استأنفت فعاليات الندوة الدولية “فرجات الشارع والأمكتة الأخرى” جلستها العلمية الثانية صبيحة يوم السبت 28 نونبر الجاري برئاسة الدكتور سعيد كريمي، ومشاركة كل من الدكتور عبد الكريم خنجر من العراق، والدكتور بشار عليوي، والفنان والناقد كريم لفحل الشرقاوي، والدكتور عبد الرحمان بن إبراهيم. من المغرب.
في مداخلته، تناول عبد الكريم خنجر موضوع “المختلف في أداء الممثل في مسرح الشارع” مستندا إلى التطورات التي عرفها المسرح منذ نشأته، وبشكل خاص على مستوى الخطاب المسرحي، لاسيما في نواحي الشكل والمضمون، معرجا على المختلف في الأشكال المسرحية المعاصرة، وتحديدا، مسرح الشارع الذي أخذ يسارع بتأسيس خطاب خاص له كتعبر فني.
وتميزت عروض (مسرح الشارع) بتأسيس مفاهيم جديدة في الأداء والموضوع معتمدة على النظريات الخاصة التي تأسس وفقها المسرح، مشيرا إلى أن الخطاب في مسرح الشارع يختلف عن الخطاب مسرح العلبة، لاسيما من ناحية أداء الممثل ومكان أدائه، وأنه من هذا التداخل والاختلاف تأتي أهمية الوقوف عند المختلف في أداء الممثل في مسرح الشارع، والكشف عن خصائص الأدائية المختلفة عن مسرح العلبة التي استطاعت –من خلال أدائيتها- أن ترسم لها شكلا جديداً في الأداء والتي استفاد منها الدارسون لفن التمثيل، خاصة في مسرح الشارع؛ فضلا عن إسهامه برفد الدراسات النظرية في حقول فن التمثيل.
عن جانبه، وقف الدكتور بشار عليوي عند مفهوم مسرح الشارع ووظيفته، مشيرا إلى أن هذا النوع المسرحي لهُ القدرة على مد جسور التواصل والتفاعل بينهُ وبين الجمهور؛ وبالتالي يستطيع أن يخلق مسرحاً دافئاً بوصفهِ مُعبراً عن قوة العلاقة التي تربط بين المُمثل والمُتفرج حيثُ يُمكن أن يتكون من ممثل مسرحي واحد ومُتفرج واحد في مساحة محدودة جداً، حيث يستطيع الممثل المسرحي أن يؤثر بشكل كبير في المتفرجين من خلال إندماجهِ ولعبه معهم ومن ثم قيادتهم في الرحلات وخلق عنصر المُفاجأة من قبلهِ حينما يظهر في أماكن غير مُتوقعة.
وتشتمل عروض مسرح الشارع – حسب عليوي – على المشاركة الجماهيرية من خلال إشتراك الجمهور في الإستجابة الشفهية لما يطرحهُ العرض من قضايا بشكل أو بآخر، رُغمَ أن نوعية هذا الجمهور تختلف تبعاً لمكان العرض ووقت تقديمه وهذا ما يؤثر بشكل واضح على مدى استجابتهم لما يطرحهُ، فالجمهور الذي يتجمع وقت الغذاء يختلف عن ذاك المُتجمع فترة الظهيرة لأنهُ لا يمتلك نفس القدر من الوقت للمُشاهدة فضلاً عن الفوارق الثقافية الموجودة لدى أفراد هذا الجمهور والتي تلعب دوراً في هذهِ الإستجابة , التي تؤدي الى التفاعل الواضح بين المُتفرج وعُروض مسرح الشارع بوصفها تُمثل المسرح البديل القادر على تحقيق تأثير في الجمهور الذي ينتمي الى شرائح المجتمع بوصفهِ يُمثل جمهور شارع مُتجمع عشوائياً حيثُ ان مجرد الرغبة في تطوير فن يناسب العصر وفي غيبة أي دافع اخر تكفي لان تدفع بمسرحنا وهو مسرح عصر العلم الى الضواحي والشوارع حيث يفتح ذراعيه للجميع ويصبح في متناول أولئك الذين يعيشون على القليل وينتجون الكثير، فالذهاب الى الجمهور هو ما يُميز عروض مسرح الشارع عن العروض التي تُقدم داخل المسرح المُغلق بوصفهِ يهدف الى التقرب منهُ، من خلال تقديم تلك العروض في المقاهي أو الذهاب الى القُرى وأماكن العمل من أجل التحام أكثر بالناس وتفعيل روابط التعايش والتواصل معهم والتعرف على مشاكلهم .
الكاتب المسرحي والناقد كريم لفحل الشرقاوي تناول في مداخلته “المسرح المجالي والأمكنة الأخرى” معتبرا أن المسرح المسرح منذ ليل الأزمنة القديمة ملتحما بمجاله العام.. منتجا لأفضيته الخلاقة .. ناحتا لأمكنته المادية والرمزية والمتخيلة … فمن الشعائر الطوطمية العشائرية إلى طقوس المعابد الدينية.. ومن الساحات الاحتفالية الفرجوية إلى الكنائس والكاتدرائيات اللاهوتية.. ومن العربات و الفرق الجوالة إلى الأشكال الهندسية المعمارية المغلقة.. لتتطقسن الفرجة المسرحية في كل الأمكنة الممكنة.. المخملية والهامشية.. المغلقة والمكشوفة.. المنكفئة والمفتوحة.. الثابتة و المتحولة.. القارة والجوالة.. الواقعية والافتراضية.. الرمزية والمتخيلة.. لهذا -يضيف الشرقاوي- يمكن اعتبار المسرح حقلا عموميا وبائيا بامتياز يقوم بأسلبة الأمكنة ليضفي عليها خصوصيته الفرجوية بالفعل وبالقوة .
أما الدكتور عبد الرحمان بن إبراهيم، فقد طرح في مستهل مداخلته سؤالا إشكاليا: إلى أي حد يجوز الحديث عن جدلية الفرجة والمسرح؟ مشيرا إلى أنه بطرح هذا السؤال الإشكالي على أساس ارتباط كل منهما بالآخر. معتبرا أنه لا يمكن الإقرار بالفعالية الإبداعية في المسرح من دون أن تتمثل في فعل الفرجة، كما أن ماهية الفرجة لا تتحقق سوى من خلال تعبيراتها الأدائية التي تمثل رهاناً معرفياً، ومنطلقاً للفكر النقدي. وهو ما تؤكده النظريات النقدية التي اتخذت من الفرجة أفقاً للتنظير للمسرح باعتباره “فعلا ركحياً”، وأسست لمقاربات تأخذ في الاعتبار شعريات ما بعد الدراما التي ساهمت في ترسيخ قيم المسرح الحديث، وأتاحت الإقرار بـ”مسرح الأداء”. إن الفرجة باعتبارها مجالاً مفتوحاً لبلورة تصورات معرفية ونشاطات اقتراحية تروم تعميق البحث المسرحي بالحفر الأركيولوجي في الأشكال الفرجوية التي ترتكز أساساً على الارتجال والصدفة والاثارة، ويتحول فيها الممثل بجسده إلى إنجاز حركي وفعل فرجوي وعلامة أنثروبولوجية يتحطم فيها الإيهام البصري، ويتحقق التفاعل المباشر والتلقائي بين الممثل والمتفرج في الفضاءات المفتوحة، التي تتيح للجمهور هامشاً أكبر في التفكير والتعبير.
الدكتور سعيد كريمي، تطرق في مداخلته إلى أدائية الجمهور في مسرح الشارع: من الفضولية التلقائية إلى المشاركة الفعلية مستهلا حديثه بعلاقة المسرح بالجمهور، واصفا إياها بعلاقة مركبة، وغير بريئة، ولها ارتباط وثيق بمختلف السياقات التاريخية، والفكرية، والدينية، والأيديولوجية… ذلك أن ولادة ونشأة المسرح، ارتبطت في أثينا بالجمهور الذي طالما شكل حكما، وسلطة نقدية لا يمكن تجاوزها، كما أن الفضاء المفتوح الذي كانت تعرض فيه الأعمال المسرحية الخالدة، ينم عن تشبع اليونانيين بمنسوب كبير من الحرية، والديمقراطية. بيد أن العقلية الظلامية للقساوسة والرهبان، وتحالفهم مع الإقطاعيين والملكيات المطلقة، أقحم المسرح داخل الكنائس، وتم تنميطه والاجهاز عليه، وابتعد بذلك عن الاهتمامات الحقيقية للجماهير… وبفضل فلسفة الأنوار، ودخول الغرب إلى الحداثة من بابها الواسع، تصالح الجمهور مرة أخرى مع أب الفنون، إلا أنه صار يقام داخل القاعات الإيطالية، والأوبرات…ونتيجة تسارع التقدم العلمي والتكنولوجي، بدأت مجموعة من الفنون تنافس المسرح، وعلى رأسها السينما، والتلفزيون، ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي التي هيمنت بشكل مطلق في الألفية الثالثة. وعليه، – يضيف كريمي- فقد صار لزاما على المسرحيين التفكير في سبل جديدة لاستعادة التواصل المباشر والحميمي مع الجمهور، فأضحى مسرح الشارع أحد أهم هذه الإجابات. وهذا لا يعني أن هذا النمط الفرجوي لم يولد إلا في الفترة الزمنية الحالية، بل هو قديم قدم المجتمعات العريقة التي كانت تقيم فرجاتها في الفضاءات العمومية، والساحات، والشوارع، والأسواق…والأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح هي: هل مسرح الشارع اختيار أم ضرورة؟ هل هو بديل عن المسرح الاعتيادي والمتداول؟ كيف يتم استقطاب الجمهور إلى هذا النوع من المسرح؟ وكيف يتفاعل هذا الجمهور مع مختلف العروض؟ متى يكون الجمهور منفعلا، ومتى يصير فاعلا في مسرح الشارع؟ وإلى أي حد يمكن أن نتحدث عن شعرية خاصة بهذا المسرح، فلسفيا وجماليا؟