنها تقدم في مسرحي، لأنني كما تعلم أملك مسرحا الآن…
المسرح الجوال، الذي هو عبارة عن خيمة شاسعة…
[مقاطعا] نعم. ودعني أقول لك إني متفائل بمستقبل المسرح في المغرب؛ بل قد أقول إن المغرب هو البلد الوحيد الذي يعرف حركة بناء مسارح نشيطة. فهناك، الآن، عشرون مسرحا في طور التشييد. وهذا واقع لا يعرفه أي بلد. بطبيعة الحال، هذه بنايات وليست هناك فرق قارة لتحقيق تشغيل مستمر لتلك المسارح عن طريق برمجة تغطي كل أيام السنة. هذه هي المرحلة الثانية، وهي التي توجد الآن قيد الإنجاز. في مدينة الدار البيضاء، بُنيت عشر مسارح خلال عشر أعوام. وهذا أمر مدهش للغاية. ثم إن هناك مسارح أخرى في طور التشييد، بكل من المحمدية وفاس ومكناس ووجدة… وهذا أمر يبشّر بالخير.
ولكن أود أن أضيف أن ما ينقصنا هو الإبداع. يقول بعض الناس إننا نفتقد الإمكانات، وأنا أعارض هذه الفكرة؛ ذلك أنه إذا انعدمت الموهبة فإننا ننتج “أعمالا” تنضح بؤسا وإدقاعا فنيا. وإذا ما حصلنا على دعم مالي، فإننا ننتج “أعمالا” أكثر بؤسا؛ فالمال لا يُمكن من شراء الخيال أو التخييل أو الإبداع، وإن كان يمكن من شراء الآليات والمواد الأولية.
سي الطيب، لو نسترجع، هذه اللحظة، بعض تفاصيل لقائك بالمسرح؟
كان لقاء حكمته المصادفة. كنت أرغب في دراسة الهندسة المعمارية. وكان الأساتذة الفرنسيون يومها قد وجهونا توجيها مهنيا، إذ لاحظوا أن لي استعدادات في مجال الاتصال. وكان، يومها، يسمى بالبريد. أخبرت أبي بالأمر، فقال لي: “نحن على أبواب الاستقلال، وأنا أمنحك سنة تفرغ للتأمل الذاتي”. وهكذا، التقيت بالمسرح. وقد كنتُ، يومها، قرأتُ في الصحافة خبرا عن تدريب في الفن الدرامي، فقلتُ بيني وبين نفسي: “المسرح يشتمل أيضا على الهندسة، فلأبدأ من هنا ويفتح الله من بعد”. وكنتُ واحدا، من بين عدد ضئيل، من مزدوجي اللغة الذين قبلوا. بدأتُ الاشتغال بالترجمة، ثم انتقلتُ إلى إدارة المسرح فالديكور. وبعد ذلك، أصبحتُ مخرجا، بالمصادفة، ومدير فرقة مسرحية، فمدير مسرح. دائما بالمصادفة. في الحقيقة، لم أخطط لأي شيء في حياتي. كل شيء حدث بشكل طبيعي.
بعض نصوصك المسرحية تعكس علاقة متميزة مع موليير.
أحب موليير كثيرا. إنه عبقري حقا؛ ولكنه ليس الوحيد. يمكن أن أقول إني أفضل عليه شكسبير. ثم إني أحب حبا شديدا التراجيديا الإغريقية. وهما أمران لم أتعامل معهما بعد. لم أقم بإخراج أية مسرحية لشكسبير؛ وذلك لأني لا أشعر بأنني أقدر على إخراج مسرح شكسبير. ثم إن مسرحنا المغربي لا يتوفر على ممثلين شكسبيريين، لأن للتراجيديا بعدا آخر؛ ذلك أن شخوصها يعانون ظلم القدر. وبالرغم من أنهم يعلمون أن الموت ينتظرهم، في نهاية الطريق، فهم يمشون فيه. ويمكن تلخيص الأمر في جملتين: إلى أين أنت ذاهب أيها الإنسان؟ لا أدري؛ ولكنني ذاهب إلى هناك…
لاحظْ أن الفرنسيين انتظروا القرن السابع عشر ليفهموا التراجيديا ويكتبوها. أما في العالم العربي، فلم تكتب بعد؛ بالرغم من أن اللغة العربية لغة تراجيدية. لست أدري هل سيولد عندنا، يوما، مسرح تراجيدي؛ وإن كنت أعتقد أن لدينا، في العالم العربي، شكلا من أشكال المسرح التراجيدي. ويتعلق الأمر بالتعازي، كتعازي الحسين عند الشيعة. أما عند السنة، فلا يوجد هذا الشكل المسرحي… وهناك عدة قضايا لم تتم مقاربتها، في المسرح العربي؛ منها البعد التراجيدي، وكذا الشعر الذي لم يحتل مكانه اللائق به في المسرح العربي، خاصة أن للشعر مكانة رئيسة، إذ اعتبر علم قوم لا علم لهم. وقبل أيام فقط، صادفت أربع محطات فضائية عربية تقدم برامج حول الشعر في وقت واحد، وهذا أمر دال في حد ذاته.
عندما أشرت إلى موليير قلت إنك تفضّل عليه شكسبير، مَنْ مِن الكتّاب رافقته مدة معينة حتى أحسست بعلاقة الصداقة والألفة؟
ككل الناس، أغلب أصدقائي من الأموات لا الأحياء. وقد أذكر من بين أصدقائي الجاحظ، ومجموعة من المسرحيين الإغريق. وقلة من الأحياء، أذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر: كونديرا، وغارسيا ماركيز… وأخيرا، شرعت أتابع عن قرب كتابات إمبيرطو إيكو، حيث يفلح الرجل في خلق معارضات مدهشة حقا. في أحد كتبه الأخيرة، يتحدث عن ناشر استقبل مؤلفا كتب الكتاب المقدس، كما تحدث عن تقييم أعمال كافكا وكيف يراها ناشر شاب. إنه عالمه عالمٌ مثير للدهشة. وبالرغم من ذلك، فأنا أحب أن أقرأ الشعر؛ لأنه يجعلني أشعر بالنشوة والابتهاج.
تذكرت، الآن، اسم فيلار.
طبعا، لم أشر إلى كل الأسماء؛ وذلك لأن الأسماء ليست هي الكتب. لو أشرت إلى كتبي المفضلة لذكرت مذكرات دو كول، وكتابات مالرو، وخاصة كتاباته حول الفن، والتي أعتبرها مدهشة. كما يمكن أن أشير إلى كتابات أبولينير. ولن أنسى، بالطبع، “ألف ليلة وليلة”؛ فهي من الروائع، بالرغم من أن العرب يحتقرونها.
قد يكون بعض هذا الحب وراء مرحلة في حياتك المسرحية يمكن تسميتها بالتراثية تعاملت فيها مع نصوص تراثية أذكر منها: “مقامات بديع الزمان الهمداني”، “الحراز”…
سأحكي لك هذه الحكاية أو هذا الحدث. ذهبت، مرة، لتقديم مسرحية “المقامات” في مهرجان صغير بتونس. وقد استضاف أصحاب المهرجان ثلاث فرق أجنبية. واحدة فرنسية، قدمت مسرحية “Phèdre/ فيدر”. قدمت مسرحية “المقامات”، بعد إعادة صياغتها (وكان عمر النص الأصل سنتين). وبعد العرض، كتب شخص ما مقالة قال فيها: “للأسف، فقد قدّم الصديقي مسرحية تعود إلى سنتين”… أما مسرحية “فيدر”، وعمرها ثلاثة قرون فلم يقل عنها شيئا، ولم تبد له قديمة. هذا إنسان يجهل الميدان. فلا يوجد مسرح ينتمي إلى الماضي؛ ففي كلمة تمثيل أو تشخيص الفرنسية (Représentation)، نعثر على كلمة حاضر (Présent). وعندما نقدم “أوديب”، الآن، وقصته تعود إلى ألفي سنة، فإننا نتحدث عنه في زمن الحاضر. وهذا الأمر يعكسه جواب “هاملت” على “بولونيوس” الذي سأله:
- ما الذي تقرأه، يا مولاي؟
- كلمات، كلمات، كلمات..
ماذا يقرأ الناس، الآن؟ فيلار أو جان جينه؟… وربما كانوا يقرؤون، في زمن بن جونسون، بن جونسون. وكذلك فعلوا في زمن شكسبير: قرؤوا بن جونسون. فالحداثة، تكمن فيما نراه… ثم كيف يمكن أن نفسر أن أبطال الأفلام القديمة كلهم شباب. هذا أمر مدهش. فهم يبدون شبابا، أكثر مما هم عليه الآن. إن مفهوم الزمن غير وارد هنا. ما معنى الماضي؟ إنه اللحظة الجميلة التي تستمر في الحاضر. ثم إننا عندما نقرأ القرآن لا نقول هذا الكتاب عمره خمسة عشر قرنا. والأمر ذاته يمكن أن يقال عن نصوص المتنبي، وتأبط شرا..
سيرة الركح
لو اعتمدنا بعض التحقيب للتأريخ لمسيرتك المسرحية لتحدثنا عن المسرح العمالي…
[مقاطعا] دون الحديث عن “هموم العمال”. وقدمنا آنذاك مسرحية “المفتش” لغوغول، ومسرحية “الوريث” لأغست رينوار، كما قدمنا مسرحية “الجنس اللطيف” لأريسطوفان؛ وهي المسرحية الوحيدة التي قدمناها من المسرح اليوناني. وقد اشتملت مسرحية “الجنس اللطيف” على مسرحيتين: (“L’ assemblée des femmes”, “Les Istrata”)، وهي كوميديا إغريقية؛ لكنني لم أعتمد، أبدا، مسرح المطالب [السياسية]. فقد كنت أرفض أن أساير الفترة والسائد. واعتبر رأيي، يومها، مشينا. أما الآن، فقد اقتنع الناس بذلك، وفهموه نظرا للتغييرات التي عرفها العالم. كان رأيي ولا يزال هو التالي: إن المناضل الحقيقي، إذا كان رجل مسرح، فالمطلوب منه هو أن يكتب مسرحا جيدا. والمطلوب من الشاعر أن يكتب شعرا جيدا، وهو ما يبقى في نهاية المطاف…
انظر إلى فولكنر، إنه سياسي كبير. ثم إنه رجل قانون أيضا، بالنسبة إليّ. فقد كان الرجل نجما. كان سياسيا كبيرا؛ ولكنه كان كاتبا كبيرا، قبل كل شيء. إنه أكبر روائي أمريكي، ولا أريد أن أقول أكبر روائيي العالم، ولا يهم إن كان من “اليمين” أو من…
في فترة معينة، دعوت إلى مسرح عربي-مغربي…
هذه أيضا قضية خاطئة؛ لأن المهم هو فعل المسرح ذاته، أي أن نقدم المسرح. الفرجة. وأنا فرح لأن هذا المسرح كان عربيا، أما مسرح مغربي فتلك قضية أخرى. لو ولدت جهة الجنوب لقدمت مسرحا سينغاليا. فما حدث هو مجرد حادث جغرافي. ولو ولدت في الشمال لقدمت مسرحا إسبانيا. إنني فرح لأنني ولدت هنا، وأغبط نفسي على أنني هنا أقدم مسرحا ذا لون عربي؛ لكنني ألح على أنني أقدم وأمارس المسرح أولا، والعربي ثانيا. المهم هو المسرح، أي منتوجا قابلا للتعرف عليه. إنني لا أمارس مسرحا شبيها بالأطباق الطائرة (V.N.I)، يصعب التعرف عليه أو تحديد هويته. إن مسرحي محدد الهوية قابل للتعرف عليه وتمييزه عن غيره. وأنا، في الغالب، أطعمه بالسخرية؛ لأنني لا آخذ المسرح مأخذ الجد، بينما هناك من يعتقد أن بإمكان المسرح أن يغيّر العالم ويوجه رسائل إلى الإنسانية.
أعود إلى قضية مسرح عربي/ مغربي لأقول: قد يعود الأمر إلى رغبة الصديقي، كمخرج، في إثارة طابع وخصوصية مسرحه.
لقد حلم العرب، على الدوام، في أن يكون لهم عالم عربي شبيه بثكنة كبيرة يلبسون بذلة موحدة. لماذا؟
هناك خصوصيات يصعب إلغاؤها: فالمسرح العراقي يقدم لنا خصوصية بابلية، زيادة على العربية. والمسرح المصري يغتني بخصوصيته الفرعونية. ونحن، في المغرب، عندنا خصوصيتنا الأمازيغية. فلماذا يحرص البعض على إفقارنا وإفقار مسرحنا؟
أوافق على وجود مسرح عربي باللغة العربية الفصحى؛ لكن يمكن أن يكون باللهجات/ اللغات الأخرى، ففي كل ذلك إغناء للمسرح وليس إفقارا له. ولا بأس أن يكون هذا المسرح تونسيا، ومغربيا… فلا فائدة ترجى من وراء أن نتشابه ! فالوحدة لا تلغي الاختلاف. ثم إن للجغرافية أحكامها: قد يبدو كلامي هذا غريبا؛ ولكنني أصر على قوله: إنني أشعر بأن الإسباني، الذي يبعد عني (14) كيلومترا، أقرب إليّ من اليمني؛ لأنني أفهم ما يقوله، لأن أفقنا أقرب إلى أفق الغربي.
لو انطلقنا من مسرحية “الأكباش يتمردون” لنطرح قضية توظيف الفصحى والعامية لأنهما تتكاملان وتغني كل منهما الأخرى… أنا لا أومن أنهما لغتان. الدارجة انحدرت من الفصحى، فهما قريبتان من بعضيهما، مع اختلاف في قواعد النحو. فلكل منهما قواعدها. ثم إن الدارجة تطفح بالكلمات الدخيلة. من القضايا التي تشغلني في هذا الباب: كيف يمكن أن تصبح الدارجة لغة مكتوبة لكي تدخل إلى الذخيرة المسرحية (Le répertoire)، ولا تبقى مهمشة؟ وكيف يمكن تخليص وسيلة التواصل هذه من بعض الاحتقار في التعامل معها؟… ويمكن أن نلاحظ أن الدارجة لا تسيء إلى العربية الفصحى. والدليل هو ما نراه ونسمعه في وسائل الإعلام. فالعربية أصبحت مفهومة ومتداولة بين الشباب. وما ينقصنا هو إيجاد السبيل إلى جعل تلك اللغة لغة اليومي. لاحظ أنه من الصعب أن تتخاصم مع أحد وتسبّه بالفصحى ! في التلفزيون، يتحدث الناس بالعربية الفصحى؛ لكن الحائز على جائزة نوبل (نجيب محفوظ) لا يتحدث بها أبدا، لكنه يتحدث العربية المصرية، وهي مفهومة ومتداولة. ويبدو لي أننا نعيش مركب نقص اتجاه اللغة العامية التي لا تعتبر لغة كلاسيكية…
الالتزام… للإبداع
اعتبرت مسرحية “الأكباش يتمردون” نقطة انطلاق مزج الواقعي بالخيالي والابتعاد عن مفهوم الانعكاس كما تجسد في المسرح.
لقد أوّل بعض النقاد تلك المسرحية تأويلا مبالغا فيه، لم يطرأ على بالي أبدا. وأقول لك بصراحة إن بعضهم أراد أن يدخلها ضمن مسرح التحريض. وأذكر أن أحد الفرنسيين، سامحه الله، واسمه جيل سانديي، هو الذي أعطى للمسرحية هذا البعد. بينما يتعلق الأمر، في الواقع، بقصة بسيطة تتخذ شكلا مجازيا؛ ذلك أنني تخيلت أن الأكباش أضربت، صباح يوم عيد الأضحى-وليس هناك أضحيات أخرى- وقالت لسيدنا إبراهيم الخليل: “نتفاوض”، فرد عليها: “هذا ليس معقولا”… هذا هو ملخص المسرحية بكل بساطة. فتعددت تأويلات النقاد، وكتب ذلك الفرنسي كتابا عنوانه: (“Théâtre et combat”)، وخصص لي صفحات قال في بعضها: “إن الصديقي يريد أن يقول لنا إن المغاربة ليسوا أكباشا”. وهذه حقيقة لا تحتاج إلى كتابة مسرحية، ويكتبها عبد ربه بالضبط. وأعتقد أن الناقد الفرنسي كان تحت تأثير قولة شهيرة للجنيرال دو كول: Les Français sont des) veaux): (الفرنسيون عجول). من قرأ تلك المسرحية، زمن كتابتها، وهي المرحلة الأوفقيرية، ومن يقرأها الآن قد يلاحظ بعض الفرق؛ ذلك أن بعض المسرحيين كانوا يعتقدون أنهم يكتبون “مسرحا سياسيا”، فينثرون “رمزا” لحورية !ويقدمون شخصية بشارب ويقولون إنه “يرمز” إلى الدكتاتور ! وهذا، لعمري، مسرح ساذج ومسرح جاهز، بل هو غبي أيضا.
نفهم من كل هذا، سي الطيب، أن ما سمي بالالتزام لا يشكل صلب الإبداع. المهم هو الفن.
الالتزام يعني أن تنجز عملك بإتقان وتقوم به، هذا هو الالتزام الحقيقي. هل وجد من يسأل: هل كان فيلاسكيز من اليمين أو من اليسار؟ هل سأل أحد عما إذا كان هوميروس يساعد المساكين أم لا؟ وهل لويجي بيرانديللو مؤمن أم غير ذلك؟ وهل هو رجل حسن الطوية؟
سيبقى هوميروس كاتب “الإلياذة” و”الأوديسا”، وكفى. ويبقى برانديللو صاحب “ست شخصيات تبحث عن مؤلف”، وكفى. والالتزام هو أن تلتزم بعملك وتخلص في إنجازه؛ فالمجتمع يتكون من عدد من الأفراد، وعلى كل واحد منهم أن يعمل على أن يتقدم المجتمع خطوة نحو الحرية، نحو ما يحرره، ما يحسن أوضاعه وينشر العدل… وما هو العدل؟ هو كل هذه الأشياء مجتمعة… وهي قد تتشكل من كلمات قد لا يكون لها بعد أو نكهة إيديولوجية عندما يقوم الإنسان بواجبه. ما المطلوب من شرطي مسؤول؟ أن يكون جديا، أي أن يقوم بواجبه ويحمي المواطنين ويحافظ على أمنهم ويسهم في تنظيم المجتمع. وما الذي نطلبه من شاعر؟ هو أن يتقن مهنته فنقتدي به ونقتدي أثره، نحن وأولادنا ونقرأه جميعا ونفتخر به ونتداول الحديث عنه وعن نصوصه. لن يمارس كل الناس السياسة. أتعرف ما معنى المسرح؟ أعرف تعريفا واحدا بسيطا له وهو على الكتّاب أن يكتبوا، وعلى المخرجين أن يخرجوا الأعمال المسرحية، وعلى أصحاب الديكور أن يقوموا بمهمتهم، وعلى الممثلين أن يمثلوا أدوارهم، وعلى منظمي العروض أن ينظموها. هذا هو تعريف المسرح. ولا أعرف له تعريفا آخر.
وتبقى الأسئلة التي يطرحها الجمهور على رجل المسرح/ المخرج: ماذا ستقدم لنا؟ ما هو منتوجك الفني أو الثقافي؟ ثم ما الحجم الذي ستعطيه له ليثير نقاشات داخل المجتمع، وكيف يمكن أن يستمر هذا العمل، ويخلد في الذخيرة فيقول عنه الناس، في القرن الرابع والعشرين، كان عندنا في القرن العشرين… ألا تلاحظ أننا عندما نتأمل تاريخ المغرب عمن نتحدث في جانب الحضارة والأدب المغربيين؟ نتحدث عن محمد المختار السوسي، أو عبد الله كنون… هؤلاء سجلوا حضورهم وأبدعوا وحفظ لهم التاريخ إنتاجات مهمة. فهم ليسوا أشباحا. فمن هم معاصروهم؟ الذين كانوا ينتقدونهم؟ لم يحتفظ التاريخ باسم أي أحد منهم. وهذا هو الفرق بين من يعمل ومن يهتم بالنقد الفارغ وبالشعارات. الشعارات مرحلية، والإبداع إنساني. وقد يكون من نصيبه بعض الخلود. وأنا أرفض الصنف الأول، وأنخرط بحمية في الصنف الثاني، وأتمنى أن يكون عندنا فنانون عالميون. وما ذلك على الله بعزيز.
الإخراج فيض معارف
سي الطيب، عنيت، خلال مرحلة معينة من مسيرتك المسرحية، بالحلقة كشكل للفرجة؛ بل استضافتك جامعة إسبانية لتقديم عروض وتكوين طلبة في هذا الاتجاه.
لا أرغب في أن يصبح هذا النوع المسرحي الشكل الوحيد المعتمد في فضاء المسرح المغربي. هذا نوع فقط. وأعتقد أن على المسرح المغربي أن يكون غنيا، وتتعدد تجاربه وتتناقض أيضا، حتى لا نقع في مفهوم أو قصة الثكنة. وعندما أتحدث عن الحلقة لا أضع الشكل كنقيض للمضمون، وليس الشكل هو الصيغة. وهنا أحيل إلى أبي حيان التوحيدي، الذي يتحدث عن الصنعة وعن الصيغة. مثلا، نحن نريد أن يكون لنا مسرح جيد، أن يساير العصر، فما الصيغة التي يجب أن يتخذها؟ هذا هو المشكل. عندما يشرع البعض في تقديم مسرح بئيس أو يعمد إلى وضع علم فلسطين فوق الركح ليتحايل على الناقد والمتفرج حتى لا يقول أي منهما هذا عمل بئيس أو هزيل: أقول نعم، إنه هزيل، بالرغم من علم فلسطين المرفوع على الركح، ولا علاقة له بالموضوع… فالعلم نشاز. لعلنا نخلص من كل هذا إلى أن المسرح المغربي والعربي يعانيان زلة الجهل. الفنانون، عندنا، جلهم أميّ والأميّ لا يميز، ولا يمكن أن يكون مسؤولا. فهو قاصر. الإنسان المسؤول هو الذي يعرف حدود حقل عمله، وهو المتمكن من فكره واختياراته…
لعل المسرح فرجة شاملة، والمخرج ضرب من منسق المعارف.. وحفيد الموسوعيين…
المسرح فرجة شاملة، وقد ألمحت إلى ذلك من قبل. والإخراج يتطلب التسكع بباب كل المعارف تقريبا، أي أن تكون حفيد الموسوعيين. ولو أن صفة الإنسان وحدها تفرض ذلك.. في الإنسان بعض من اللانهائي، طلب لتجاوز الزمن.. وهذا شيء أدركه توفيق الحكيم ووظّفه في “أهل الكهف” وغيرها من مسرحه؛ ذلك أن المسرح ثقافة ومهن شتى. فلا يمكن أن يكون المخرج مخرجا إذا كان يجهل الأدب، لأن المسرح أدب مكتوب. ولا يمكن أن يكون المخرج مخرجا إذا لم يكن مهندسا معماريا، أو على الأقل يعرف كل القضايا التي تطرحها هندسة المكان/ المسرح. ولا يمكن أن يكون مخرجا إذا كان يجهل الموسيقى وتاريخها، وأن لا يوظف موسيقى فاغنر في نصوص موليير ويمزجها بكناوة. لأن لكناوة أصواتا وليس لهم موسيقى، ولكنها أصوات مهمة… والمخرج بمثابة رئيس جوقة؛ فهو يعرف الموسيقى ولا يعزفها. فإذا كان المخرج يجهل كل هذه الأشياء ولم يكن يتوفر على ثقافة صلبة وعلى أسس متينة ومتعدد المرجعيات، فهل يمكن أن يعطي ما ينتظره منه جمهور ذكي؟ فاقد الشيء لا يعطيه، أليس كذلك؟
صعبة جدا هي مهمة المخرج…
الإخراج يتطلب تكوينا مزدوجا: أدبي وعلمي؛ فلا يمكن أن توظف الإضاءة توظيفا متقنا إذا لم تكن على معرفة بالفيزياء. وإذا كنت من المتفرجين عليك أن تنظر دائما إلى أرض الركح، فإذا رأيت عددا من الأشباح هناك، فاعلم أن مخرجنا لا معرفة له بالإنارة. فكيف يولد المعنى عن طريق خدع الإنارة؟ إن على من يتهم نفسه بالإخراج أن يلم بكل هذه المجالات المتنوعة ويبدع فيها.
تمثل مرحلة مسرح الهواة أحد أغنى مراحل مسيرتك المسرحية.
مسرح الهواة يمثل، دائما، تجربة مهمة وغنية؛ لأنه يمثل خزانا بالنسبة إلى المسرح الاحترافي، كالمسرح المدرسي.
من بين خصائص الكتابة الدرامية عندك هناك مستوى اللعب بالكلام.
طبعا، لأن اللغة لغة حية، يمكن اعتماد الحشو في التعبير، وهو دينامية تمكن من شدة انتباه المتلقي. فالوقوف على الركح لا يسمح باعتماد أو استعمال لغة جامدة، بل يتطلب ابتداع لغة تنضح حيوية. وكما قلت، أنا في “المقامة القردية”: يقول أحد ما: “يا قرد أنت على وزن فعل، والقردة فعلة… والقرود فعول”.
الإخراج يتطلب سعة الثقافة…
[مقاطعا] عليك أن تعتمد اللسانيات، وعلم الدلالة، وفقه اللغة. وهذه عناصر طريفة جدا، وهي ساحرة. وهذا اللعب بالكلمات موجود في المسرح ويحول دون استعمال لغة جامدة، لأن اللغة كائن حي وهناك طرق للنطق بعبارة ما. فقد رأيت في عرض مسرحية “قفطان الحب المرصع بالهوى” العبارة التي يرددها السارد: “وقع ما وقع” [وكان الصديقي كلما كرر العبارة ذاتها تنفجر القاعة ضحكا]. إن هذا الضرب من اللازمة لا يقال بالنبرة نفسها؛ فمرة تفيد الاستفزاز، وثانية السخرية، وثالثة الغضب، ورابعة الحنين، إلخ. وهكذا، فجملة واحدة تمكنك من تجسيد أوضاع ومواقف مختلفة عن طريق النبر. وهذا شبيه بعبارة يرددها المغاربة في حديثهم اليومي “تبارك الله عليك”، ويعطونها عددا من المعاني: مدح، ذم، سخرية، تعريض… كل هذا يؤكد أن اللغة محرك أساس يجب أن تعطى الأهمية ذاتها، التي تعطى للحركة؛ وذلك بالرغم من أننا نقول سأذهب إلى المسرح لأشاهد، ولا نقول لأسمع مسرحية، إذ كادت العين أن تسبق الأذن.
إن الجانب البصري مهم جدا. والمسرح هو أيضا رسم ونحت. وعندما يكون الكوميدي مرتديا لباسه فتسلط عليه الأضواء لعل ذلك يمثل عملية نحت حقيقية. ولعلك لاحظت، خلال مشاهدتك للمسرحية، أن الألبسة/ الأزياء وقد سلطت عليها الأضواء أصبحت تمثل لغة خاصة؛ فهناك اللغة التي نتحدث بها، وهناك اللغة التي نشاهدها.
في مسرحية “قفطان الحب المرصع بالهوى”، الملابس والموسيقى شكلا عنصري فرجة إضافية تتكامل، طبعا مع العناصر الأخرى. فالملابس تضفي رونقا خاصا على المشاهد، وتعين الانتماء الاجتماعي، والموسيقى تعين للمتلقي البلد فضاء الحدث.
حنبلوس هو البلد الذي تخيلته أو اكتشفته ليحتضن أحداث المسرحية. والألبسة أيضا اخترعتها اختراعا. إن التخييل أو الاكتشاف خصيصة رئيسة في المسرح. وقد رأيت الآلة الخاصة بإصدار الدخان لم أرد تشغيلها على الركح [كان الفنان الصديقي يقول لأحد الممثلين، وهو يحمل تلك الآلة، اصدر اللون الأحمر، الأزرق..] لأترك للمتفرج فرصة تشغيل مخيلته. (وقد سرقت مني آلة ثانية لإصدار الدخان)
الانتقال من المسرح أو الخيال أو النص نحو الواقع أو لحظة الأداء ذاتها يخلق فرصا للهزل..
بالطبع، فذلك الانتقال يخلق أو يحدث أثرا هزليا ويحقق متعة أكيدة؛ فالجمهور المغربي مدهش وذكي، ويمتلك الثقافة اللازمة لمتابعة وإدراك عناصر السخرية. إن المسرح القائم على السخرية مسرح مهم جدا، وكذلك تجربة المؤلف المسرحي الذي يحرص على خصوصيته وعلى كينونته ولا يسعى إلى أن يكون مالرو أو روب غرييه… فلا أحد يمكن أن يشبه آخر تماما أو يكون مثل آخر. التقليد في المسرح، كما في غيره من الأجناس الأخرى، ممارسة قاتلة؛ فلكل عمل ظاهره وباطنه، بالمعنى الصوفي للكلمتين. ولعل باطن العمل وحياته وروحه أهم ما فيه.
سي الطيب، ظل تعاملك مع السينما كمخرج خجولا.
أثبتت لي تجربة السينما أن عليك أن تصرف ثلاث سنوات من حياتك لتنجز فيلما قصد تقديمه لمهرجان “واغادوغو” أو أي مهرجان في فرنسا (مونبلييه) أو غيرها.. ويمثل ذلك جهدا كبيرا من أجل لا شيء تقريبا. قد أسميها “جعجعة بلا طحين”، وليس “جعجعة بلا طحن”..
وكيف ترى راهن السينما المغربية؟
هناك فلتات، والفلتة لا حكم لها.. تحدثنا، قبل قليل، عن المخرج المسرحي وعن ثقافته وسعيه الدؤوب إلى المعرفة لكي ينقد عمله من الفجوات التي تسمح بتسرب الماء.. الأعمال السينمائية المغربية تعتريها أعطاب كثيرة، ويعود معظمها إلى رغبة “المخرج” في أن يستقل بالعمل، ينسبه إلى نفسه.. بينما السينما عمل جماعي، والمخرج منسق معارف ومهن وجهود… انظر إلى الجوائز التي تنالها الأفلام الأجنبية.. قد تكون جائزة للمخرج، ولكن جوائز كثيرة لغيره ينالها الفيلم ذاته: واحدة لأحسن دور نسائي، وأخرى للموسيقى، وثالثة للملابس، ورابعة لأحسن فيلم، وخامسة لأحسن تصوير، وسادسة لأحسن سيناريو، وسابعة لأحسن ديكورات، وثامنة لأحسن دور رجالي، وتاسعة لأحسن مونتاج…
تشرف الآن على “المسرح الجوال”، وأعتقد أن حلم تحقيق أو امتلاك مسرح قار وخاص بك لا يزال يراودك.
طبعا، طبعا.
II
“السحور عند المسلمين والنصارى واليهود”
سحر الواقع، سحر الركح
أسألك عن آخر عمل، وهو “السحور عند المسلمين والنصارى واليهود” الذي قدمت ضمنه مضمون السحور كممارسة اجتماعية عند أبناء هذه الديانات الثلاث..
“السحور”، يا سيدي، ظاهرة شائعة يعرفها كل المغاربة، حيث أصبح الجميع يتحدث عن السحور والتوكال والجنون؛ فكان من الضروري أن نخصص له عملا مستقلا، على اعتبار أن المسرح كما يقال- ولو أنني لا أحب هذه العبارة- مرآة للمجتمع، فوجب أن يكون مرآة صادقة. قضية السحور، لما أردنا أن نعالجها في إطار “مسرح الناس”، لم أرد الحديث عن السحر في المجتمع العربي وحده. ومن ثم، عنونتها بـ”السحور عند المسلمين واليهود والنصارى”؛ لأننا لم نحتكر مجال السحر هذا، والحمد لله. نجد هذا في الشعوذة والكذب والتضليل إلخ، ونجده في جميع الثقافات والعادات وفي جميع الأوساط. هذا هو المغزى الأول لهذه المسرحية..
والمغزى الآخر..
يطول الحديث في هذا المضمار.. لأن أمر السحر أمر مثير جدا؛ فقد اتضح، في الأخير، أننا أخطأنا خطأ مثيرا. فقد أنجزنا الملصق و(les tracts) التي تدعو الناس إلى المسرح في شكل حرز، فلم يفهم بعض الناس المقصود من ذلك، فكانوا يعمدون إلى بيع تلك الدعوات، حين الحصول عليها (ضاحكا). بعض أولئك الذين غلبتهم السذاجة، ولم يفهموا ومن غير المتعلمين.. كانت المسرحية قد أدخلت على أفئدتنا كثيرا من السرور، لأن التجاوب مع الجمهور كان تجاوبا كبيرا، ولأنها مكنت من اكتشاف الشاب مفتاح الخير، والشابة التي ظهرت مؤخرا على شاشة التلفزيون، أمل الأطرش؛ فقد كان لها دور مهم… وغيرهما، وكل ذلك تحت قيادة القيدوم مصطفى سلمات.. وأذكر القراء أن هذه المسرحية كانت لتكريم الصديق العزيز والفنان الكبير الأستاذ مصطفى سلمات.. وقد فَقَد هذه الأيام سنا، فأسميناه مصطفى سننات..
يعرف البعض، ولا يعرف الجميع ذلك، ويذكر قليل من الناس، أن علاقتك بالمسرح بدأت بالصدفة..
[مقاطعا] مثلا، ماذا تقصد بالصدفة؟..
[مقاطعا] في حديث سابق، قلت لنا إن فترة النضال الوطني دفعت الوالد إلى أن يقول لك عليك بالانتظار حتى ينقشع غمام اللحظة..
[مقاطعا] كنت قلت شيئا من هذا الكلام في بداية مسيرتي.. في الحقيقة، كل ما قمت به، ولا بأس أن أذكر القراء بذلك إذا كان الأمر يهمهم، كنت أريد أن أكون architecte مهندسا معماريا؛ ولكن الحظ لم يساعدني، لأن المغرب كان على أبواب الاستقلال.. وشرعت أدرس مادة هي (L’architecture théâtrale) يعني الفن الهندسي أو مهنة المهندس في الديكور المسرحي.. ومن ثم، أصبحت ممثلا بالصدفة، ثم مخرجا بالصدفة.. وأعتقد أن الصدفة كانت حليفي في هذه المسيرة المسرحية. لم أطلب أبدا أن أكون مدير المسرح البلدي، وأصبحت مديرا بالصدفة، ولا طلبت أن أكون المدير الفني لمسرح محمد الخامس… كل ما حصل بالصدفة، والحمد لله..
التنوع خطوة نحو تأسيس الفرجة
عندما نراجع ريبرتوارك، نلاحظ أنه متنوع جدا، نجد نصيبا من المسرح العالمي في تنوعه: المسرح الإيطالي، المسرح الفرنسي.. ونجد أعمالا من مسرح العبث (بكيت، ويونسكو..) والمسرح العربي، منه المؤلف والمقتبس من المسرح الفرنسي..
[مقاطعا] والإيطالي، الإسباني..
[مقاطعا] والمسرح التراثي: “أهل الكهف”.. هل يعود هذا التنوع إلى كونك كنت تعيش هاجس التأسيس، ومن يعيش هاجس التأسيس يوزع جهوده على النبش فالحفر في جهات عدة واتجاهات..
كأيّ فنان، في حياتي عدة مراحل تتجاوب مع ما ينتظره الناس أو هي مفاجآت بالنسبة إليهم. لماذا بدأت بالاقتباس؟ لأننا، لو استثنينا الأستاذ أحمد الطيب العلج، في بداياته، والبشير العلج لم نكن نتوفر على نصوص، لم نكن نتوفر على مؤلفين مسرحيين كثر. المسرحيون الذين كانوا يكتبون للمسرح كانوا يعدون على رؤوس أصابع اليد الواحدة. بدأنا بالاقتباس لماذا؟ للانفتاح على الثقافات الأخرى، وهذه ضرورة، ثم إننا من خلال الاقتباسات تعلمنا ما هو المسرح؛ لأن المسرح، بمفهومه الإيطالي، دخيل على الثقافة العربية، كما هي دخيلة الرواية (Le roman)؛ ذلك أن التعبير الحقيقي للعرب أو الفن الأصيل في ثقافة العرب، ولا أحد ينازلهم في ذلك، هو الشعر. إلا أن المسرح، بالمفهوم الذي نعرفه به الآن، دخيل علينا، ولم يتجاوز المائة سنة، ولم يبلغ الخمسين سنة من الاحتراف. لا يمكن أن نقول إننا نتوفر على مدرسة مسرحية قائمة الذات؛ لأن عمر المسرح طويل وعمر الإنسان قصير. المسرح يحتاج لقرنين من التقليد/ الممارسة لكي نقول إننا نتوفر على تلك المدرسة القائمة بذاتها. وتسألني لماذا كنت أقتبس شخصيا؟ كنت أقتبس لأتعلم ما هي الكتابة أولا، وما هو المسرح الذي يمكن أن يكون عليه إقبال كبير من لدن الجمهور، في أوربا، في ذلك الوقت؟ لأننا تربينا جميعا على تقاليد المسرح الأوربي. كنت، في العالم العربي، أول من اقتبس مسرح العبث. وأشكرك، لأنك استعملت عبارة مسرح العبث ولم تستعمل عبارة مسرح اللامعقول؛ لأنه تعبير ساقط وفي غير محله. كنت أول من اقتبس يونسكو، وأول من اقتبس أرابال إلخ..
الاقتباس خطوة على درب التعلم؛ ولكن الوقوف عنده طويلا تضحية بالإبداع والانتقال إلى مرحلة اكتشاف الذات..
لقد سكنني هاجس اكتشاف صيغة لفرجتنا التي تعكس واقعنا وتعكس شخصيتنا. ولعل ذلك الإحساس هو الذي جعل وعيي حادا في هذا الاتجاه. وهكذا، اتضح لي، بعد هذه التجربة أي بعد إحدى عشرة أو اثنتي عشرة مسرحية، أن هذا الطريق لا يمكن أن يجعل منا مسرحيين مغاربة أو يعيننا على أن يصبح لنا مسرح مغربي، عربي مائة في المائة لا يمت بصلة إلى المسرح الأوربي. فلنكن واقعيين، فإذا قدمنا شكسبير فنحن لن نمثل شكسبير أحسن من الإنجليز. وإذا مثلنا موليير فلن نمثله أحسن من الفرنسيين.. فتبين لي أن الطريق مسدود. لو تابعنا هذه الممارسة بهذا الشكل فإننا سنقدم مسرحا ممسوخا. فرنسي ممسوخ، إنجليزي ممسوخ، إيطالي ممسوخ.. وقبح الله المسخ، وأحل الإبداع. فتبين لي أن نبحث وننقب عن أشياء فرجوية. إذن، انطلقت من فكرة الفرجة؛ ومنها الحلقة والبساط والخرافات.
فرجة معاصرة أبدعها “تراث” الأجداد
وأول عمل قمت به وهو مغربي مائة في المائة كان هو “ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب”. لأن مسرحية الديوان، حطمنا بواسطتها الرقم القياسي حيث عرضناها أكثر من خمسمائة مرة. وهذا دليل على أنه كان هناك إقبال من لدن الناس، وأنهم تجاوبوا مع المسرحية. وهي تتكلم بطريقة مباشرة عن المجتمع وما يعانيه هذا المجتمع، في فرحه وفي خيبته… ومن هناك، اكتشفت، وساعدني الوالد على ذلك، أن هناك نصوصا عربية تقف على باب المسرح. وهناك ما أسميه بالذخيرة، أي الريبرتوار. فالذخيرة أي التراث العربي فيه نصوص قابلة مائة في المائة للمسرحة. المقامات ما هي إلا مسرحيات مكتوبة للمسرح. فيها الحوار، وفيها الشخوص، فيها الحبكة، وفيها البداية، وفيها النهاية.. ما كان ينقص العرب هو المخرج. فكان من السهل أن أضع “المقامات” أو “رسالة الغفران” التي اشتغلت عليها رفقة عز الدين المدني، المؤلف التونسي المعروف، أو بعض النصوص الأخرى المعروفة؛ ومنها أبي حيان التوحيدي، وسأصدر قريبا نص أبي نواس.. هذه كلها مسرحيات. هل سنجد في الريبرتوار العالمي شخصية مسرحية أحسن من أبي نواس؟ لا أظن ذلك. وهل سنجد في العالم غير العربي، الأوربي والأمريكي، شخصيات مثل أبي حيان التوحيدي، صاحب كتاب “الإمتاع والمؤانسة” و”مثالب الوزيرين”؟ وهل سنجد شخصا أغنى من الجاحظ؟ العرب ضحية حسد لوجود الجاحظ بين ظهرانيهم، ومن بين مثقفيهم. لن تجد شخصا، في التراث العالمي، من هو أقوى من الجاحظ. كل ما كنا نحتاج إليه هو أن ينفتح الشخص منا على ثقافته، وينبثق من جذورها.. وحاولت أن أتعامل مع هذه النصوص، التي يسميها البعض بالتراثية. ولكن الجاحظ يخاطبنا اليوم. مثلا، لما مثلنا أبي حيان التوحيدي، في فرنسا، باللغة العربية، مدة شهر، كان الأمر عجبا واستثناء. ليس هناك فرقة تقدم عرضا يوميا باللغة العربية وجمهورها، في معظمه من الفرنسيين والأجانب طيلة شهر كامل. ويوم قدمت مسرحية “أبو حيان التوحيدي”، كانت الحرب دائرة بين العراق وإيران. وكان التوحيدي يتكلم عن الحروب المشتعلة في بلاد فارس والعراق، كان يتكلم عن السلطة. السلطة، لم يكتب شكسبير عن شيء آخر غير السلطة (Le pouvoir). فأبو حيان التوحيدي يخاطبنا اليوم. وهو معاصرنا. وما يقوله عن الانحطاط، انحطاط الثقافة العربية الإسلامية، للأسف، هو واقع. والتوحيدي وبديع الزمان الهمداني كانا من الأوائل الذين شعروا بأن هذا الانحطاط بدأ يتفشى كنوع من السرطان في نسيج الثقافة العربية الإسلامية. كأنهما يخاطباننا الآن. ومن قائل يقول: هذا كاتب قديم. وما معنى قديم؟ من يستطيع أن يقول إن موزارت قديم؟ ومن يستطيع أن يقول إن أعمال رامبراندت وأعمال رسامي القرنين الرابع والخامس عشر قديمة؟ إن من يلجأ إلى القول بفكرة قديم، لا يعدو أن يكون واحدا من أناس يعانون الجهل. هذه خلاصة ما يمكن أن أقوله في هذا الباب، فكل مرحلة جاءت تعبر عن مرحلتها والحاجة إليها. كان هناك وقت للاقتباس، ووقت للتمثيل والبحث في الأدوات الفرجوية، سواء كانت مسرح شارع، أو أنواع أخرى من المسارح التي اشتغلنا عليها. والحمد لله، استطعنا أن نخلق ذخيرة مسرحية. وقد كتبت حتى الآن اثنا عشر بساطا، ولست الوحيد الذي كتب البساط. هناك، الآن، شبان يكتبون البساط، ينقبون عن البساط، ينقبون عن أشكال، وأنا لا تعجبني كلمة أشكال، وأفضل عليها عبارة صيغة. وهذه الكلمة ليست لي بل هي كلمة أبي حيان التوحيدي. كان لا يتكلم عن الشكل بل يتكلم عن الصيغة. وكان يتكلم عن الاستتيقا. يحدث هذا، يا سيدي في القرن الثالث الهجري. وكلما تعمقت في قراءته تحس بأنك تقرأ إنسانا يعيش اليوم ويكتب اليوم. وقوة المسرح هي إحياء هؤلاء الناس الذين غادروننا. ولكن إحياءهم من جديد، وهم ما زالوا يعطوننا دروسا ويعلموننا كيف يمكن أن يتعامل الإنسان العربي مع ما يحيط به، مع الأخطار، مع التقلبات، مع الدسائس.. هذا إنسان معاصر، moderne.
سي الطيب، في أي مسرح قدمتم أبي حيان في فرنسا؟
قدمناها في مسرح الثقافات العالمية (Les Cultures du monde)، ويوجد في بولفار راسباي والذي يشرف عليه الصديق شريف خازندار، وهو سوري الأصل.
الحلقة.. حلقة في الإبداع
لو عدنا إلى هذه الفكرة: ارتياد الآفاق المتنوعة: المسرح الغربي بأممه المختلفة، المسرح العربي، القديم والحديث.. هل كنت تشعر بأنك ملزم بارتياد هذه الآفاق المتنوعة لأنك تؤسس، كما أشرت قبل قليل، للفرجة..
يتعامل الناس، في المغرب، مع الفرجة بصفة مباشرة وسهلة جدا وليس فيها أي تعقيد. بعض الناس يقولون، خلاص الحلقة، ما الحلقة؟. في الحقيقة، الحلقة فيها وفيها. ولكن عندما تسمع مثلا الراوي (Le conteur) وهو إنسان يحكي الأزليات أو العنتريات أو أشياء يجتهد في إنشائها، تجد أن مسرحه، وأنا أقول بأنه مسرح، تجد أن هذا السيد يستطيع أن يكون نصا أو راويا أو حكواتيا، كما يقال، بل يصبح كذلك كأنه ديكور. عندما يستعمل العصا، “البوردو”، كما نقول نحن في المغرب، ويقول لامرأته، وهو يسلم عليها ويقول سأسافر ويركب على عصاه فتتحول العصا كأنها حصان. لما يرحل ويسقط المطر تتحول تلك العصا إلى مظلة. ثم يعترض سبيله بعض أعداء الله، من قطاع الطريق، فتصبح العصا سيفا. ينتصر عليهم فيكتب إلى امرأته فتصبح العصا قلما. الغربيون الذين يفهمون هذه الأشياء يتعجبون من كل هذا. وقد كتب الغربيون في هذا الموضوع، في العشرينيات والثلاثينيات، أيام الحماية. كما كتب الفرنسيون عن هذا الإبداع وبذكاء آسر. وقد اكتشف، أيضا، رجال المسرح الفرنسي الحلقة في الثلاثينيات والأربعينيات؛ ومنهم كوبو ولوي جوفي.. وهذان من أقطاب المسرح الفرنسي، من أكبر المسرحين في القرن العشرين، واكتشفوا أن أصل المسرح هو هذا؛ لأن الإغريق كانوا يقدمون شيئا شبيها بهذا، تماما. الإغريق هم أصحاب الثقافة الحقيقية التي أنجبت ما يسمى بالمسرح. نوع واحد من المسرح. المسرح الذي يعتمد على النص المكتوب، قبل أن يِؤدى أمام الجمهور. إذن، هؤلاء العارفون بشؤون المسرح والفرجة يعترفون بقوة هذه الأشياء، بعمق هذه الثقافة وقوتها، ونحن نحتقرها !هذا عيب. ولكن الحمد لله، اتضح، في الأخير، أن عددا من المؤلفين والمخرجين المغاربة فهموا أهمية فرجة الأنواع المغربية وحولوها وجعلوا منها حدثا مسرحيا، كل على طريقته الخاصة: عبد الكريم برشيد، سي أحمد الطيب العلج، عبد المجيد فنيش في سلا، بلهيسي في تازة.. المراكشيين، الآخرون في أكادير.. أي أصبح، في المغرب برمته الآن، اهتمام كبير بما يسمى الفنون الفرجوية.. وأنا لا أقول إنه يجب على المسرح المغربي أن يكون دائما نابعا من الحلقة، لا. هذا نوع من المسرح المغربي. ويمكن غدا أن نتعامل مع شكسبير أو مع إبسن أو مع أي مؤلف آخر أمريكي أو صيني أو يباني… ولكن يجب التنقيب، ويجب أن نبحث وأن نعير الاهتمام لهذه الأدوات التي كادت أن تتلاشى، أو تتبخر ويطويها التاريخ في رمال النسيان.
لغات المسرح وقيمه
أنت تكتب باللغتين العربية والفرنسية، وقد نعتبر هذا الأمر ارتيادا لآفاق، وهو ما مكنك من الغنى في صناعة الفرجة وخصائص أخرى سنتوقف عندها من خلال مسرحية “عطب تقني خارج عن إرادتنا”، ومنها قوة التلاعب باللغة والسخرية…
لا بد أن أوضح للمتلقي أنني اشتغلت على حوالي سبعين، أو خمس وسبعين مسرحية؛ ولكن لم أكتب حتى الآن إلا ست مسرحيات باللغة الفرنسية. ولم أبدأ الكتابة بالفرنسية إلا منذ خمس أو ست سنوات. هناك من يعيب على الطيب الصديقي ممارسته للمسرح الفرنسي. لا، يا أخي، مسرحي مسرح مغربي باللغة الفرنسية. هناك فرق مهم جدا. أنا لا أتكلم عن القضايا الفرنسية أو المجتمع الفرنسي، بل أتكلم هذه اللغة وأستعمل هذه اللغة، لأن هذه اللغة فرضت علينا. ويجب كذلك أن نفرض على الآخرين، من يتكلم اللغة الفرنسية، أن نفرض عليهم أفكارنا بلغتهم. ولو كنت أمتلك القدرة على الكتابة باللغة الصينية لكتبت بها، ولأمكن أن يقرأني مائة مليون من الصينيين. من تعلم لغتين كان إنسانين. ولقد اتضح أن الإنسان الذي لا يتقن إلا لغتين هو إنسان، تقريبا، أمي. الآن، أصبح من الضروري أن نتسلح بثلاث لغات، على الأقل.
سؤال رديف لهذا السؤال، ما هو الاستقبال الذي يخصص لهذه المسرحيات التي تكتب باللغة الفرنسية وهي ست مسرحيات.. وهي، بالمناسبة، كانت تعرض للمضمون الإنساني..
طبعا. لما أتحدث، في مسرحية، عن حياة موليير وأسميتها “في سبيل الإنسانية”، لأن هذه الجملة (Au nom de l’humanité)، وهي لموليير من إحدى مسرحياته وهي “دون جوان” (Dom juan) . يكون دون جوان، في الغاب، فيخرج عليه شحاذ وهو يمد يده، بينما دون جوان ملحد، قال له: فيما تقضي يومك؟ قال الشحاذ: أصلي. فقال دون جوان: إذن، قل لذلك الذي تصلي له أن يطعمك. وأضاف: سأعطيك قطعة ذهبية إذا قلت عيبا في الإله. فقال الشحاذ: حاشا لله أن أقول شيئا في الخالق. وفي الأخير، سيلقي دون جوان القطعة النقدية ويقول له باللغة الفرنسية: Va, va, je te le donne pour l’amour de l’humanité.
قال له:
أعطيتك هذا المنقود حبا في الإنسانية”. فأنا لما اتخذت موليير كموضوع للمسرحية، اتخذته لأنه كان ضحية الكنيسة، وضحية الناس المتدينين المسيحيين، لأنهم كانوا ضد المسرح، وعانى منهم ما عاناه، إلى درجة أنه لما مات رفضوا أن يدفن تماما، في المقبرة المسيحية؛ لكن لويس الرابع عشر، كان يعطف عليه، ويعرف قيمته فقال لمطران مدينة باريس، رئيس أكبر كنيسة في باريس:
هل عمق الأرض كله مسيحي؟
فرد المطران:
لا. عمق الأرض المسيحية متران فقط.
فقال لويس الرابع عشر:
ادفنوا موليير في عمق المتر الثالث.
ولما تحدثتُ عن هذا التعصب الديني، وهذه الفاشية الدينية باسم الله قصدت إياك أعني واسمعي يا جارة !
وقد تجلى هذا الصراع، إبداعيا، في مسرحية، “طارطيف”..
معلوم، معلوم..
III
“عطب تقني خارج عن إرادتنا”
ومن العطب ما ألهم فرجة
لو سألتك الآن، سي الطيب، كم استغرقت من الوقت في كتابة “عطب تقني خارج عن إرادتنا”؟
سأحكي لك القصة الآن، ولم يسبق لي أن حكيتها من قبل لأحد. كنت رفقة أعضاء الفرقة نمثل مسرحية عن موليير “حبا في الإنسانية” التي تحدثنا عنها قبل قليل، وكانت من إنتاج مشترك بين “مسرح الناس” والمصالح الثقافية للسفارة الفرنسية لأنها مكتوبة باللغة الفرنسية فلا بد أن يدعموها عبر الإنتاج المشترك. وتوصلنا حقيقة منها بدعم مهم، ومن السفير الفرنسي الحالي السيد مشيل دو بون كورس الذي تربطني به علاقة قوية لأنه يعير اهتماما كبيرا للشؤون الثقافية وللتعبير الثقافي، ومولع بالشعر إلخ.. لم يتمكن، للأسف، من حضور العرض الأول، والعروض الأخرى بمدينة الدار البيضاء، كما لم يتمكن من مشاهدة العرض الآخر بالرباط بالرغم من أنه يقيم بالرباط؛ وذلك لأنه كان في مهمة في باريس. ثم دشننا جولة لعرض المسرحية ففوجئنا به يوم تقديم المسرحية بتطوان يلج قاعة العرض في آخر ساعة، لأنه قبل أن يكون سفيرا كان صديقا. لكن طارئا حدث وهو عطب حصل للآلات الكهربائية، فقلت للأستاذ سلمات ولأخي عبد الرزاق الصديقي أن يشعلا بعض الحسكات أو الشمعادانات، كما يسميها أهل الشرق العربي (وكانت من بين الأشياء التي سنستغلها في المسرحية)؛ وذلك لأقول بعض الأشياء لأدفع الملل عن الناس في انتظار إصلاح الكهرباء. وشرعت أقول للناس باللغة الفرنسية ما دامت المسرحية ستكون بالفرنسية:
Ce soir, nous avons un petit problème, c’est un incident technique indépendant de notre volonté
أي أننا هذه الليلة نعاني مشكلا صغيرا وهو عطب فني خارج عن إرادتنا، كما يقال. وأن المشكل هو الكهرباء؛ لكن المسرح وجد قبل أن توجد الكهرباء. وشرعت أقص عليهم بعض التفاصيل من حياة المسرح. وبعد ذلك، شرعت أفتعل حوارا بيني وبين الجمهور أقول لهم مثلا: كيف كان الناس يضيئون الركح؟ بالطريقة التالية: فدخل سلمات وعبد الرزاق يحملان الحسكات، كل واحدة تشتمل على خمس شمعات وشرعت أسرد عليهم تفاصيل طريقة إضاءة المسرح. فقلت لهم إن الشمع كان يوضع في مقدمة الخشبة أي (L’avant scène) ما يعبر عنه بالخشبة الأمامية. وقلت لهم ما دامت هناك فصول ومشاهد في المسرحية، فمع نهاية كل فصل يتوقف العرض للاستراحة (L’entracte). وتكمن وظيفة الاستراحة في تمكين أصحاب المسرحية من تبديل الشمع الذي يكون قد ذاب. وتابعت حديثي عن المسرح وأنا أقول بيني وبين نفسي: “هذا موضوع مسرحيتي القادمة.” وبعد العرض، تناولت العشاء رفقة الموسيو دو بون كورس وقلت له ما طرأ على خاطري وأنني سأكتب مسرحية هذا موضوعها. وهكذا، خلال فترة ما بين عرض تطوان وطنجة وعودتي إلى الدار البيضاء كنت قد كتبت ملخصا لهذه المسرحية. في الحقيقة، كتبت المسرحية خلال أسبوعين، ثم تركتها تختمر، لأن التجربة علمتني أن العمل إذا لم تترك له فرصة الاختمار لا يكتسب أي قيمة. فالكتابة تحتاج ما يسميه الفرنسيون بالـ(Le recul) أي أن يضع الكاتب مسافة بينه وبين عمله ويعيد القراءة، ويضيف ما يبدو ناقصا، ثم يعد النظر في جوانب من العمل. هذه هي قصة “عطب فني خارج عن إرادتنا”. وأود أن أشكر الصديق الرتناني الذي نشر كل مسرحياتي التي أشرت إليها آنفا وكتبتها باللغة الفرنسية. ثم سأحدثك، بعد ذلك، عما أكتبه باللغة العربية وسيصدر بعناية الشاعر محمد بنيس عن دار توبقال.
الفنان ينثر أريج الإنسانية
هذا الحديث عن ظروف كتابة المسرحية يسلمنا إلى التقديم الذي اخترته للمسرحية وهو من إبداع هذا الكاتب الفذ أوكتاف ميربو، وهو تقديم رائع جدا. كيف اهتديت إليه؟
تعلم أن لي أصدقاء من “الكوميدي فرانسيز” وهم يمكنونني من الاطلاع على وثائق الكوميدي فارنسيز، هذه المعلمة التاريخية الحية. عثرت على هذا النص الذي أعجبني كثيرا، وهو نص لمؤلف كبير؛ ولكنه كان لا يحب المسرح. وكتب مقالا، آنذاك، ربما صدر بجريدة “الفيكارو” ويوجد بخط يده في أرشيف الكوميدي فرانسيز. قرأته ونسخت عنه صورة أحتفظ بها، في هذا النص الأول، كان يشتم الممثلين وخاصة العجزة من الممثلين؛ من طعنوا في السن. وكان يكره الممثلين ويحتقرهم. وقد أثار النص ضجة كبيرة، بداية القرن؛ ولكن بعد خمس أو ست سنوات، بعد أن تعرّف على الممثلين واقترب منهم وشرعوا يتمرنون على بعض مسرحياته لأنه كاتب مسرحي كبير..
[مقاطعا] وروائي كبير أيضا من بين رواياته: “حديقة العذاب” و”يوميات خادمة” وقد نقلت إلى الشاشة الكبرى مرتين من إخراج رينوار ثم بونويل، ورواية “المحنة”.. ويقال عنه إنه كان صحافيا ساخرا ثار ضد الزيف والرشوة وكانت كتاباته تتخذ شكلا هجائيا..
صحيح، وهو متعدد المواهب. إذن، لما اكتشف عالم المسرح وعالم الممثلين وما يعانونه، وخاصة الممثلون المتقدمون في السن. ولم يكن يومها صندوق ضمان اجتماعي في فرنسا، كأنني أتحدث الآن عن المغرب حيث لا ضمان اجتماعي للممثلين ولا اعتراف بهم.. وهم محتقرون هذا قوس فتح نفسه بنفسه، طبعا لن أحول هذا اللقاء إلى بكاء على الأطلال، ولكن لا بد من الإشارة إلى الممثلين وإلى من يعانون منهم، وخاصة المتقدمون في السن.. والله يرحم الكغاط وفلان إلخ، الخ.. المهم، أعود إلى أوكتاف ميربو، لما اكتشف هذا العالم، وهذا الوسط ومدى التفاني في خدمة الفن، واكتشف السخاء الذي يغدقه الفنان في عمله على الناس، ذلك أن الفنان هو الذي يحب الناس. من لا يحب الناس لا يمكن أن يكون فنانا، ولا يكون مسرحيا، ولا شاعرا، ولا رساما.. مستحيل.. الصفة الأولى للفنان هي حب الناس، حب الإنسانية، ويحاول أن يخاطب هذه الإنسانية بأحسن ما لديه.. لما تعرف أوكتاف ميربو على هؤلاء الممثلين كتب مقالا أوردته في المقدمة يمجد فيه الممثل، ويعترف بخطئه بطريقة ذكية وبكتابة محنكة؛ لأنه كان كاتبا، وكان نحريرا ذا رقة وإحساس مرهف وعنده ما يقـول ولا يتكلم عن هوى، ولا ينطق هراء.. كان يكتب. وأنا أطلب من كل من يريد أن يقرأ عملي المتواضع الذي سميته “عطب فني خارج عن إرادتنا” أن يقرأ أولا ما قدمته كوثيقة أقصد نص ميربو، وأطلب ممن يقرأ ويتعاطى للمسرح، ويتهم نفسه بالنقد يجب أن يقرأ هذا النص لأنه ليس فيه ما هو غث بل كله سمين. والغث والسمين لأبي حيان التوحيدي..
سي الطيب، هل عثرت على هذين النصين قبل كتابة المسرحية أم بعد كتابة المسرحية؟
بعد أن انتهيت من كتابتها، وكنت أفكر في أن أطلب من بعض الأصدقاء كعبد الله الستوكي أو نجيب الرفايف.. فعثرت على وثيقة تبين لي أنه من الواجب عليّ أن أعرّف الفنانين عليها، أن يعرفوا كيف يعاملون بعضهم البعض؛ لأن المشاكل تنمو كالفطر في وسط الفنانين، ليس في المغرب وحده بل عبر العالم. ولا يمكن أن نتقدم خطوات إذا كان الوسط الفني/ المسرحي تنخره المشاكل، ولا يربط الحب بين الفنانين..
وأنت تكتب هذا الإهداء لهذا النص: “هذه المسرحية مهداة إلى الفنانات والفنانين وإلى تقنيي المسرح الذين أحبهم وسيتعرفون على أنفسهم”..
تلك من المستملحات الصديقية؛ ذلك أن الذين يعرفون أنني أحبهم فأنا أحبهم، ومن يعرفون ذلك فالأمر كذلك.. أنا لا أكره الناس، ولكن هناك من لا أنسجم معهم. الكراهية لا وجود لها في ربوع قلبي. هناك من أحبه وأفضله عن غيره، أولا وقبل كل شيء، تقديرا لما يقدمه للناس. لا أحب أحدا مجانا أو لمصلحة أحب الإنسان المخلص لعمله، لميدانه، ويقدم أحسن ما عنده. وأحتقر، نعم أحتقر من لا يحب ومن يحتقر الفنانين ومن يحتقر المهنة. لقد سمعت، ذات يوم، مخرجا يقول لممثل عند الدخول إلى المسرح وكيف يجب أن يتعامل مع الجمهور: “حَنْزَزْ فِيهُمْ، إِنْعَلْ بُوهُمْ الكلب، أَشْ گَـاعْ غَادِي يِكُونْ هَادْ الجمهور هذا.” هل هذا مخرج؟ هذا مجرم! هذا إنسان يشتم الجمهور الذي يؤدي ثمن التذكرة ليشاهد العرض ويقدم للمخرج بعض قوته.. حتى لا تتأسف، أقول لك إن هذا الشخص ليس مغربيا بل هو مغاربي [ضاحكا]، وهو قد غادر عالمنا هذا..
سي الطيب، صدرت مسرحية “عطب تقني خارج عن إرادتنا” هذه السنة (2001)، ولم يتم عرضها إلى الآن، بينما قرأت ضمن ريبرتوارك أن النص كتب سنة (1995)..
سنقوم بعرضها بعد أيام، أما سنة (1995) فهي إشارة إلى تاريخ أول كتابة لها، وقد أشرت إلى ذلك قبل قليل، ثم تركت النص يختمر فترة معينة.. ثم إن النص ظل ينتظر في ضيافة الناشر الرتناني منذ سنة ونصف السنة، الذي يعاني هو أيضا من مشاكله وهي خارجة عن إرادته، وهذه هي البلاد، ما الذي يجب عمله؟
هل هناك تاريخ محدد، منذ الآن، سيشرع في تقديم المسرحية خلاله؟
سنشرع في تقديمها انطلاقا من فصل الصيف المقبل. ولكن أرغب، الآن، في تصويرها للتلفزيون؛ ذلك أنني أريد أن أقتحم (T V 5) و(Canal Horizons) (Comédie). وطبعا، للتلفزة المغربية الأولوية والأسبقية؛ ولكن يجب كذلك أن نخاطب الآخر بإمكاناته وبوسائله السمعية البصرية. يجب أن ندخل عبر الشاشة الفرنسية إلى البيوت الفرنسية..
[مقاطعا] كما تدخل القنوات الفرنسية إلى بيوتنا..
[مقاطعا] ولما لا؟ شخصيا، لا أعاني أي مركب نقص من هذا الأمر. لقد علمنا الفرنسيون الفرنسية، جازاهم الله خيرا عن ذلك؛ ولكن في مقدورنا كلاما وفكرا نود أن نقوله لهم. وأعلم أنني إذا قلت ذلك المضمون باللغة العربية فهو يحتاج قرونا لكي يصل إليهم. ومن ثم، علي أن أقول لهم ذلك بلغتهم.
سيرة المسرح على ركحه
المسرحية مكتوبة باللغة الفرنسية. ولقد أثرت، قبل قليل، بعض مبررات كتابتها بتلك اللغة (الظروف التي كانت وراء كتابتها، والجمهور الذي كنت ستقدم أمامه مسرحية باللغة الفرنسية)، يبدو أن هناك صعوبة ما قد تعترض محاولة ترجمتها إلى اللغة العربية..
سأحكي لك حقيقة لماذا كتبت هذه المسرحية. قبل قليل، حدثتك عن الارتجال الذي فرض عليّ، فقدم لي الحبكة التي ستدور حولها المسرحية؛ ولكن لماذا كتبت المسرحية؟ لأنني لاحظت أن المسرح، أي كل ما كتب في جنس المسرح: من شكسبير، والإغريق، وكالديرون، ولوبي دي فيجا، وموليير، وكولدوني الإيطالي، وسكاربيطا، والأمريكيين: ميللر وأونيل.. والأفارقة: سوينكا.. اتضح أن المسرح تناول جميع ما يعانيه الإنسان والإنسانية: المسرح تحدث كثيرا عن الحب والكراهية، وتحدث عن الخيانة والوفاء، وتحدث عن الدسيسة والشهامة.. فالمسرح تحدث عن كل ما يعنيه الإنسان ويحسه. خذ مثلا “هاملت” تحدث عن الخيانة والانتقام، “عطيل” تحدث عن الغيرة. دائما هناك موضوع (Thème) يتحدث عنه المسرح؛ ولكن المسرح لم يتكلم عن نفسه، للأسف. وأنا حاولت في هذه المسرحية أن يتحدث المسرح عن نفسه، أن أتحدث عن المسرح، أن يكون بطل المسرحية هو المسرح، أن أكتب عن أشياء يجهلها الجمهور المتعطش والمحب للمسرح. مثلا عندما أتحدث في المسرح عن (Le Trac)، الخفقان وليس الخوف لأن القلب يخفق، وهناك أغنية لعبد الوهاب تقول: “صفق القلب إليه وهفا،” والقلب لا يصفق بل يخفق. الخفقان، Le trac، وقد كتبت صفحتين عن الخفقان، وأنا فخور بهذا المقطع لأنني كتبت عما أعانيه وما يعانيه الممثل المغربي والصيني والهندي والبرازيلي. كل ممثلي العالم يعتبرون عائلة. فأنا لما كنت أقوم بجولات في أقطار غريبة وبعيدة من المغرب كالهند، مثلا، كنت أزور فرق الممثلين وأطرح عليهم أسئلة عن كيف يعيشون، وألاحظ أنهم يعيشون المشاكل ذاتها التي نعيشها. مشاكل الاعتراف، مشاكل بطاقة الاحتراف، مشاكل الأجرة، مشاكل العقود التي يشتغلون بمقتضاها فهي أسلوب معروف للعمل في ميدان المسرح، مشاكل الفنادق خلال الجولات، ثم مشاكل الريبرتوار، النصوص الصالحة للعرض. فأنت تلاحظ أن هذا البرازيلي أو الهندي أو الهولندي يعاني المشاكل ذاتها التي تعانيها أنت أيضا. فنحن مثل الموسيقيين، كأرباب الحرف الأخرى، نشكل عائلة؛ فالعائلة المسرحية، كل أفرادها سواء كانوا هنودا أم هولانديين أم دانماركيين، من عائلتي. ولما كنت أكتب هذه المسرحية كنت أفكر في هذا البعد الدولي (La dimension internationale)، وفي هذا الفضاء الذي هو فضاؤنا جميعا.
خفق القلب إليه وهفا
وهذا واضح في الصفحة (26) حين الحديث عن تلك الفنانة:
“أنا لم أشعر أبدا بالخفقان، قالت شابة مبتدئة لممثل كبير: لوي جوفي كي لا نذكره باسمه.
سترين عندما تصبحين موهوبة”.
ومعناه أن ممثلة مبتدئة كانت جالسة إلى المخرج الكبير لوي جوفي وبعض الممثلين الآخرين. وكان لوي جوفيه يتحدث عن هذا الخفقان الذي يصيب الممثل، قبل أن يدخل إلى المسرح، فيجعله يرتعش ويخاف ليس من الجمهور وحده بل من أن لا يكون في المستوى الذي يطلبه منه الدور. فقد قال لوي جوفيه للممثلين: “لا يمكن أن يكون الممثل ممثلا إذا لم يكن يشعر بخفقان القلب قبل دخول المسرح. فقالت له تلك الممثلة: “أستاذي، أنا لم أعرف أبدا الخفقان! فقال لها: صبرا جميلا، يوم تتمتعين بالموهبة في المسرح تعانين من الخفقان.
بالفعل، سأقرأ عليك هذه الفقرة من دون ترجمة نصها حرفيا، وهي كما ترى في الصفحة (25)، [كان كل منا، الصديقي وأنا، نمسك نسخة من مسرحية “عطب تقني” ونتداول الحديث المسرحي]، لأنك أشرت إلى مضمونها من قبل..
” Cette angoisse se transforme en une appréhension, laquelle appréhension devient crainte, qui devient peur, frayeur, épouvante et enfin panique et effroi.
Tous les comédiens subissent cette chose qu’on appelle le trac.
وما أقوله لك يهمني أنا، وهو الحقيقة عينها. كل واحد منا يعيش خوفه وخفقانه بشكل خاص. وأصادقك القول، إن أجمل لحظة في المسرح، وللأسف الجمهور لا يعرفه، هو الخفقان. عندما ينطفئ الضوء كله، وبالضبط الوقت الذي يشتعل فيه الضوء كله، وهو لا يتجاوز ثانية أو ثانيتين؛ ذلك هو أحسن وأجمل وقت بالنسبة إلى الممثل.
ويبدو أن المسرحية هذه تقدم للقارئ لحظات أو ملامح من سيرة الفنان المسرحي والممثل عامة..
بالطبع، بالطبع..
ثم إن المسرحية تدخل في حوار مع الجمهور أو ما قد يمثل الجمهور. نقرأ في الصفحة (64) إشارة لأحدهم تقول: “كنت تفضل لو أن مثلت هذه المسرحية باللغة العربية.”
ذلك قول ناقد، ثم يقول إني آسف، ويضيف هذا النص يمكن ترجمته.. ولكن..هذه أشياء خاصة باللغة الفرنسية، هي ما يسمى باللغة الفرنسية (Ce sont des francissismes)، وهي لا يمكن ترجمتها إلى اللغة العربية، ولا إلى اللغة الإنجليزية، وهناك عبارات في اللغة العربية ذاتها لا يمكن ترجمتها أيضا، من ذلك مثلا في مسرحية “قيس وليلى” عندما يقول قيس: لا تستبدلي مني دنيا ولا برما إذا حب القتار
(Ne me change pas contre un vil, un eunuque qui n’a d’amour que pour L’odeur de la viande froide)
وعبارة “L’odeur de la viande froide” يقابلها في اللغة العربية القتار. فكلمة القتار لم تنعم بوجود مرادف أو مقابل في اللغة الفرنسية؛ أي رائحة اللحم غير المطبوخ، أي الإنسان الذي لا يمكن أن يتذوق طعاما شهيا هيأه طاهي محنك..
والإمكانات تكشف الادعاء..
قبل قليل، أشرت إلى أن المسرح هو بطل هذه المسرحية..
[مقاطعا] تماما..
[مقاطعا ومستأنفا الحديث] وهذا نوع من التجديد حفلت به بعض مسرحياتك ودشنته مسرحية “حفل عشاء” (Le dîner de Gala) ومسرح البساط أيضا، وقد يعود الأمر إلى أزمة المسرح، وهو أمر تعيه أنت بدقة. ومن ثم، يجب وضع عبارة “أزمة” بين قوسين، لأنها لا تهمنا في هذا السياق؛ ولكن لا بد من وضع كلمة للتعبير عن معنى أو عن قضية..
[مقاطعا] من فضلك، أوقفك هنا لأدلي برأيي. فالحديث عن “أزمة المسرح” يفرض أن أوضح أمورا.. فأنا دائما كنت أقول وأردد، ليس هناك أزمة نص أو أزمة مسرح. الأزمة هي أزمة الخيال والمخيلة. ونعبر عن ذلك في اللغة الفرنسية بقولنا: “Il y a une crise d’imagination” كيف ذلك؟ هذا هو المشكل، والأمر لا يتعلق بالمسرح وحده بل يتعداه إلى الرواية والصحافة.. شوف، هناك مخرج صديق لا يخرج أفلاما جيدة بل أفلاما متواضعة، ذات يوم، قال لي: لو أعطوني دعما كبيرا لأنجزت فيلما كبيرا
قلت له: بصراحة، إنك تنجز، أحيانا، بعض الأفلام الخايبة، ولو أعطوك فلوس بزاف لأنجزت أفلاما خايبة بزاف..
لأن الفلوس يمكن أن تشتري بها كاميرات وآلات متطورة، وتنجز ديكورا رائعا، ولكن الإبداع والخيال لا ثمن له، ولا يمكن شراؤه. والخيال نعمة، إما أن يكون متوفرا وينعم به، أو هو غير موجود.. ويستحيل شراؤه.. وبالرغم من أنني لا أحب أن أوظف الأمثال في حديثي الخاص؛ ولكنني أوظف واحدا الآن: “فاقد الشيء لا يعطيه” لأن زوجتي، لالة أمينة، تبتسم وهي تشجعني [مبتسما].. (وكانت السيدة أمينة قد ولجت الغرفة التي كنا نتحاور بداخلها، والطيب مستلق بفراشه، وكان الليل يتقدم بخطى وئيدة نحو الفجر..)
وإذا المسارح سُئلت..
وعلى ذكر لالة أمينة، لم تشر سي الطيب إلى الشخصيات التي قد تمثل أو تؤدي الدور/ الأدوار؟
هذه المسرحية تحتاج شخصا واحدا، وممثلوها هم تقنيو المسرح: أصحاب الإنارة وغيرهم. ستشاهد هذه المسرحية في أوانها، وسنستقبلك بما تستحقه من اهتمام ومن صداقة..
لقد أثارتني قضية منح المسرح دور البطولة في هذه المسرحية..
[مقاطعا] ويجب أن تثير انتباهك..
[مقاطعا] ونلمس إلحاحك على فكرة موت المسرح منذ “حفل عشاء”..
[مقاطعا] تقريبا..(صمت) بل أنت على حق، فهي تعتمد الشكل الذي كتبت به مسرحية “Le dîner de Gala”، لأن هذا إنسان، ولماذا اخترت أن يكون وحيدا في المسرح؟ لأن الليلة ليلة هدم المسرح، وهذا الشخص اختار أن يعيش تلك الليلة وحيدا في مسرحه لأنه مدير ذلك المسرح. وقد رافقته تلك الليلة أشباح المسرح، وهي يمكن أن تخرج من بين جدران المسرح ومن فوق الخشبة ومن تحت الخشبة ومن (Les paniers) الصناديق التي يضعون بها ملابس المسرحية. كل شيء يتحول، في هذه المسرحية، شبحا؛ وذلك لأن الممثلين وهم يتوجهون نحو المسرح ويعرفون أنه مقبل على الهدم يشعرون شعورا خاصا، لأنهم على أبواب مغادرة مكان ألفوه وعاشوا فيه جزءا من عمرهم حتى أصبح قطعة منهم ومن وجودهم. فهم يغادرون وقلوبهم في حالة يرثى لها، ولذلك بقي الرجل وحيدا. ما أقسى أن يبقى الإنسان وحيدا..
نظير تلك اللقطة المدهشة لشارلي شابلن في نهاية فيلمه “السيرك”، وهي لقطة مضمخة بكل المشاعر المتضاربة؛ من حزن وغبن وحنين وأسف عميق…
تماما.. ولذلك، ختم بها المعلم والفنان شارلي فيلمه.. بقاء الإنسان وحيدا مشهد عميق الأثر.. لذلك، تحدثت عن الوحدانية؛ (La solitude de L’artiste)، بقي وحيدا أمام الواقع. إن هدم المسرح هو هدم سياسي (Politique) أولا؛ لأن العائلة الفنية المغربية، والمسرحية بالخصوص، الفقيرة أصبحت بعد هدم هذا المسرح أفقر مما كانت عليه. وهذا عار ووصمة عار. وفي الحقيقة، سأقول لك إنه كان يجب علينا أن نهدم هذا المسرح؛ ولكن كان يجب أن نبنيه من جديد، لأن هذا المسرح شيد بطريقة مؤقتة ليعيش ويشتغل ثلاث سنوات، ولكنه عاش قرابة ستين سنة، أو سبع وخمسين سنة. ولا بد أنه كان يعاني كل أمراض الشيخوخة.. وأنا كنت مديرا له ثلاث عشرة سنة، وكنت أعرف أن ذلك المسرح كان خطيرا جدا، وكان هشا قد تقضي عليه النار، “وْقِيدَة” واحدة لو اشتعلت في هذا المسرح فسيكون الشبان ضحية لها. الشبان الذين يتوافدون عليه لحضور عروض (Les matinées) الصباحات ألف ومائتي طالب وشاب، وكنت دائم الخوف ولا أحس بالراحة إلا لحظة انتهاء المسرحية ومغادرة المتفرجين للقاعة.
هدم المسرح كان واجبا لأنه كان هشا، أكل عليه الدهر وشرب، إذ كان شبيها بـ”ِبَرَّاكَة”، عندما يهطل المطر يصبح غير قابل لاحتضان فرقة للتمثيل.. ولكن كان من الواجب أن نبني مسرحا آخر. وقد اقترحت عليهم أن يهدموه قبل أن أغادر المسرح، واقترحت أن نكتري قاعة سينما فوكس؛ لكنهم هدموا تلك القاعة ذاتها [ضاحكا]، وهي معلمة من معالم الدار البيضاء.
وبين قوسين أقول لك إنني منكب هذه الأيام على كتابة رواية موضوعها الدار البيضاء، هل تعلم أن سبعا وعشرين قاعة سينمائية هدمت في الدار البيضاء؟ ألا نشتم رائحة العار من وراء هذا الفعل؟ تاريخ السينما في الدار البيضاء، المدينة التي كانت من أقوى مدن دول العالم الثالث، بل من أقوى مدن بلدان دول العالم المسمى بالمتطور.. دُور السينما بهذه المدينة كانت تحفا؛ لكن والحمد لله، الآن، هناك عملية بناء أربع عشرة قاعة سينمائية غير بعيد عن المنطقة التي أسكن بها، عين الدياب، وقد يكون في ذلك نوع من الانتقام من عمل المجرمين: الباهيا، الشاوية، اللوبيرا.. والبقية يتكفل سلمات بتعدادها: [ويتدخل سلمات الذي أتى قبل نصف ساعة وظل يتابع حوارنا لمتابعة تعداد القاعات السينمائية التي أُعدمت واقفة..]
الأبولو، الريجون، الريو، سينما المغرب اللي مشات، الباهية.. وزيد وزيد.. أمبريا، سينما مدينا، ريجون.. ونتمنى أن يبقى سيرفانتس حيا بطنجة..
[الصديقي] وهل لم نشتغل بمسرح سيرفانتس؟ هناك السي العلمي، هل تعرفه؟ (نعم أعرفه) لِمَ يصبح حال مسرح سيرفانتس على ما هو عليه؟ ماشي حشوما؟ طنجة التي كانت دولية؟ معلمة من المعالم الكبرى. لو اقترحوا على أصحاب الأبناك أن يصلحوا شأنه لفعلوا…
والارتجال إبداع إذا..
نعود السي الطيب إلى قضية كون المسرح هو الشخصية الرئيسة، كما هو الأمر أيضا في مسرحيتك “حفل عشاء”، وهي مسألة طرحت قضية الارتجال في المسرح، كقضية فنية، نقرأ في الصفحة (65) ما يعاد ذكره مرات عبر صفحات المسرحية: “أنا أؤدي عرضا..
Dans le show biz, on improvise C’est pour chercher une rime qui est drôle.
هنا نبحث عن قافية غريبة،
- C’est un petit jeu de mot dont j’ai honte d’ailleurs,
هذا اللعب ضعيف..
هنا، نحس بهيمنة الممثل الذي استطاع أن يشد الجمهور، وأن يختلق موضوع، فرجة..
اسمح لي، هذا المقطع الذي تتحدث عنه هو كأنه ندوة صحافية، كأنه جلسة مع صحافيين مهتمين بالمسرح. وأنت تعرف الأمر، هناك صحافيون محترمون، حرفيون، أذكر منهم إدريس الخوري، بلعيد بويميد، نجيب الرفايف، عبد الله شتوكي، وحتى في الليبراسيون، البهجاجي، هؤلاء أناس يعرفون المسرح، ويكتبون عنه.. وهناك المتطفلون عن المسرح، وهناك متطفلون يكتبون عن أشياء يجهلونها. ولا أقول إن المسرح وحده ضحية هذا الأمر، بل حتى في مجال الاقتصاد هناك من يتحدثون عن الأبناك ولا علاقة لهم بالأبناك، ولا علاقة لهم بالاستثمار ولا علاقة لهم بكل هذا القطاع المهم، ويتكلمون.. هؤلاء الناس، كما نقول “جبهة”.. جبهة، يقول: اهدر وأنت على حق.. مجتمعنا، يعاني كثيرا من مثل هؤلاء..
هل يبدو لك، سي الطيب، أن المسرحية تقدم نفحة مما يتعارف عليه بالمرتجلة، وأنت مارست هذا الأمر، في تقديم مسرحية، وهو ما نتج عنه كتابة هذه المسرحية..
أنا لست مع هذا الأمر؛ ولكنني أحترم من يستطيع أن يرتجل. إذا كان ممثلا، يجب أن يتحلى، كذلك، بمزايا القدرة على الكتابة وعلى الخيال، كما قلت لك. هذا، في استطاعته لما يرتجل، ليس كما نرى ذلك “التْخَرْبِيقْ” في التلفزيونات وغيرها، يرتجل لكي يضيف، يطور النص. أقص عليك نكتة حدثت لكاتب مع ممثل فرنسي. رأى المؤلف ممثلا، يُضحك الناس في الحياة اليومية، أثناء تناول الطعام.. وغير ذلك من الأوقات.. فقال له المؤلف: ما دمت تضحك الناس بهذا الشكل فلماذا لا تضحكهم في مسرحياتي؟ فقال الممثل لأن النص الذي أقوله لهم نصي وليس نصك أنت. Le texte est de moi، هل فهمت؟ هناك الممثل الذي يمتلك القدرة على الارتجال، مثلا حسن الفد يحسن الارتجال. لماذا؟ لأن الأمر موهبة والسلام، ولأنه يشتغل. أعرفه جيدا وهو معنا في “مسرح موغادور”… في استطاعته أن يرتجل لأنه ليس ممثلا فقط، بل هو ممثل وإيمائي وموسيقي وفنان تشكيلي.. هذه المزايا كلها تجعل من الإنسان إنسانا قادرا على ذلك، كما يقول المغاربة: “عَنْدُو ما يقول”. وليس متطفلا، يقحم نفسه ويُخَرْبِقْ.
من خلال بعض الإشارات، في هذه المسرحية، نقدم المسرح على أنه يربي..
[مقاطعا وضاحكا] أنا لا أحب هذه الكلمة؛ ولكن أتمم كلامك..
هناك، هذه العبارة، وهي تتكرر. في الصفحة: (48) المسرح يعلمنا أن ننظر إلى الحقيقة ولو أن الجملة تحتضن تلاعبا بالكلمات:
Le théâtre nous nous apprend à regarder la vérité en farce
- Au lieu de dire en face on a dit en farce
و”الفَارْسْ” هي الكوميديا المبالغ فيها..
هل بقيت قضية خاصة بمسرحية “عطب فني خارج عن إرادتنا” لم نعرض لها..
فقط أسي عبد العزيز كل ما أريد أن أقوله، بما أنني تفرغت منذ ثلاث سنوات، لإصدار ما كتبته وما أكتبه.. وأنني مع صديقي في توبقال سيصدر لي كتابا عن مسرح الناس. كتاب اسمه “عن ظهر قلب”. لأنك كما تعرف الممثل يجب أن يحفظ النص عن ظهر قلب. كلمة Par coeur، وهذه الكلمة عزيزة علي لأنها تشتمل على القلب لأن المسرح بدون قلب لا يمكن أن يكون مسرحا. هذه هي الأولى. ثانيا، أنا أفتخر ببعض الأصدقاء لأنهم يشجعونني؛ منهم محمد برادة، مدير “سابريس”، لأنه سيصدر لي “مسرح الناس والصحافة”، كتاب باللغة الفرنسية، وكتاب آخر “مسرح الناس واللغة العربية”، ثم إنني أحيي ولا أزال من كان ينشر لي باللغة العربية وهو محمد البوكيلي بالقنيطرة وهذا مهم ليس لأن الطيب الصديقي هو الذي كتبه بل لأن العرب بصفة عامة والمغاربة بصفة خاصة لا يعيرون الاهتمام لما أسميه بالذاكرة. فالذاكرة تتلاشى. أليس عيبا أن لا نتوفر، في المغرب إلى حد الآن، على درس واحد في التلفزيون ألقاه سي علال الفاسي. أليس عيبا؟ هنا أتساءل، السي علال الفاسي أعطى الكثير، الكثير للمغرب، هو من الوطنيين الكبار. لا نتوفر على درس واحد للسيد علال الفاسي، حتى الذين بلغوا الآن عشرين سنة لا يعرفون علالا الفاسي. أليس عيبا؟ لأننا لا نشتغل، ولأننا نحتقر الذاكرة، “لاَ مِيمْوَارْ”، وأنا أحاول أن أحتفظ ببعضها.. وفي النهاية، أقول إنني مستعد الآن أن أنشئ متحفا خاصا بالمسرح المغربي. عندي ما يقرب من (700000) وثيقة، عندي مناظر، عندي ملابس، عندي كل ما يتعلق بالمسرح، عندي إحياء البساط كله. أعدت إحياءه كما شاهدته على بعض الصور، مع مطلع القرن العشرين، عندي صور تعود إلى (1908) أحييت كل ذلك؛ لكن من يساعدني؟ أنا لا أطلب الفلوس، أريد إنشاء متحف خاص بالمسرح المغربي بصفة عامة. أوجه هذا النداء إلى من يهمه الأمر. والله المعين يا حبيبي يا سي عبد العزيز، يا سي جدير..
النداء أرسل، وسيصل إن شاء الله.