يواصل المركز الدولي لدراسات الفرجة، وبخطى ثابتة غير متسرعة، مشروعه البحثي الرصين في حقل دراسات الفرجة وفنون الأداء، مثيرا، في كل دورة من ندوته الدولية “طنجة المشهدية”، أسئلته الخاصة والجديدة، أسئلة نابعة عن هاجس المعرفة الذي سكن أعضاء هذا المركز، تتم إثازتها في جلسات الندوة العلمية بطنجة، ليتردد صداها في مختلف الهيئات والمؤسسات التي تُعنى بهذا الحقل المعرفي، مغاربيا وعربيا. ذلك أن الأسئلة التي يطرحها هذا المركز للنقاش، لم تصدر عن تفكير مختص في المسرح وفنون الأداء فقط، وإنما عن تفكير مهتم أساسا بالدراسات المسرحية والفرجوية، ومنفتح على الحقول المعرفية الأخرى من قبيل الفلسفة، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والإيثنوـ موسيقا، وغير ذلك من علوم..
على مدى أربعة عشر سنة، لم يكتفي المركز الدولي لدراسات الفرجة، بتنظيم ندوته الدولية في إطار مهرجان طنجة المشهدية فقط، بل فضل التورط أكثر في البحث العلمي بكل أسسه ومكوناته، حيث أصدر إلى حدود الآن ما يزيد عن خمسين كتابا خاصا بالدراسات المسرحية وفنون الفرجة، متوجا إصداراته هذه، بمجلة علمية محكمة اختار لها اسم “دراسات الفرجة”.
وطوال هذا المدى، أثار المركز خلال ندواته الدولية الثلاثة عشرة أسئلة مهمة لا زالت تثير اهتمام الباحثين لحد الآن، من قبيل: “الدراماتورجيا البديلة”، “الفرجة والمجال العاموم أو الأشكال المسرحية الخاصة بالموقع”، “مسرحة الأرشيف: المسرح والذاكرة”، “المنعطف السردي في المسرح: عودة فنون الحكي”، “الأشكال المسرحية المهاجرة”..، وغير من مواضيع أغنت الخزانة المسرحية العربية بدراسات وأبحاث، كان الفضل في إثارتها للتفاعل المنتج بين المركز الدولي لدراسات الفرجة، وباحثين أكادميين دوليين من مختلف دول العالم من قبيل حسن المنيعي، إيريكا فيشتر ليشه، كريستل فايلر، مارفن كارسلن، هومي بابا، حازم عزمي، وآخرون..
- عبر الحدود: المسرح وقضايا الهجرة
في محاولة لمواصلة النقاش المتعلق بأسئلة تناسج ثقافات الفرجة على وجه الخصوص، واجتراح أسئلة جديدة متعلقة بفنون الفرجة عموماً. ويأتي اقتراح هذا الموضوع للنقاش، تكملة لمحور نقاش الدورة الماضية، والذي تعلق بـ”الأشكال المسرحية المهاجرة” بهدف تعميق النقاش من جهة، ومن جهة أخرى سعيا إلى اكتشاف خطابات ومواقف جديدة، تنادي بإيجاد خطاب ومعجم يكشف عن حقيقة التفاعلات المربكة للمسرح وقضايا الهجرة، ومن ثم إعادة مساءلة مختلف العلاقات التي ربطت بين المسرح العربي ،نظيره الغربي، وأيضا البحث عن معجم أو مصطلحات جديدة تقر بضرورة إعادة إلقاء نظرة كارتوغرافية على التوزيع والانتشار الجغرافي الثقافي حول العالم؛ حيث تتم مقاربة الإبداعات المسرحية الإنسانية بما فيها المغاربية والعربية من خلال واقع انتقال الخبرة والمعرفة وإعادة توزيعهما عبر المعمور من خلال تبادل الأشكال الإبداعية واقتراضها وتداولها من طرف الثقافات والحضارات بمختلف تلاوينها.
وعلى ضوء هذه النقاشات والتأملات النظرية، اجتمع باحثون وخبراء من مختلف أنحاء العالم حول طاولة النقاش، لعرض أفكارهم وتأملاتهم حول مجموعة من الإشكاليات المختلفة التي تعلقت في مجملها بالأسئلة الآتية: كيف تحافظ الهجرة على قيمتها بوصفها أفقا للإبداع؟ وما القيمة المضافة التي يجتهد في سبيلها مغتربونا بمن فيهم مغاربة العالم من الفنانين لإضافتها على المسرح وفنون الأداء المعاصرين؟ وما أوجه المقارنة بين إبداعات الجيل الأول من المهاجرين ومنجز الأجيال اللاحقة؟
- المسارح فضاءات بينية للاحتكاك الثقافي
خلصت أشغال الندوة العلمية التي تجاوزت خمسة عشرة جلسة، من بينها محاضرات افتتاحية لباحثين وخبراء دوليين، إلى أن المسارح تُعدُّ ملتقيات طرق لثقافات العالم المتعددة، ونقاط التقاء تلعب فيها الحركية والترجمة أدوارا هامة في تناسج ثقافات الفرجة وفي التبيئة الثقافية؛ ذلك أن المسارح فضاءات بينية للاحتكاك الثقافي، تسهم في بروزها كل من الأمكنة التي تلتقي فيها الثقافات المهاجرة.
وحسب خالد أمين رئيس المركز الدولي لدراسات الفرجة، فإن “هجرة الجيل الأول من المسرحيين العرب إلى الغرب حاملا مسرحه؛ وهو الأمر الذي مكن من تحقيق تداخل ثقافي بين أساليب فرجوية تنتمي إلى الوطن الأم وبلد المهجر، إذ تفاعلت الخصوصية الثقافية مع الثقافات الفنية الأخرى. وبذلك أسس هذا الجيل شراكة إبداعية بين الثقافات، وبلور علاقة الذات بالآخر من خلال الجسد المسرحي. وهنا لم تعد الهوية رهينة موروث ثقافي جامد وثابت، بل حصيلة سيرورة وانبناء دون فقدان السمات المميزة للثقافة الخاصة”. ومع تعاقب الأجيال في المنافي، ظهر جيل جديد من الفنانين من خلفيات ما بعد الهجرة في مجال المسرح وفنون الأداء، ـ-يضيف خالد أمين ـ “هذا الجيل الذي ينتج فنا عابرا للحدود ويعيش في فضاء «بيني»: منطقة اتصال يصبح التبعثر فيها تجمعًا؛ فمسارح أبناء وأحفاد المهاجرين هي انعكاس لهويات هاربة تروم تأزيم مفاهيم من قبيل: الوطن الأم، اللغة الأم، الثقافة الأم… إذ يقوم فنّانو المهجر بإعادة كتابة جدلية «نحن» و«هم». وقد أصبح هؤلاء الفنانون (أمثال سيدي العربي الشرقاوي، كريم تروسي، إيميلي جاسر، يونس عتبان…) ليس فقط أكثر تأثيرا في البنى الثقافية لدول المهجر كفرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا وأمريكا، بل أيضا أكثر حضورا في مهرجانات وملتقيات المدن الكبرى مثل: باريس، وبروكسل، وأمستردام، وبرلين ما بعد الجدار”…
- تكريم ألماني مغربي
تميزت فعاليات حفل الافتتاح بتكريم البروفيسورا الألمانية غابرييل براندشتيتر أستاذة الدراسات المسرحية والرقص بالجامعة الحرة ببرلين والمديرة المساعدة للمعهد الدولي لتناسج ثقافات العرض، لإسهامتها العديدة، تنظيرا وتطبيقا، في حقل الدراسات المسرحية، وبشكل خاص، في المسرح المعاصر وفن الرقص، والمسرح وأسئلة النوع، إضافة إلى كتاباتها وأبحاثها العلمية حول الجسد والحركة في فنون العرض.
وعن الجانب العربي احتفت الدورة الرابعة عشرة من طنجة المشهدية بالمؤلف والمخرج المسرحي الحسين الشعبي، لإسهامته المتنوعة في المشهد المسرحي المغربي، تأليفا، إخراجا وإنتاجا على مدى أربعة عقود من الزمن، كان محصلتها ما يناهز ثلاثين عملا مسرحيا، إضافة إلى متابعات وكتابات نقدية (من موقعه كصحافي) صدرت له في عدد من الصحف والمجلات والكتب الجماعية.
- الإعلان عن مشروع بيت الفرجة
وقع المركز خلال حفل افتتاح الدورة اتفاقية شراكة مع المديرية الجهوية لوزارة الشباب والرياضة بجهة طنجة تطوان الحسيمة، حول مشروع “بيت الفرجة” الذي يروم من خلاله المركز إحداث فضاء متعدد الاختصاصات، يتيح للباحثين والفنانين في المسرح وفنون الأداء إمكانية للتواصل والحوار في فضاء خاص بالبحث والتكوين المسرحيين. وقد وقع الاتفاقية عن المركز الدولي لدراسات الفرجة رئيسه الدكتور خالد أمين، وعن المديرية الجهوية لوزارة الشباب، المدير الجهوي السيد عبد الواحد اعزيبو.
كما تم التوقيع في الوقت نفسه، على اتفقاية شراكة أخرى بين الجهتين، وتتعلق بمشروع “نقرة الحمامة” الذي أطلقه المركز قبل ثلاث سنوات. وهو مشروع يهدف إلى نبذ العنف في الوسط المسرحي من خلال المسرح وفنون الأداء، ومن ثم المساهمة في تأطير الناشئة فنيا، وكذا تربيتهم على قيم حقوق الإنسان المدنية والاجتماعية.
- لقاء مفتوح مع الزبير بن بوشتى
صبيحة يوم الاختتام، وبعد الجلسة الختامية من الندوة التي عُقدت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، كان للباحثين والأكادميين موعد مع المولف المسرحي المغربي الزبير بن بوشتى في لقاء مفتوح حول تجربته في الكتابة للمسرح، وحول هجرة نصوصه من لغة إلى أخرى، وقد تم اختيار الزبير بن بوشتى هذه لما حققته نصوصه المسرحية من انتشار وإشعاع واسعين على المستوى العربي والأوروبي أيضا. حيث ركز اللقاء الذي شارك فيه كل من الدكتورين خالد أمين وSophie Proust ، حول هجرة النصوص عبر اللغات من ثقافة إلى أخرى.
وحول هذه الهجرة، هجرة النص المسرحي من لغة إلى أخرى، يرى الزبير بن بوشتى أن اللغة وحدها غير كافية لنقل نص مسرحي من ثقافة إلى أخرى ما لم يكن المُترجم متمكنا تمكنا تاما من لغة النص الأصلي واللغة المترجم إليها، وأهم من ذلك أن يكون مُلمّا ومتشبعا بالخلفيات التاريخية والسوسيواجتماعية، وكذا ما تحمله اللغة من مشاعر وأحسيس لكلا الثقافتين. بمعنى آخر أن الترجمة بقدر ما تقتضي التمكن من لغة النص الأم إلى لغة أخرى، فٌنها تقتضي التمكن من ثقافة اللغتين تمكنا تاما..
وقد عرف اللقاء تفاعلا مع ضيوف المهرجان من جهة، ومع الطلبة الباحثين من جهة أخرى لأهمية موضوع الترجمة الأدبية وإشكالياتها من جهة، ومن جهة أخرى لكون أعمال الزبير بن بوشتى تُرجمت إلى أربعة خمسة أساسية، وهي الأمازيغية، الفرنسية، الإسبانية، الإيطالية والإنجليزية.
- عرض هكذا تحدث جلجاميش لمختبر لاليش من فيينا يسدل ستار الدورة الرابعة عشر
أسدلت “طنجة المشهدية” الستار على دورتها الرابعة عشرة بعرض “هكذا تحدث جلجامش” لمختبر لاليش من فيينا، لمخرجيه الكرديين شمال أمين ونكار حسيب من فيينا، الذين قدما عرضا تجريبيا-تم إنجازه مع ممثلين من مختلف المدن المغربية، في محاولة اكتشاف التحول الذي يمارسه الكائن الحي الفاعل في الفضاءات بوصفه فعلا إراديا من أجل إيجاد أقصى مستوى للطاقة، ومن ثم الوصول، عبر ”الكيفية“ إلى ”النوعية” بغية التخلص من كل شي للوصول إلى الإنسان الكامل. وعلى الرغم من أن العرض اعتمد على الصوت الخام وقليل من الحركة، وأن الخطاب كان نادرا وباللغة الكردية القديمة أحيانا، والسومرية العريقة في الغالب، إلا أنهم استطاعوا أن يأسروا متتبعي العرض طوال المدة الزمنية التي خصصت له.
خلال حفل اختتام المهرجان، وفي سياق التحولات التي يعرفها المغرب، وعلاقة بمحور نقاش الدورة المتمثل في “عبر الحدود: المسرح وقضايا الهجرة”، تم عرض شريط وثائقي من إعداد سينمائي مغربي من الهواة، قضى خمسين سنة في بلاد المهجر متنقلا بين فرنسا وألمانيا، ويحكي هذا الفيلم قصة طفل سينغالي، غادر حدود وطنه بشكل غير قانوني ليجد نفسه من غير وطن، ومن ثم تبدأ معه الرحلة الصعبة بعدما وجد نفسه شابا يافعا، وتتمثل في البحث عن الانتماء وصعوبة مناله لسبب أو آخر، ما يدفعه دائما للتربص بالحدود في محاولات مستمرة لعبورها مجددا…
أحمد فرج الروماني