- محمد قاوتي
تَرَتَّبَ الصَّبْرُ على كل شيء إلا على وَقْفَة الواقِفِ فإنها تَرَتَّبَتْ عليه حين دخل كلَّ بَيْتٍ فَمَا وَسِعَه، وشَرِبَ من كل مَشْرَبٍ فما رُوِيَ، وحارَ في الصُّمود حَيْثُ حارَ كلُّ شيء فيه، وخرج بالائتِلاف، وخرج بالاختِلاف، ولم يَشُكَّ في العارفِ حين شَكَّ العارفُ فيهِ، حتى عَلِمَ ما عَلِمَ، فكان عِلمه إيذانًا بالتَّعَرُّضِ له، ولَمْ يَقْبَلْهُ الأغْيَار، ولم تُزَحْزِحْهُ المآرِب.
النفري بتصرف
نَحُجُّ مرة أخرى إلى رحابة محفل المركز الدولي لدراسات الفرجة، وهو يتماثل مع أنَاهُ، الْمُولَعِ حَدَّ الْوَلَعِ بـ“طنجة المشهدية”؛ ولِحَجَّتِنا، كما هو حالُنا في كُل حَوْلٍ، طَعمُ ما يَنْبَجِسُ عن الاحتفاءِ الفَرِحِ بِسَنَةٍ أخرى تَنْضَمُّ إلى تَدَانِينَا العلميِّ والمعرفيِّ والروحِي، مُسْتَرْجِعينَ ومُستحضرين بعضًا مِمَّا ضَمَّتْ مَقاماتُ محفلِنا هذا من “وَقْفَاتٍ” علميةٍ وفنيةٍ تَبْتَغِي الْفَحْوَى فِي الْمَعْنَى، بِمَا كان لها من أوْجُهِ الفضلِ في “وقْفتنا” على المراتبِ بِتَنَوُّعِ لُوَيْنَاتِنا ومَشارِبِنا وأهْوائِنا، حيث كان لسانُ حالِنا ولا يزالُ يُعَبِّرُ عَمَّا يَلْتَمِعُ في الأفئِدَةِ والألْبَاب: «بَقِيَ عِلْمٌ بَقِيَ خاطِرٌ، بَقِيَتْ مَعْرِفةٌ بَقِيَ خاطِرٌ»[1]…
… نَحُجُّ مرة أخرى ونحن مَوائلُ مُجْنِحون إلى طنجة، عروسِ الأسرارِ، رجاءَ الاجْتِنَاحِ على ما عَوَّدَتْنَا عليه من أسئلةٍ تجمعنا على الْعِلْم الذي هو المعرفةُ التي هي المعرفة. وما جنوحُنا، هذا، إلا جنوحَ العاقلِ الذي عليه، كما أوصى شيخُ الْحَصَافَةِ «أنْ يُؤنِسَ ذَوي الألْبابِ بنفسهِ ويُجَرِّئَهُمْ عليها، حتى يصيروا حرسًا على سمعهِ وبصرهِ ورأيه، فيَسْتنيمُ إلى ذلك ويُرِيحُ له قلبَهُ ويعلمُ أنهم لا يَغفَلونَ عنه إذا هو غفَلَ عن نفْسه»[2]…
… وَلَعَلَّ المناسبةَ شرطٌ لاستحضار ما اغْتَمَّ بهِ، حينَهَا، مَنِ اغْتَمَّ مِنْ مُجَيِّشي الْوِجْدانِ السَّالِبِ الْمُسْتَلَبِ داخل دوائر الثقافة والفن في أرْخَبِيلاتِنَا، فتعرَّضوا لِما نَحْنُ فيه قَصْدَ تَثْبِيطِ عزائمِنا والْحَطِّ من هِمَمِنا وتَهْجِين مُبْتَغانَا، فَعابُوا مَسْلَكَنا المرتبطَ بِحُرْقَةِ الأسئلةِ الذي سَعْيُهُ تَذْكِيَّةُ العُقول، وعارَضوا ارْتباطنا بالعلماء الذي سَعْيُهُ الْعِلْمُ بِما هُوَ مَعْرِفَة، والْمَعْرِفَةُ بما هي الْمَعْرِفَة، ووَجَدوا لهم العدَدَ والأعْوَان، فَأغْنَانَا ما نَحْنُ فيه عَنْهُم (مُجَيِّشونَ حَانِقُون، وعَدَدٌ وتُبَّعٌ مخْدوعون) وسِرْنا، وَلَمْ نَلْتمِسْ أعْذَارَ السَّالكينَ في الطَّريق إلى حَضْرَةِ “الوقفةِ” الَّتي دُونَنَا ودونَها وِدْيانٌ سَحيقَةٌ ومَفازاتٌ عميقة، وسألْنا الْعَالِمَ بِالطَّريق: «يا عالِمًا بِالطريق، إنَّ الْعَيْنَ لَتَسْوَدُّ في هذا الوادي والطريقُ يبدو كأنَّه مَليءٌ بِالأهْوال، فَمَا طُولُ هذا الطريق، أيها الرفيق؟…»[3] فأجاب العالِمُ بالطريق: «إنَّ لنا في الطريقِ سبْعةَ أوْدِيَّةٍ … أوَّلُ الأوْديَّةِ هُوَ وادي الطَّلَب، ثم … وادي الْعِشْق، ثم … وادي الْمَعْرِفَة، وَ … وادي الاسْتِغْنَاءِ عن الصِّفَة، وَ… وادي التَّوْحيدِ الطَّاهِر، ثم … وادي الْحَيْرَةِ الصَّعْب، أما الوادي السابعُ فهو وادي الْفَقْرِ والْفَنَاء، وبعد ذلك لن يكون لك سُلوكٌ بالطريق، فإن تُدرِكْ نهايَتَهُ يَتَلاشَى مَصِيرُك، وَإنْ تَكُنْ لَكَ قَطْرَةُ مَاءٍ فإنها تُصبحُ بَحْرًا ضَخْمًا»[4]…
… وَلَعَلَّ المناسبةَ شرطٌ لاستحضار الاندهاشِ الأولِ وما تلاه من اندهاشٍ حِينَ أدْمَنْنَا على ما يَتَطارَحُه حَمَلَةُ السؤال في حَلَقَاتِ طنجة، ونَحْنُ أُسَارَى شُعُورٍ اِنْتَابَنَا ولازَمَنَا كَخَصَاصَةِ الْمُدْمِنِ، لا يُقاوَم، شعورٌ بِأنَّ بنا إلى هذا كلِّهِ حاجةٌ شديدة، لِكَيْ لا يَطالَنا ما طالَ صاحبَ الجوابِ التَّائِه حين سَأل شَيْخَ الْحَصَافَةِ: «ما خيرُ ما يُؤْتَى المَرْء؟» فأجابه: «غريزةُ عقل». وسأله: «فإن لم يكنْ؟» فأجابه: «تعلُّم عِلْم». فسأله: «فإن حُرِمَه؟» فأجابه: «صِدْقُ اللسان». فسأله: «فإن حُرِمَه؟» فأجابه: «سكوتٌ طويل». فسأله: «فإن حُرِمَه؟» فأجابه: «مِيتَةٌ عاجِلَة!»[5]…
… وَلَعَلَّ الانْدِهاشَ الذي انْتَابَنَا، طيلة عَقْدٍ وَسِتِّ سنوات، أبْعَدَنا عن الصخور الباطنية وأمَّننا منها، وهي تغازل سُفُنَنَا غَزَل عرائسِ البحرِ لِعُولِيس، قصد الإطاحة بها لِبَراثينَ «كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً ٭ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أنَّ السُّمَّ فِي الدَّسَمِ ٭٭ منْ لِي بِرَدِّ جِمَاحٍ مِنْ غِوَايَتِهَا ٭ كَمَا يُرَدُّ جِمَاحُ الْخَيْلِ بِاللُّجُمِ»[6]. ولَعَلَّ الانْدِهَاشَ ذاتَهُ ثَبَّتنا في أوامِرِ الأخلاقِ حتى نضع الحِسَّ والإدراكَ في موضعٍ دون المواضع، بِحُبِّنا الْعِلْمَ ومُلازَمَتِنا له واجترارِ الأُلْفَةِ بيننا وبينه ليكونَ هو لهْوَنا ولذتَنا وسَلْوَتَنا وبُلْغَتَنا، وبمجالسة العلماء والعارفين وحُسنِ الاستماع إليهم – ونحن على أن نسمع مِنْهُمْ أحْرَصُ على أن نقول -، وبتمامِ إصابةِ الرأي والقولِ عند القول، وبِوُجوب السؤالِ في السؤال، والفصلِ في الفصل، والصدقِ في الصدق، والعهدِ في العهد، والْجُودِ في الجود، والْوُدِّ في الْوُد، والتواضعِ في التواضع، والقناعةِ في القناعة، والخيرِ في الخير، والحذرِ في الحذر، والسماحةِ في السماحة، والحياءِ في الحياء، والخِصلةِ في الخصال، بلا مُوارَبَة… وبِقَدْرِ ما تَبَّثَنَا انْدهاشُنا في أوامِر الأخلاقْ، أقصانا من دهاليز الْخِصالِ المذمومة، من بابِ أخْوَفَ ما يَكُونُ من مواجهةِ الجاهلِ بالْعِلْم، والجافِي بالفقه، والعيْيِّ بالبيان، ومِمَّا يكون من سخافةِ المتكلم، وانتحالِ رأي الأغْيَار، والتَّطاوُلِ على الأصْحاب، والتَّفاخُرِ بالعلم والْمُروءَة، وعدمِ إمْهالِ المتكلمِ حتى يَنْقَضِيَ حَدِيثُه، ومغالَبَتِه على كلامه، والاعتراضِ عليه، وكُثْرِ التَّسَرُّعِ إلى الجواب… تأمينًا لأنْفُسنا من شَرِّ الجهالة، إنْ قَرَابَةً أو جِوَارًا أو إلْفَة…
… كُنَّا فِي غَمْرَةِ هذا الاندهاشِ مُتْحَفينَ بعَقْد وست سنوات، أحوالُها خلاَّقةٌ وثَرِيَّةٌ وحَمَّالَةُ شآبيبِ المروءةِ النَّادرة، فَبُوِّئْنَا مكانةَ النِّدِّ السِّرِّيِ فِينَا، وَأُونِسْنَا دون جَفْوَةٍ ولا وَحْشَة، وَثُبِّتْنَا في مَقام الاعتبار بِجُودٍ لا تَحُدُّهُ ضِفاف. عَقْدٌ وست سنوات أشهَرَتْ فينا دَيْدَنَها فَجَهَرَت: «فَالدُّرُّ يَزْدَادُ حُسْنًا وَهْوَ مُنْتَظِمُ ٭ وَلاَ يَنْقُصُ قَدْرًا غَيْرَ مُنْتَظِمِ»[7]، فكانت بَرْدًا وسلامًا وزَوَّادَةَ طريقٍ تَشَبَّعْنَا خِلالَه بالاقْتِداء بِنَهْجِ شيخ الْحَصَافَةِ حين قالَ: «فَأمَّا العِلْمُ فيُزيِّنُكَ ويُرْشِدُك. وأمَّا قِلَّةُ ادِّعائهِ فَيَنْفِي عنك الْحَسَد. وأمَّا المنطقُ، إذا احتجت إليهِ، فيبلِّغُكَ حاجتَك. وأما الصمتُ فَيُكْسِبكَ المحبَّةَ والوَقار»[8]…
… عَقْدٌ وست سنوات خَلَتْ – والخير عن أمامٍ – تَداوَلَ خِلالها العالمونَ والعارفونَ الأسئلةَ التي هي الأسئلة. الْتَمَسوا خلالها الأجوبةَ التي هي الأجوبة. وقفوا في مَقامِ الائْتِلافِ بِائْتِلافِه. وقفوا في مَقامِ الاخْتِلافِ بِاخْتِلافِه. عانَقَ الائْتِلافُ الاخْتِلاف. عانق الاختلافُ الائتلاف. اسْتَعَادُوا، سَوِيَّةً، رَجْعَ السؤال. رَمَوْنا بالسؤال. رَمَوْا بنا السؤال. استعدنا رَجْعَ الكلامِ وَاسْتَرْجَعْنَا: «بَقِيَ عِلْمٌ بقيَ خاطرٌ، بَقِيَتْ معرفةٌ بَقِيَ خاطرٌ»[9]… بَقِيَ شيءٌ… بَقِيَتْ أشياءٌ: «فَمَا تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى عَجَائِبُهَا ٭ وَلاَ تُسَامُ عَلَى الإكْثَارِ بِالسَّأمِ ٭٭ لا تَعْجَبَنْ لِحَسُودٍ رَاحَ يُنْكِرُهَا ٭ تَجَاهُلاً وَهْوَ عَيْنُ الحَاذِقِ الْفَهِمِ ٭٭ قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ ٭ وَيُنْكِرُ الْفَمُّ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ»[10].
طنجة، مساء يوم السبت 27 نونبر 2021