حوار : د. عبد العزيز جدير
عبد الإله عاجل. فنان يركب جنون الخيال ليعرض بعض لآلئه. دائم الحركة كأن جسده يشهد ركح لدبيب النمل باستمرار. كائن ينتج فرجة ويفجرها. بأشكال ووسائط مختلفة. بالتلاعب بالألفاظ، بالأداء على الركح، بالأداء في الفضاء الشاسع للسينما عبر مسلسلات وأفلام الشاشة الصغرى. ويفجر الفرجة حين يركب جنون الخيال في الإخراج أيضا للمسرح والتلفزة. فنان يحتاج المزيد من التنقيب على المعادن الكامنة في النفس والروح وأحشاء التجربة.. فهل تسمح الأيام بذلك، وهل تستطيع نجوم أن تقدم “يد المساعدة”، كما فعل والداه لحظة الطفولة، بتكبيل رجليه ليستغرق في التأمل، ويخرج ما ينفع الناس والإبداع ليبقى..
قبل رفع الستار
قبل سنتين ونيف التقيت بطنجة الفنان عبد الاله عاجل. كم أبدى من ثناء على تجربة المسرحي محمد الحداد واصفا إياه بأنه “مبدع كبير في الشمال المغربي” خلال الحديث التمهيدي. وبالإعجاب ذاته أشار عاجل إلى كتابة الراحل الحداد مسرحية “مريض رغم أنفه”، ورئاسته لفرقة مسرحية “المغرب…”، وأنه كان مع الهلال، وهي فرقة تعود إلى سنة (1928)…” وكان عاجل قد اشتغل على تاريخ المسرح بالشمال ليركب جنون خياله لتصميم وتقديم افتتاح المهرجان الوطني للمسرح بتطوان.. وقد اضطر إلى قراءة تاريخ المسرح بشمال المغرب، وسافر في كتابات المسرحي ومؤرخ المسرح رضوان أحدادو..
ثم التقينا صبيحة الغد بإحدى مقاهي طنجة. واندلع الحوار. كان صوت الموسيقى مرتفعا يصم الآذان، بينما يلجأ بعض الرواد إلى القراءة! وقف علينا النادل. طلب عاجل وجبة الفطور. بعد أن وضع النادل الوجبة المكونة من عصير برتقال، وطجين خليع بالبيض، وبراد شاي أمام عاجل، ووضع أمامي فنجان قهوة سوداء، طلب مني أن ألتقط له صورة رفقة عاجل. قلت له مقابل درهم واحد، بل قال عاجل أن يقدم لنا القهوة مجانا فقط. التقطت له صورة، فطالب بثانية، وبعد أن شكرنا، قال له عاجل لو خفضت صوت الموسيقى لأشكرن لك صنيعك، فنحن نسجل حوارا. عدنا إلى حديثنا بعد أن لبيت لمواطنين رغبتهم في التقاط صور رفقة عاجل.. سألني عن مسرح يحمل اسم الحداد فقلت له تم تشييده بمنطقة بني مكادة الشعبية. ثم عاد إلى الحديث عن الحداد وصوته يعكس انبهارا به وباكتشاف أثره وهو يعد افتتاح المهرجان الوطني للمسرح بتطوان، ثم أضاف: ولي صورة له وظفتها في حفل افتتاح المسرح الوطني. وقد طلبت من خالد أمين صورا من الأرشيف لتوظيفها، فبعث بها إلى النفالي واحتفظ بها هذا ولم يكلف نفسه تبليغها إلى من بعثت إليه..
شهريار يرفع للحكي والتأمل الستار
- كيف نشأ الاهتمام بالمسرح، والولع به؟
- منذ البداية، كنت كثير السهر ليلا وميالا إلى التأمل. لم تعرف طفولتي بذرة من شغب، بل كنت أعيش مستغرقا في نوع من لحظات (méditation)، تأمل. كنت أعيش وحدة عميقة يلفها الصمت في البيت، أو في وفناء البيت، لأن الوالد كان كثير السفر. فقد كان يشتغل موزع العجلات المطاطية، ولا تنقطع أسفاره في الاتجاهات الأربعة للمغرب. كان يغادر البيت يوم الاثنين ولا يعود إليه إلا يوم الجمعة. قبل الدخول إلى المدرسة الابتدائية كنت أقضي معظم اليوم مكبلا الرجلين بحبل. حبل طوله ثلاثة أمتار حتى يمكن أن أتحرك بحرية نسبية، كي لا ألج المطبخ. لأن المطبخ خزان مخاطر، النار أو الغاز أو السكاكين… ولذلك ملت منذ ذلك الزمن نحو الجلوس وملازمة المكان، والانسكاب في لحظات تأمل ممتدة حتى تعود الوالدة أو يعود الأخ الأكبر مني سنا إلى البيت. ويفك القيد عن رجلي، وقد رأيت في ذلك الأمر نوعا من الانضباط، والتمرين المستمر على الجلوس، وملازمة المكان. وفي الوقت نفسه بدأت أراود الخيال عن نفسه وأروضه. فقد كنت أرغب في مغادرة الحجرة للشعور بالحرية، ولأتسكع حيث أشاء ولم يكن ذلك بمستطاعي، فقد كان الحبل يقيد رجلي، ويشل حركتي. فكنت أستعيض عن ذلك بالخيال، أغادر الغرفة، وأجوب أرجاء البيت، وأخرج لألعب بباب البيت، ثم أجلس بالعتبة حين أشعر بالتعب. ذلك أنه حين أعجزني الواقع عن الحركة لجأت إلى الخيال فعاشرته وأصبح أنيسي. وهكذا نمت وتعاظمت علاقتي بالخيال وضمرت مع الواقع وأنا ما أزال طفلا، فرأيت البحر قبل أن أراه رأي العين. قد أكون سمعت حديثا عنه، وتعرفت عليه قبل أن يكتب لي رؤيته بالعين المباشرة. وحين تعود الوالدة، أشعر أنها تحرمني من تلك الهَدْأَة، والصمت، ونعمة التواصل مع الذات. وهكذا تربيت على حب الهدوء. ولذلك فلا يعرف الانفعال طريقه إلي، وعندما أجالس تلاميذ أو طلبة أو إخوان ممثلين أو غيرهم فهم يشعرون بهذا الهدوء، إذ يتسرب إليهم وينشر بعض السكينة بين أحشائهم، ويؤكدون أنهم يجالسون رجلا هادئا جدا. ويحدث الأمر نفسه حيث تنسكب السكينة حين أمارس الإخراج، فلا أحد يمكن أن يقول إنه سمع صوتي ارتفع خلال حديث أو إبداء ملاحظة. ورغم ذلك فالصوت يحمل على الإقناع ويحمل الفائدة حتى أن طالبة بالمعهد العالي والتنشيط الثقافي قالت لي: “تمنيت لو كنت أستاذي”. فلم يسمعوني أتحدث بصوت مرتفع أو يسكنه الغضب..
كنز محاصر
- ولما كانت مرحلة الطفولة تمتد سبع سنوات فقد رسخت في نفسي قيمة الهدوء، ووجوب طلبه والركون إليه. وبعد السابعة أدركت شيئا آخر وهو أن الحرص على بقائي بالبيت لا يعني أن أهلي لا يريدون أن أخرج معهم أو مع الوالدة أو خوفا من أن أُخطف أو أُسرق أو أختفي وأتيه، ولكن كان هناك عامل أو سبب آخر، كما فسر لي ذلك أفراد الأسرة، وهو أني كنت طفلا زُهْرِيَّا من اليدين معا: اليمنى واليسرى.
قلت له، وأنا فقيه حافظ لكتاب الله، فرد مبتسما: لم تبق كنوز مدفونة تحت الأرض بل وضعها أصحابها في حساباتهم.. ثم تابع تشكيل نهاية الفكرة:
… وبحسب المعتقدات، فإني معرض أو مرشح للاختطاف من لدن فقهاء يترصدون الكنوز المدفونة في أحشاء الأرض منذ الزمن الغابر. ولا زلت أنتظر رؤية هذا الكنز منذ الطفولة.. لما بلغت السابعة من عمري وجب علي أن أخرج من البيت لأذهب إلى الدراسة، ووجب على الوالدين أن يسمحا بذلك وإلا دفعا بابنهما نحو الضياع والجهل. كان التلاميذ، يومها، يلجون المدارس على السنة السابعة..
حراس وكائنات ركح الواقع..
- واليوم على السنة الخامسة وأحيانا الرابعة والربع!؟..
- بل منذ مرحلة الخْرُوقْ، “لِي كُوشْ”.. ولم يحدث أن ذهبت إلى المدرسة بمفردي، فقد كانت ترافقني الوالدة أو الأخت أو أخي الأكبر. وكان أحدهم ينتظرني عند نهاية الدرس لنعود إلى البيت. ثم لجأت الوالدة، رحمها الله، إلى رجل من القوات المساعدة، ودفعت له أجرة ليرافقني في الذهاب إلى المدرسة والإياب. كان هذا المخزني يسكن بالحومة، ويسمى عبد السلام، وكل أم أرادت تخويف ابنها تقول له: “اسكت أو نعس.. أو غادي نْجِيبْ لك عبد السلام”. هو نوع من “بُوعُّو” محلي بل هو التجسيد الأمثل له. كان عبد السلام، بالنسبة إلي، هو السلطة المطلقة، التي لا سبيل إلى هزمها أو الإفلات من وطأة جبروتها. هو هرقل. كان طويل القامة، ممتلئا حد التخمة. ولما كانت تقع عليه عيناي ترتعد فرائصي، وإذا تكلم في غفلة مني أتبول. بكل صدق.. هو الخوف وقد تطاول حتى أصبح الرعب. وحين أكون إلى جانبه لا أحرك ساكنا عدا رجلي وحاسة الشم. وكان هناك شخص آخر يدعى “السْنِيوْرَة” عبد العزيز، وكان يسكن بسكة القطار، حيث بنى “عَشَّةً” تحت قنطرة. وكان يحمل باستمرار “مَسْوِيطَة”، سياط، مثل تلك التي يحملها “زُورُو” ويطلقها نحو أي شخص يبعد عنه قرابة الخمسين متر ويجذبه نحوه بلا إرادة، إرادته. كان يلبس لباسا مرقعا بالكامل، ولذلك كان يبدو لباسه مزركشا. وكان ينتعل “بُوطاً” متوسط الحجم، وكان يضع قطعة جلدية على عينه كالتي يضعها القرصان. وكان يتغذى بلحم الطيور، التي كان يصطادها “بِجَبَّادْ”، ثم يشويها وينعم بأكلها. ذلك طعامه الرسمي. وفي المساء، كان يمد اليد ويتصدق عليه المارة من فوق قنطرة السكة بما فضل عليهم: ريال أو ريالان أو أكثر بقليل. كانت مهمة السنيورة، لما كنت بالمدرسة الابتدائية “أبي ذر الغفاري” أن ينظم صفوف التلاميذ وذلك بطلب من مدير المدرسة. ويقطع الطريق على فوضى دخول التلاميذ إلى المدرسة. وهكذا، كان ينظم عملية دخول التلاميذ إلى المدرسة وخروجهم منها. طبعا، مقابل قسط من دراهم يقدمها له المدير لخدمة يقدمها للأجيال القادمة. وكان عبد السلام يمثل قوة الردع. عبد السلام يردعنا، و”السْنِيوْرَة” يصففنا.
الحرية توأم الوحدة
- نوع من “حذر” يستبق العنف ولو في أبسط أشكاله..
- نعم، نوع من “حذر” قبل الأوان.. وقد كان السنيورة يدخل في حركة هستيرية مخيفة حين ينادي عليه أحد التلاميذ “سنيورة اليهودي”. كان يكره اليهود، وحين ينعت باليهودي، يفقد صوابه أو ما تبقى من صوابه، ويبدأ بضرب كل من كان قريبا منه بمسويطته. لكننا نكون قد أطلقنا أقدامنا للريح مع أول نداء.. لكل مهمته. الشيء الآخر أنني عندما كنت أدخل القسم على الساعة السابعة صباحا، اعتدت أن أشرع في قضم أصبعي. لعل ذلك نتج عن تلك الوحدة التي ألفتني وألفتها منذ الطفولة الأولى. وأنا مدين لمعلم هو الذي حررني من هذه العادة غير الحميدة. وهو الأستاذ قُضَوي. كان نحيفا، وقبيحا، وصارما. كنت أشتم فيه الاستقامة والجدية. وكان مستقيما وجديا. لم أكن ألمس الاستقامة بل كنت أشمها. في العادة، وحسب الإشاعة أن قضية مص الطفل لأصبعه الكبير (الإبهام) تحارب ويقطع دابِرها بوضع الإبزار أو الفلفل على الأصبع أو في فم الطفل مباشرة حتى يرتدع. أو تمرير سائل مرارة الكبش على الأصبع. لكن القضوي حررني من هذه العادة بالتمر..
- الحلاوة. وللحلاوة مفعولها الذي لا يقاوم.. واسأل علية القوم والساسة..
- تماما، يعرفون مذاقها.. فالمجرب أحسن من الطبيب. كان المعلم القضوي ينادي عليّ كل صباح: عاجل. فأتوجه نحو خزانة القسم وأتناول تمرة فأضعها في فمي وأحتفظ بها هناك طيلة الحصة. لاحظ فهو أستاذ ذكي، وغريب. ثم إنني كنت تلميذا مُجدا. وكنت أعشق اللغة العربية الفصحى، وأنا طفل كتبت مسرحية قصيرة..
أسئلة “معبد كْوَيْزا”
- بأي قسم كنت تدرس، يومها؟
- بالابتدائي الأول، قبل قسم الشهادة. وطلب مني أن أقرأ تلك المسرحية القصيرة. ولما قرأتها طلب مني تشخيصها مع بعض التلاميذ خلال حفلات عيد العرش. وكان عنوان المسرحية “وْلِيدَاتْ الدُوَّار”. وآنذاك، عرضت لشخصيات مثل الخَمَّاس، والرَّبَّاعْ، والفلاح، والإقطاعي صاحب الأرض، والبروليتاري الإنسان الفقير. نعم، آنذاك على صغري لأنني أنتمي إلى أسرة كانت أول أسرة امتلكت التلفزيون سنة (1961). وقد شاهدنا خبر وفاة محمد الخامس بالأخبار عبر شاشة التلفزيون. تعرف أني ولدت سنة (1957)، معنى ذلك أنني شاهدت التلفزيون وعمري أربع سنوات. وقد أثار إعجابي وشكوكي.. واستغربت لهذا الصندوق أن يقدم مثل هذه العجائب. ولو سمح الوقت لكنت اخترعته يوم كنت مقيد الرجلين ببيتنا وأنا صغير. وقد تساءلت هذا التساؤل. فهو ليس وليد اللحظة. وكنت يومها كثير التساؤل، أطرح الأسئلة عن كل شيء. منها مثلا: لِمَ يوجد الله، لِمَ يوجد الإنسان ما دوري في هذه الحياة؟ لم لا ينسكب البحر خارج فراشه، لم هو مستقر في مكان واحد؟ أي نوع من الأوتاد تعيق حركته؟ وهي أسئلة عادية تطرح وطرحتها وأنا طفل..
أسئلة ما قبل خطاب الجوقة
- ولما التحقت بقسم الشهادة، عرف عن عاجل بل اشتهر عاجل أنه يمارس المسرح. وكان أخي، الأصغر سنا مني، مطربا بارعا. كان يغني مع أستاذ آخر، وكان ذلك الأستاذ يواكب غناء أخي بالعزف على الساكسوفون. وكان صوت أخي يدوي بين جدران القسم أو بهو المدرسة. ولا زلت أذكر أننا شاركنا معا بحفل أقيم بالمدرسة، ولم يكن فارق السن بيننا إلا سنتين. وعرف عن الأخوين عاجل عبد الإله وعاجل عبد اللطيف أنهما فنانان. وأن عبد اللطيف يقلد فنانين مصريين كبار منهم ليلى مراد وأغنيتها: “كلام جميل، كلام معقول، لكن ماشي معقول، ينحكى عنو..”، ويغني لشكوكو، وفريد الأطرش وغيرهم، كما كان يقلد فنانين فرنسيين. وكان يتقن غناء الفنانين المصريين لذلك طلب منه أن يحضر برنامجا تلفزيا، يومها، وهو برنامج “أبَّا حمدون”. وكان له سبق المرور بالتلفزيون قبل أن يتاح لي ذلك بسنوات عدة. ثم اشتهر أخي “بِبَّا حمدون”. وكنت أمارس المسرح في الحومة والدرب. وشاءت الأقدار أن نسافر إلى مدينة طنجة، فقد كنا نرافق الوالد في أسفاره لأنه كان كثير الأسفار لأن عمله يتطلب ذلك. جئنا طنجة لقضاء بعض أيام الصيف، فقد عثر لنا الوالد على مكان نقضي به تلك الفترة بتدخل من أحد زبنائه الذين يزودهم بالعجلات.
الموت ركح الدراما والدهشة
- وذات يوم، نزلنا إلى البحر، وهناك فقدت أخي إلى الأبد. بعد وجبة الغذاء، حملت الأواني لغسلها بماء حنفية غير بعيد عن المكان الذي أكلنا به. والقريب من موج البحر. وأوصيت أخويّ وأختيّ أن لا ينزلا إلى البحر للسباحة بعد الأكل لأن في ذلك خطرا عليهما، وعلى جميع الناس. فتسلل أخي عبد اللطيف، مستغلا شرود أخيه وأخته في تأمل البحر أو الناس، ولجأ إلى البحر طلبا للسباحة. فامتص البحر رحيق عمره، وكان سبب رفع روحه إلى السماء..
- وكان عمر أخيك يومها..
- كان عمره إحدى عشرة سنة، وكنت أكبره بسنتين. غادرنا البيت معا نحو طنجة، وسأعود من دونه. وكان والدي يومها بمدينة مراكش. وسمع الوالد الخبر فانطلق وجهته طنجة وهو يسابق الريح معتقدا أن الغريق هو الابن الأكبر: أنا. لأنه لما مر ببيتنا بالدار البيضاء قرأ اسمي “عبد الإله” مكتوبا على باب البيت فظن أن الخبر قد سمع وانتشر، وكتب أحدهم اسم الفقيد. ولما وصل إلى طنجة، ورآني قال: “الحمد لله”. قلت له: “لست أنا من غرق بل عبد اللطيف”. وقبل وصول الوالد إلى طنجة كنت ألقيت بنفسي أمام شاحنة مريدا الانتحار لأن الخوف بلغ منا مبلغه، والشعور بالمسئولية فيما حدث هز كياني وطمأنينتي. وقد ارتمى علي شخص واختطفني من أمام الشاحنة قبل أن تدهسني فأنقذني. تعرفت عليه، فيما بعد، ويسمى محمد ندير ويسكن بالقرب منا بالدار البيضاء. هي الأقدار تتصرف، فما الذي دفع به إلى طنجة لينقد طفلا؟ وهكذا عشت ذكرى أليمة بطنجة، وستلازمني طويلا، وهو قضاء الله وقدره. ولما دخلنا غرفة المستعجلات انتابتني دورة هستيرية، وتعالي صراخي، وأمسكت بالطبيب إمساك الأعمى بالماء.. لما أخبرنا أن أخي توفاه الله. وكما كنت أشتم رائحة الجدية في الأستاذ من قبل، شممت روائح المستشفى برمتها. ومن يومها، سكنتني عقدة رائحة المستشفى، كلما شممت رائحة المستشفى أشم رائحة الموت. كلما شممت رائحة خليط الأدوية والكحول ترجع بي الذاكرة القهقرى فأرى الموت. وقد شرعت أقاوم تلك الرائحة بالهرب منها. ولما تضع زوجتي مولودا بالمستشفى لا أجرؤ على زيارة المستشفى لأن الذكرى ترعبني، وتهز كياني فتدفع بي بعيدا من باب المستشفى. من يستطيع أن يتقدم بخطى واعية نحو الموت؟ من قال العصيدة باردة فليدخل إلى رحابها. وكذلك لما خضع ابني لعملية جراحية، لم أستطع زيارته وهو بالمستشفى. ثم خضعت الوالدة لعملية جراحية فما هزني الحب وأسعفتني القوة لزيارتها وهي هناك. المستشفى، ورائحة المستشفى، وفضاء المستشفى كلها مرادفات للموت. من يتجرأ على الموت، فيتقدم نحوها بعينين مفتوحتين، ويوقظها بقذفها بالحجر؟ ما تزال عقدة المستشفى تسكنني، وتشل تفكيري، ورزانتي، ومنطقي. لا مزاح مع الموت، ولا جدال في أمر الموت، ولا جدال في ولوج فضاء المستشفى. وحين يمرض فنان ويدخل المستشفى أيضا، لا يمكن أن أزوره هناك، تملكتني عقدة المستشفى، وتعاظمت، وازدادت ضراوة، وهزمتني بضربة قاضية. يهاجمني، دائما، ذلك المشهد، يباغتني، لقد رودني إلى الأبد.
الأمان إلاه زائف
- بالرغم من التقدم في العمر، واكتمال المدارك ووضوحها.. لم تستطع تجاوز الجرح الذي يكون تحول وشما..
- ب
الفعل، أصبح الجرح وشما.. والغريب في الأمر أن غسلَ أخي الميت فقيه من أهل طنجة ينبعث النور من وجهه. فعشقت (صورة) الفقيه من الانجذاب نحو ذلك الفقيه. وقد كان الفقيه الذي يدرسني بالدار البيضاء رجلا عنيفا، لا يعرف اللين ولا يلقنه للناشئة، فسكنت روحي صورة سلبية عن الفقيه ومهنته. كان يعنفنا ونحن نستظهر. لكن فقيه المسيد بطنجة، الذي غسل أخي محا صورة وخلصني منها. وجعلني أحب الفقهاء جميعا. وكم كان رؤوفا، ولطيفا، ومتنبها وهو يغسل أخي. وكان وجه أخي يشع بالنور، وتشع منه الابتسامة بكامله، لحظة غسله. قال الوالد للفقيه: “سأدفن ابني بالدار البيضاء”. فرد الفقيه: “هذا ملك، يا سيدي. والله تعالى يوجد في كل ما خلق، في الأراضي والسماوات وما بينهما. “فأينما تولوا فثم وجه الله” وقد استقبله السي بوعراقية، لأن الطفل لبى قضاء الله المحتوم في هذه الأرض. “وما تدري نفس بأي أرض تموت.””. وإذا زرت مقبرة سيدي بوعراقية، ستقرأ على لحد قبر “عاجل عبد القادر”.
القبول والرفض وانكسار صوت العندليب
- وقد احتجت سنوات كي يتراجع الخوف والرعب وفقدان الأمان. ولم ألجأ إلى طبيب نفساني ولا طبيب غير نفساني. وقد سكنني سؤال: هل أجرمت في حق أخي؟ ولِم لم أحرسه بعناية وأراقبه. كنت قد غسلت الأواني، وأنا عائد فرأيت جمهورا غفيرا يغادر بعض البحر نحو الشاطئ. ثم تبين لي أن بعض الجمهور يحمل جسد طفل على الأكتاف. يبدو أن الأمواج جرته وهي تعود إلى البحر وهزته وطوحت به حتى فقد توازنه وأصبح غثاء. ولما عدنا إلى الدار البيضاء، تراجع حبي للدراسة والطموح. بدت الدراسة حملا ثقيلا يجب التخلص منه. وعدت إلى العزلة، وقراءة الأفلام أو القصص المصورة من “زومبلا”، و”كيوي”.. والكتابة. وهكذا، بدأت أكتب كل سنة عملا مسرحيا. وخلال تأبين أخي بمدرستنا، غنيت إلى جانب أستاذه، الأغنية التي كان يؤديها هو، والأستاذ يواكبني بالعزف على الساكسو. فقد تدربت على الأغنية، من قبل، وكان التأبين لحظة جميلة سادها الفرح. ومن يومها، طلقت وقت الفراغ. فقد شرعت أملأ كل وقت الفراغ بالكتابة ولجأت إلى دار الشباب.
متع خير جليس وخير الفنون
- التحقت بدار الشباب كملاحظ. كنت يومها تلميذا بالسنة الأولى من التعليم الإعدادي. وكنت أمارس المسرح بالمؤسسة التعليمية، وأتردد على دار الشباب لمتابعة نشاط فرقة مسرحية مشهورة “بوشنتوف”، فرقة “باسكيط”، وهي فرقة متألقة، وتنتصر كثيرا نسبيا على خصومها، وقد التحق بعض أبطالها، فيما بعد، بفرق احترافية. وكانت تلقن بدار الشباب أيضا، يومها المسايفة بكل متطلباتها، اللباس الخاص، والقناع، والسيف. وكم كانت تعجبني تلك اللعبة. وكان بدار الشباب أيضا لعبة “البينغ بونغ”، كما كانت تجرى مباراة في الشطرنج، ويتبارى فيها أساتذة كبار. وكانت بالحي فرق تزاول فن الرقص. وكان هناك أيضا خزانة كبيرة جدا، يتجاوز عدد كتبها عشرة ألف كتاب. في الفلسفة، والأدب، والشعر، والتاريخ، والمسرح.. وكان هناك أيضا مؤطرون يؤطرون مخيمات الصيف الخاصة بالأطفال. وكانت هناك ورشات للرسم… الحاصل، كانت دار الشباب تحتضن أنشطة كثيرة جدا ومن بينها المسرح. وهناك سأتعرف على أحمد بنان، المتخصص في فن الرقص الذي التحق بأمريكا. وهو الذي أبدع الكوريغرافيا سنة (1983) حين احتضن المغرب ألعاب البحر الأبيض المتوسط وظف خلالها (4000) جندي وحضر افتتاحها الراحل الحسن الثاني. وقد استقبله الملك وقال له ماذا تحتاج، فقال أذهب إلى الولايات المتحدة لأتابع دراستي. وهو الآن في أمريكا مدير مسرح كبير خاص بالرقص، ورقص الباليه. ويزاول أخ بنان الآن عمله ضمن فرقته الجديدة، وقد اشتغلت معه لتنظيم حفل افتتاح المهرجان الوطني للمسرح بتطوان. والتحقت يومها بفرقة اسمها “مسرح الحلقة”.
عرضان في واحد: فرجة واستنطاق..
- كان من بين أعضائها الكاتب والأستاذ، الذي كان يدرس بثانوية عبد الكريم لحلو، وقد كان كتب مسرحية اسمها “سالم وحليمة”. ولما دخلت عليه بمكتب بدار الشباب، تفحصني وقال لي: “سأسند إليك هذا الدور”. ليس دور سالم، ولكن صديق سالم. كان سالم يبيع الخمر بالسوق السوداء. “كان گَرَّابْ”، وكان الناس يحجون إليه ليشتروا النبيذ. وكان صديقه يدعى “بْوِيدْرَا”، لأن “بْوَادْرُو” كانت بارزة ومنتفخة، وهو ملاكم. كان يشتري الخمر من سالم، ثم ربطت بينهما علاقة صداقة. وقد كان “بويدرا” تقدميا، وأفكاره ثورية. كان كلما قال له سالم إن المخزن يترصدني، ويريد بي شرا، كان “بويدرا” يضرب بيده ويقول “ما تْخَافْشْ، عَنْدَكْ الرجولة دْيَالَكْ”. ويضرب على طاولة بقوة. هذا هو الدور المسنود إلي. ومن شدة قساوة التمارين كانت عضلاتي تكاد تغادر مكانها، ولا تسأل عن شدة الألم. ومع كل لكمة، وكل “رِيبْلِيكْ”، رد تندلع تصفيقات الجمهور. قدمنا عرضا بكلية الآداب بالرباط، كان ذلك سنة (1979)، وكانت الحركة الطلابية يومها في أشد عنفوانها، وكانت الشرطة تدخل الحرم الجامعي وتعنف الطلبة، ولما انهينا العرض اعتقل أعضاء الفرقة. واعتقل معنا ديكور المسرحية، وخضعنا للتحقيق: من استدعاكم، من استقبلكم، لم جئتم للعرض بالكلية، لفائدة الطلبة؟ امتد الاستنطاق أربع ساعات متتالية، وانتهى رجال الأمن إلى أننا لسنا أعضاء بالإتحاد الوطني لطلبة المغرب، ولسنا من أتباع أي حزب، ولا فصيل طلابي، ولسنا طلبة.. بل نحن ننشط بدار الشباب، ولا لون سياسي لنا. فاتصل أحدهم بالأستاذ دراعو وقال له خذ تلامذتك. ومن خلال العروض التي قدمناها بدأت استأنس بالتواصل مع الجمهور. مع أنني كان لي اتصال بالجمهور منذ (1972) إلى (1974).. ولكنه جمهور المدرسة، أما الآن فقد أصبح للجمهور طبيعة أخرى، فهو من قطاع الطلبة والعمال. فقد أصبحنا نقدم مسرحيات بالمصانع، ودور الخيرية.. حتى جاء يوم سنقدم العرض بالمسرح البلدي للدار البيضاء. وكان المدير يومها هو الطيب الصديقي. و”يا وِيلْ من يلعبْ هناك”.. وكان المخرج يومها هو حري الحسين، رحمه الله.. وهو فنان بوهيمي، إنسان ينتعش بالفقر، يعني أنه يتلذذ بالفقر. كان يدخن سجائر من نوع “كازا”. ويشعل سيجارة بعقب سيجارة. قبل أن يلقي بعقب السيجارة يوقد بها السيجارة التالية، وهكذا دواليك. ولم يمت بداء السرطان بل بجرثومة الانتحار. وقد حاز الدور الذي أديته، بالعرض الذي قدمناه بالمسرح البلدي، النصيب الأكبر من التصفيقات. لم يصفق الناس لعاجل بل للدور الذي كان مثيرا، ومهما، ومتميزا لأنه استقطب رضا الجمهور يومها. بينما أعجبت أنا بالممثل الذي أدى دور سالم، فقد كان ممثلا حديديا. لم أر قط، فيما بعد أبدا، ممثلا يبهر بأدائه مثله. وكذلك الممثلة التي أدت دور حليمة، كانت رائعة.
“أيها المسرح إني أطمئن إليك، فأنجدني”..
كان المسرح يومها شكل ثاني. كنا نعيش الحدث، نتشرب الموقف، يستغرقنا الدور، ولم نكن نمتهن الدور أو نتصنع الأداء. كان المسرح يسكننا ونسكنه. كان العلاقة بين الممثل والدور (والمسرح) علاقة وجه العملة وقفاها. أي حرارة تندلع بجسد الممثل، وحين ننتهي من الأداء يكون العرق الحقيقي يتصبب من كل شبر من الجسد، الذي كان في المحراب. لو تعتصر الملابس الداخلية لنزل منها الماء مدرارا. قد تملأ سطلا كاملا. كان الصدق في الأداء، كان الحب يحدو الممارسة، والعشق يفتح للممثل باب التأثير في الجمهور والنجاح في المهمة. كانت الممارسة حقيقية لهذا الفن الرائع. ولذلك عشقت المسرح. وفي ذلك المناخ همت به، وربما هام بي. وتضاعف عشقي للمسرح. ثم حدث ما يحدث مرات، انفرم حبل الفرقة، إذ غادرها بعض الإخوة لإتمام دراستهم. فالتحقت بفرقة “جمعية فتح للمسرح”. وفتح كناية عن منظمة التحرير الفلسطينية. هم أسسوا منظمة فتح، ونحن أسسنا جمعية فتح. كان رئيس الفرقة هو نصر الدين التهامي. كان موظف بسيطا بمقاطعة، يقوم بتعبئة عقود الازدياد. وكان سعد الله عبد المجيد الكاتب المسرحي، المعروف الآن. وكان سعد الله قد شاهدني أؤدي دور “بويدرا”، فاتصل بي وقال لي: “هناك دور سأسنده إليك”. قلت له: “مرحبا”. فقد كان التقليد أن تهيئ الفرقة مسرحية، وتنتجها وتعرضها كل سنة. ولم يكن هناك لا دعم ولا يحزنون. وذلك لتقدم المسرحية للمهرجان الوطني للهواة. تتبارى الفرق ضمن الاقصائيات، التي تشهدها دار الشباب، وتختار الفرقة التي ستمثل الدار البيضاء، ثم تأتي اللجنة الوطنية لتعاين الفرق السبع أو العشر التي نجحت ورشحت من لدن دور الشباب بالمدينة. بالنسبة لدار الشباب الخاصة بحومتنا كانت هناك خمس أو ست فرق. فرقة “الجمهور” لحوري حسين، فرقة “فتح” ومن أعضائها بهجاجي.. لما عرض علي سعد الله نص المسرحية قلت له إن من بين الممثلين ممثلة. هناك ممثل وممثلة. أين هي الممثلة؟ قال لي: لن نختار فتاة، بل سيلعب فتى دور البنت. كنا يومها في سنة (1980). قلت له لا يمكن لرجل أن يؤدي دور امرأة. يستحيل هذا الأمر. قال لي: جرب، باشر التمرين. بدأنا التمرين، ثم أحسست بما يشبه الغثيان. قلت له: هل نحن في الستينيات حتى نلجأ لرجل يؤدي دور امرأة؟ قال لي: يصعب العثور عليها. قلت له، اعطيني النص، سأبحث عن ممثلة. أعطاني النص، فألقيت به في زاوية بالمنزل. وشرعت أبحث عن فتاة، ذات اليمين وذات الشمال.
أَشْ بِيكْ دَارَتْ القْدَار.. أعاجل..
وذات يوم، زرت فرقة الرقص التي يدربها بنان. فهو لم يغادر المغرب إلا سنة (1983) بعد انتهاء المغرب من تنظيم ألعاب البحر الأبيض المتوسط. أزوره، وأسلم عليه، ونتحدث في الرقص، وأظل أتابع أداء أعضاء الفرقة لرقصاتهم. ولكني لا أعرف أي واحد أو واحدة منهم جميعا. ثم التحقت بفرقة تدعى “الرفاكة الشعبية”، وتقلد “ناس الغيوان”، و”جيل جيلالة” و”لمشاهب”. حضرت تدريبات للفرقة. وبعد وقت قصير قال لي أعضاء الفرقة إننا سنحضر مسابقة، وإذا حالفنا النجاح فإننا سنشارك في “مهرجان الشباب العربي”. وسينعقد المهرجان العربي بالرباط. قلت لأعضاء الفرقة: عليكم بغناء أغنية واحدة من أغانيكم، وهي جيدة، وآنذاك ستنجحون وتقنعون بأدائكم، وستشاركون في المهرجان العربي. والأغنية هي “أَشْ بِيكْ دَارَتْ القْدَار”. وتؤديها الفرقة بنوع من مزيج بين “لمشاهب” و”جيل جيلالة”. كانت المجموعة متكاملة، جميلة جدا. لكنها لم تستمر. ولما انتهت الإقصائيات، احتلت الفرقة المرتبة الأولى. قال لي أعضاء الفرقة سنسجل اسمك لتحضر معنا فعاليات المهرجان. قلت لهم ضاحكا: “نَمْشِي مْعَاكُمْ نْسَخَّنْ لَبْنَادَرْ؟” رد بعضهم بل تسهم معنا في التقديم.. وهكذا سأسافر إلى الرباط رفقة مجموعة “الرفاگة الشعبية”. وفاز بنان أيضا في الاقصائيات وسترحل فرقته إلى الرباط للمشاركة في المهرجان. لا وجود للفرق المسرحية في المهرجان، بل فقط الفلكلور: الأغاني، والرقص.. استمر المهرجان طيلة أسبوع وهي فترة مكنت من التعرف على عدد من الوجوه. وتعرفت على فتاة اسمها نجوم الزهرة. بدأت العلاقة هكذا: “صافا، بخير، كل شي مزيان. إييهْ..” والضحك، والنكت. ونغني في الحافلة، ونغني في الفندق، انتهى المهرجان، فمضى كل لحال سبيله. ودارت الأيام. مضت سنة من الزمن بحساب البشر. وعدت إلى نص “زهرة بنت البرنوصي”، واتجهت صوب دار الشباب. أجلس هناك ردحا من الوقت، ألتقي عمي إدريس، ألتقي “ناقوس وسنيسلة”.. وأنا عاطل عن العمل. وفرقة “الحلقة” دبت في جسدها الفرقة منذ وقت ليس باليسير.
بذرة السفر، وزهرة الركح
– لو تقف عند فصل الزهرة، فحديثك عنه تنبض منه الأحشاء..
وذات يوم بينما كنت جالسا “بالهُولْ”، رأيت نجوم الزهرة تدخل دار الشباب. كانت تأكل حبات زريعة القرع. لما رأيتها قلت لها: “ما نْدُوقْشْ مَنْ دِيكْ الزريعة؟” قالت: “إِيِّيهْ”. وأعطتني حبات من الزريعة. وسيكتب لنا أن تكون لنا زريعة. أن يكون لنا أبناء. قلت لها: “ما الذي دفع بخطواتك إلى هنا؟” قالت: “جئت لألتقي بعض صديقاتي، فلم أراهن منذ زمن، ولأرى بنان”. قلت لها: “هل ما تزالين تمارسين الرقص؟” قالت: “لا، لقد منعتني العائلة. ورغم ذلك آتي للقاء بصاحباتي بين الفينة والأخرى”. ورغم المنع فهي ما تزال تعشق الرقص وتتلهف لممارسته. وقد حكت لي من بعد أنها كانت ستشارك في حفل راقص بعد أن تابعت التداريب مدة من الزمن، ويوم تقديم الحفل منعها أخوها من الخروج. قال لها: “والله لن تخرجي. ممنوع”. قالت له: “تمنعني من الذهاب إلى الحمام!! ليس معقولا”. قال لها: “يمكن أن تذهبي إلى الحمام”. جمعت لباسها وأودعتها في أحشاء رزمة، ولوازم الحمام في سطل. وذهبت إلى دار الشباب وهي تحمل رزمة اللباس وسطل الحمام. وحضرت آخر تدريب ثم ساهمت في الحفل الراقص. قلت لها بحوزتي مسرحية، فهل ترغبين في ممارسة المسرح؟ قالت نعم من دون تردد. قلت لها: ها هو النص إذا ما رغبت في قراءته، لكن عليك أن تردي الجواب في أقرب وقت. قالت: ما معنى أقرب وقت؟ قلت لها: في الحقيقة، أود أن تردي الآن. قالت يستحيل أن أقرأ النص الآن، وأجيب الآن. قلت لها: ما الذي يجب فعله، إذا؟ قالت الجواب غدا. كنت قد عينت لها موقع بيتنا بالحبوس، فقالت لي غدا أمر عليك. سلمتها النص وانصرفت. خمنت أنها ستعتذر فهي تكابد مشاكل مع الأهل، وقد منعوها من متابعة تعلم الرقص. فكيف يسمحون بممارسة المسرح؟ عدت إلى البيت، قلت للوالدة سأخرج لشراء بعض الحلوى، ويجب أن تهيئي لنا كأس شاي. قالت: لماذا؟ قلت لها: ستجيء عندي بنت. قالت بنت؟ قلت لها نعم. قالت وتريد أن تدخلها الدار؟ قلت لها نعم. لدينا بعض العمل لننجزه معا. قالت: غدا. إن شاء الله. وفي صباح اليوم الموعود، انطلقت ريح صرصر، واحتل الغبار السماء، عجاج خطير.. قلت لن تستطيع الخروج، ولن تأتي. ثم شرع المطر يهطل بعنف شديد، كأن الريح سبقته لتعلن عنه. قلت بيني وبين نفسي: ولو كان رزقها كله في هذه المسرحية فلن تأتيَ. على الساعة الثالثة زوالا، سمعت طرقات سريعة على الباب. فتحت الباب، فكانت هي، الزهرة تحمل مظلة عصفت بها الريح وكسرت قضبانها النحيلة. قلت لها: أعجبتك المسرحية؟ قالت: إييهْ. وبالتأكيد، لو لم تعجبها لما غادرت بيت والديها في هذا النهار الممطر والعاصف. قلت تفضلي، دخلت. الزهرة أعجبتها المسرحية، وأمي أعجبتها الزهرة.. قالت لي: زوينة هاد البنت. قلت لها: زوينة. كنا يومها في سنة (1980)، وتوالت اللقاءات بيننا، ثم بدأنا التداريب، وبدأنا ندخل في أعماق شخصيتي “زهرة بنت البرنوصي”..
فرجة لا تستثني العناية بشكلها
– لو أشرت إلى من تمرن معكم أيضا السي عبد الإله.. والعمل مرتبط بمرحلة ذهبية نعتت بمسرح الهواة..
– تمرن معي شفيق السحيمي، حميد برودان المقيم في فرنسا، وحميد نجاح، وسعد الله عبد المجيد. شاركنا في مهرجان بأگادير سنة (1981)، قدمنا العرض هناك، ومن هناك كانت الانطلاقة. وقد غيرنا يومها مفهوم مسرح الهواة في المغرب، وأبدعنا شكلا جديدا، ولو كان مستوحى من مسرح المخرج غروتوفسكي، المسرح الفقير، فقد تجاوزنا غروتوفسكي في مفهوم الزمان، والمكان، والجسد. وروح الممثل، فقد مارسنا روحانية الممثل. اعتمدنا روحانية الممثل أثناء الأداء ولكن بأدوات بسيطة. فقد اشتغلنا بعشرة صناديق من صناديق الخضر، وتتخذ تلك الصناديق عدة أشكال على امتداد المسرحية، منها حصان، ومقبرة، وبيت، وبراكة، ومكتب، وبار.. وقد انبهر جمهور أكادير بالمسرحية أيما انبهار. كما انبهر منظرو مسرح الهواة آنذاك بأكادير، حتى أن عددا من المسرحيين، منهم المسكيني الصغير، انظم إلى هذا لنوع من المسرح. وكانت هناك عدة إمضاءات من رجالات المسرح لهذا النوع من المسرح الجيد الذي جاءت به “فرقة فتح للمسرح”. واجتزنا إقصائيات الدار البيضاء بنجاح، واجتزنا إقصائيات المهرجان الوطني بنجاح وحصلنا على الجائزة. فقد كان العمل بمثابة المسرحية الأم، وكان بمثابة المسرحية الظاهرة كما نعتها عدد من المسرحيين. وقد عرضت المسرحية أكثر من ثلاثمائة وستين عرضا. واعترف الجميع بسعد الله عبد المجيد، وعاجل عبد الإله، ونجوم الزهرة.. ومن هناك، كانت انطلاقة الهواة بنجاح كبير، وبشكل جديد. فقد لعبنا فوق شاحنة، “سِيمَرْمُوكْ”، وفي الشارع، كما لعبنا على شاطئ البحر، وفي قاعات صغيرة، وقاعات كبيرة، وفوق السطوح. فلم يطرح على المسرحية مشكل القاعة، كانت مسرحية تتكيف مع كل مكان، وكل زمان. وكانت نقطة انطلاقتنا معا، أنا والزهرة، وكانت تلك المسرحية هي سبب زواجنا ورزقنا عصام، ونزار.. وهذه هي مرحلة الهواة بالنسبة لي.
- يعتبر معطف الصديقي واسعا، ومنه خرج معظم من يشتغل بالحقل المسرحي في بلد المغرب.. ما طبيعة العلاقة التي قد تكون ربطت بينك وبينه؟ وهل استفدت من كرم معرفته؟
- لم أشتغل مع الصديقي أبدا. ولم تربطني به علاقة، بينما اشتغل معه الزملاء الآخرون ومنهم فلان..
- ثقافة الممثل تقتضي في جانب منها القراءة الممتدة عبر الأجناس الأدبية والتاريخ والفلسفة.. وقراءة النصوص المسرحية بنهم لا يعرف الشبع ولا الامتلاء، إلى جانب التكوين النظري والممارسة ومعرفة تاريخ المسرح، وقد تحدثنا عن ترددك على مكتبة الحبوس، لا بد أن نصوصا بعينها اجتذبتك أكثر من غيرها..
- من بينها سلسلة المسرح العالمي الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، وما تزال خزانتي تحتوي على عدد من هذه المسرحيات، ومنها المسرحيات التركية، ولفت اعجابي مسرحيات أذكر منها: “افعل شيئا يا مت”..
- لعزيز نسين..
- ومسرحيات لبوشكين، و”إعداد الممثل” لستانيسلافسكي، ومجلدا يضم خمس مسرحيات لشكسبير، وموسوعات لبافيس، وقرأت كتبا عن الكوميديا والتراجيديا، وموسوعة المسرح العربي وتضم أجزاء، والشيطان في المسرح، وما قبل المسرح..
- لدريني خشبة..
- نعم، وهو رجل ترجم عدة كتب في المسرح منها “إعداد الممثل”، وغير ذلك كثير.. ثم كان هناك رف خاص بالمجلات. التي كانت تصدر بسوريا، ولبنان، وليبيا، ومصر.. ومنها مجلات تواكب المهرجانات التي تعقد بدول عربية منها تونس، ووهران بالجزائر، ومهرجان الاسكندرية… وهي مجلات تمكننا من متابعة المهرجانات المسرحية عن بعد. ثم عنيت بقراءة الفلسفة وما أزال أحتفظ بمعجم الفلاسفة مرتب ترتيبا أبجديا، وحين أريد البحث عن فيلسوف معين أذهب رأسا إلى الفهرس.. كما عنيت بقراءة الأدب وأتوفر على عدد من الأعمال الأدبية.. وكتب النواذر والضحك، ومنها “الضاحك والمضحك” لمحمود عباس العقاد، والبخلاء” للجاحظ.. ويستفيد ابناي من خزانتي الآن وتضم قرابة الأربعة ألف كتاب.. كما تضم كتبا مترجمة، ومعاجم متنوعة وغير ذلك. فهي كما يقال تضم من كل فن طرف. كما لي مكتبي الخاص، يضم جانب منه كل المسرحيات التي أديت دورا فيها، وجميع سيناريوهات الأعمال التلفزيونية، وأشياء تمثل ذكريات منها “البادج”، ومطويات المهرجانات، والصور.. وهناك جانب خاص بالجوائز المختلفة، والشواهد التقديرية..
- جاء تأسيس فرقة “مسرح الحي” بعد تقديم مسرحية “المدير الجديد”، وهناك حيثيات أثثت ظروف تشكيل الفرقة في الزمان والمكان..
- جاء “مسرح الحي” بعد تقديم مسرحية “المدير الجديد” بالفعل، وكنا قدمناها مع المسرح البلدي، تحت إدارة الأستاذ عبد اللطيف الزياتي. وكان من بين ممثليها الداسوكين، وعبد الإله عاجل، وفلان، وحمادي عمور، وماجدة بدر الدين رحمها الله، وسلوى الجوهري شافاها الله.. وقد حققت نجاحا أثار انتباه بعض المهتمين، آنذاك. فقد لاحظنا وجود فنانين بين جمهور المتفرجين دفع بهم صدى المسرحية إلى المجيء طلبا للفرجة. وهو أمر ناذر الحدوث في تاريخ المسرح. ورأينا رجالات الميدان المسرحي يطلبون استدعاءات لمشاهدة المسرحية لأنهم سمعوا بها، وبلغهم صدى حمولتها والأداء. ظللنا نعرض المسرحية طيلة سنة كاملة. وألم المرض بعبد اللطيف الزياتي، ولم يعد قادرا على إنجاز عمل جديد. اقتنع نور الدين، وفلان وعاجل أن يؤسسوا فرقة. بالرغم من أني كنت أشكل بمعية فلان ثنائيا..
- والثنائي بين فلان وعاجل يطلب وقفة هنا والآن..
- كان الثنائي عملا استثنائيا، في الحقيقة. والسبب أنه خلال سنة (1985) هدم المسرح، وتضاؤل اهتمامنا بالمسرح، فكرنا في تشكيل الثنائي، يومها. ولعبت الصدفة لعبتها، فقد جاء الموسم الثقافي ليدشن مرحلة السهرات، وكانت تنظمها وزارة الداخلية. كان إدريس البصري قد اقترح أن تكون سنة (1986) سنة ثقافية، تقام فيها سهرات بالمدن والأقاليم، ويكون هناك سباق المدن.. وقد أتيحت لنا تلك الفرصة، فشكلنا سنة (1985-1986) ذلك الثنائي، وبرز الثنائي، وقُدِّر حق تقديره، بالرغم من أنه لم يحض بالامتداد في الزمان والإبداع. وأيقننا أنه لا مستقبل له. وأنه لن يذهب بعيدا. وفكرنا في تأسيس فرقة مسرحية واخترنا لها اسما قديما، كان يسكن فؤاديْ فلان وعبد الرحيم محجوبي، هو “مسرح الحي”. وما لم أكن متفقا عليه هو أنه لا يعني مسرح الـ(quartier)، ليس مسرح الدرب، بل يعني (Le théâtre animé)، (Le théâtre vivant)، المسرح الحي، بالتعريف. [في هذه اللحظة بالذات نبت النادل بجانبنا، وقف ملقيا نظرة على عاجل، فقال له: أريد قهوة. فسأله الناذل، كحلة؟ فرد عاجل: لا، بيضاء.. وانفجر ضحكا.. ثم مستأنفا كأن شيئا لم يكن.] كانت تلك هي الانطلاقة. كان فلان، وعاجل، ونور الدين بكر، والداسوكين ممثلين. ثم نادينا على ممثلين آخرين، منهم نجوم الزهرة. وقد التحقت بنا بإرادة منها حتى لا يقال إن عاجل هو من نادى عليها، وذلك لأنها زوجته. فقد كانت تؤدي معنا، من قبل، ممثلة هي ماجدة بدر الدين، أدوارا في مسرحيات. وممثلة أخرى هي السعدية أزگون. التي لعبت دور أم بنات “لالة منانة”. وقد دشنت عملها في المسرح معنا نحن قبل أي فرقة أخرى. وكان العمل مسرحية لمولاي أحمد الزناگي.
- هي مسرحية “شارب عقلو”.. بالضبط!
- بالضبط، “شارب عقلو”. وموضوعها الانتخابات، حيث يستغل مرشح دارا فيحولها مقرا. وهو يدعي بل يشيع بين الناس أنه سيصلح تلك الدار، ثم يساعد الفقراء، بينما هو يتخذ منها مقرا للدعاية. وهو ما يقف عليه الناس والمتفرج فيما بعد، مع تقدم الأحداث. وقد قامت الفرقة على ثلاثة قوائم هي: فلان مدير إداري، ونور الدين سينوغراف ومكلف بالديكور، وعاجل مدير فني.. وانطلقت العمل، ودشننا التجربة بمسرحية “شارب عقلو”.. اعتبرت الفرقة تجربة في المسرح الاحترافي، ووجب أن تنجح التجربة، وشرعنا نقدم أعمالنا في المدن المغربية. قدمنا “شارب عقلو” في طنجة بالسينما موريطانيا، وتطوان بالسينما مونيمونطال، والعرائش بأفنيدا، وأكادير، ومراكش… ونحن نقوم بالجولات، التحقت ممثلة بالرفيق الأعلى، وهي ماجدة بدر الدين.
- هي الزوجة السابقة للمرحوم العربي باطما…
- نعم، وقد رزقت منه بولد يدعى مصطفى. غيبها الموت مرتديا رداء أزمة قلبية. فعوضتها نجوم الزهرة، وبذلك استطعنا متابعة الجولة وتكملة نشر الفرجة بين باقي أنحاء المغرب وتعميمها. وبهذه الطريقة انتمت الزهرة إلى فرقة “مسرح الحي”، وودعتها السعدية أزگون. بعد أن أنجزنا مع العربي باطمة مسرحية “العقل والسبورة” وقدمناها بفضاءات مسارح عدد من المدن المغربية. كانت المسرحية تعرض لموضوع التعليم العمومي، والتعليم الخاص. ومن يستغل هذا التعليم الخاص، الذي لم يولد للمتاجرة به وفيه، بل نشأ كأداة نضالية في مواجهة الاستعمار. كان الاستعمار يحارب اللغة العربية، ويسعى إلى منعها بطرق مختلفة، وأحاييل متنوعة. ولذلك أنشأ بعض الوطنيين المدارس الخاصة التي تعنى باللغة العربية. وقد مثل التعليم الخاص في انجلترا فرصة وسبيلا لتقديم دروس تكميلية وأداة للرفع من مستوى التلاميذ الذين يعانون بعض التأخير في التعليم العمومي، لأن استيعاب بعضهم بطيئ، وبعضهم الآخر يعاني من التأخر العقلي. بدأ التعليم الخاص من خلال حصص إضافية مؤدى عنها لتعويض جوانب النقص.. أما في المغرب، فقد أصبح هذا التعليم أداة للاغتناء، واحتياز السيارات، والفلل… حتى أصبح من العيب تقريبا القول “إن ابني يدرس بمدرسة المخزن”.. يقال مثلا: أين يدرس ابنك؟ بشحال؟ وأصبح هذا التعليم موضع تباه. كان الناس يتباهون بامتلاك السيارة، والفيلا، والأراضي.. والآن: “فِينْ تَيْقْرَى وَلْدَكْ؟ وُبَشْحَالْ؟” ثم يضيفون متسائلين: داخلي، أو نصف داخلي، أو خارجي؟.
- ترهلت القيم، وانتصرت قيم البورجوازية في حالتها الرثة.. لأنها نهبت، وراكمت المال، وما راكمت المعرفة.. ولعل رجال الوزرات ورجال البرلمان والغرفة جُوجْ نموذج لذلك، باعتبارهم ممثلين على امتداد ركح الوطن،كم واحدا منهم تستقيم لغة الوطن (مادامت الأمازيغية لا تعاني من الفصحى والدوارج) على لسانه؟
- فاتهم قطار المعرفة فاعترضوا سبيل قطار المال.. وسلبوا كل محتوياته.. مثلما في أفلام الويسترن.. لذلك انحصرت أحاديثهم في “بشحال”؟ و”آه، تيقري ولدو بسبعلاف درهم”! على أي.. في تلك اللحظة تحدثنا عن هذا التعليم، ونظرنا إليه من منظور محدد، وهي نظرتي الخاصة كمدير فني، إذ أتساءل دائما ما العمل المسرحي الذي يمكن أن يمسّ أوسع شرائح المجتمع؟ فتعرضنا لموضوع الانتخابات في مسرحية “شارب عقلو” موضوع يهم فئة البالغين، الذي يحق لهم التصويت. ومن لم يبلغوا بعد سن التصويت فقد لا يهمهم التصويت.
- والجمهور الهدف، هل يعتبر كله مهتما بالسياسة؟
- أتساءل معك، من يعتني بالسياسة: هل هو من ينتمي إلى حقلها أو حظيرتها، من يقترب من شأنها، من يمارسها أو يقترب منها فقط؟… إذن أخلص إلى أن عدد المهتمين بالسياسة عدد محدود نسبيا. قد يكون الموضوع يستهدف نسبة مئوية لا تتجاوز العشرين في المائة.
التناوب الحزبي على تعلم الحلاقة.. ورأس التعليم اليتيم..
- أما موضوع التعليم، فهو يستهدف المائة في المائة من المجتمع، تقريبا. فهذه الأغلبية الكبيرة انتمت إلى المدرسة، أو على الأقل إلى المسيد.. فالجميع يعرف ” يا اخوتي جاء المطر، هيا اجلسوا تحت الشجر”. والكل يعرف بوكماخ. فقد وظفت بوكماخ ونصوصه من خلال الأناشيد والمحفوظات في مسرحية “العقل والسبورة”. وفي هذه المسرحية، كان العربي باطما قد كتب عن المدرسة، مدرسة حرة. طلبت منه النص، وقد كان أطلق عليها “ثانوية العصافير”. وهو اسم ينضح تأنقا، وفيه كثير من روح “الشِيكِي”.. قال لي: أَشْنُو تَتَقْتَغَحْ؟ قلت له اقتراحاتي تعرفها بعد قراءة النص. قرأت النص عدة مرات، فتبين لي أن تلميذا بالمؤسسة فقد الذاكرة، والسبب فقد حالفه الحظ وسقطت سبورة على رأسه. درس حتى فقد الذاكرة.. قلت للعربي “العقل والسبورة”. فللعقل علاقة بالسبورة، وللسبورة علاقة بالعقل. رد العربي قائلا: “وَاعْغَة”. كانت للعربي علاقة صداقة متينة بالخياري، فطلب مني أن يلعب معنا الخياري، قال لي: “خَدَّمْ معك هادْ الدَرِّي”. وشارك معنا في الأداء عمر السيد. هيأنا العمل، قدمنا المسرحية طيلة سنة كاملة. ثم عرضت على شاشة التلفزة، ونالت إعجاب الناس. وقد أطلق عليها الناس “مدرسة المشاغبين المغربية”. قدمنا المسرحية عبر مائة وثلاثين عرضا.
- ووجب التفكير في عمل جديد.. فمن لا يتجاوز نجاحه باستمرار قد يتجاوزه.. القطار.. قطار الحياة..
- ليس جديدا فقط، بل عملا يتجاوز “العقل والسبورة”، بالفعل. وتساءلتُ، ما العمل الذي يمكن أن أؤثر من خلاله في المغاربة؟ فقد كان “مسرح الحي” يختار مسرحيات تمثل مواضيع الساعة.
والمسرح هبة جماعة لجماعة
- مواضيع حية، ليدل الاسم على الشيء.. على الجوهر..
- مسرحٌ حيٌ. يخاطب أي واحد من المغاربة. وحدث أن عرض علي أحد الشباب مسرحية، جاء به فلان قائلا إن لهذا الرجل مسرحية.. قرأتها، وكان عنوانها “فُوگْ السَلْكْ”..
- تقوم على أهمية الشخصية، بل تميزها..
- هناك شخصية خاصة جدا، حين تسأل صاحبها: “واشْ مْبَرَّعْ؟” يجيب “فُوگْ السَلْكْ”. مثل الطائر فوق (الفراكة) سلك عمود الكهرباء. لم يعجبني النص حين قرأته. ولكن طريقة إدارة الحوار لفتت انتباهي. كتب حوار النص بشكل جيد. قلت لفلان نادي على صديقك لأجلس معه. جاء الرجل، واسمه عبد الرزاق مستور. شاب جميل، ومثقف. يشتغل ممثلا لشركة “ريشبوند”. قلت له قرأت نص “فُوگْ السَلْكْ”، ولكن أمر النص لا يهمني. وتساءل: لم ناديت علي إذن؟ قلت له: لتكتب لي مسرحية أخرى. سألني لماذا؟ قلت له طريقة كتابتك للحوار جيدة. أنت ديالوگيست. قال لي: الله يجازيك بخير. وما موضوع المسرحية التي تريدني كتابتها؟ قلت له: الحراگة. ولم يكن أحد يتحدث عن الموضوع..
- باستثناء البحر، كان يبتلع المغاربة حتى تآخى السمك والمغاربة، ووجب منع أكل السمك على المغاربة لقرابة الدم.. كما تقول والدتي..
- تماما، ولا تعرض بار الأمان للموضوع، ولم يناقش تحت قبته..
- ولا ناقش الأمر اتحاد الكتاب، وهو الذي يعنى بل يجب أن يعكس نظريا صدى المجتمع، مثل اتحاد الوطني لطلبة المغرب ذات يوم.. والموضوع مطروح منذ عقود..
“إنك تضحك على نفسك”
- لكن دوري كفنان يلزمني بالتعرض للموضوع. قال: عاجل هذه مأساة. كيف تضحك الناس عبر مأساة؟. قلت له هل سمعت بمقولة كثرة الهم تضحك؟ قلت له أريد أن أضحك الناس عبر التطرق لهذا الموضوع.
- الصدمة التي تحدث الضحك وتحشر أنف رأسك في غيابة التفكير..
تساءل كيف يمكن أن نتوصل إلى ذلك. ما السبيل؟ قلت له سأضع لك بنية النص، ثم أحدد لك الشخصيات التي يجب أن تحضر في هذه المأساة، ثم اشتغل على كل ذلك. قال: اعطني فكرة عن الموضوع. قلت له: الفكرة تقوم على “هجرة دَمْغِيَّة” (ضاحكان). “إنسان حارگْ في بْلاَصْتُو”. لم يغادر بلده، بل حرق الحدود ولم يحتج جوازا ولا انتقالا إلى الميناء. قلت له من يقضي الليل ساهرا يدخن “جوانات”، ويصبح نائما حتى الواحدة صباحا ولم يغادر فراشه، وحين يستيقظ يقول: “تْفُو على بلاد، الله يلعن بوها بلاد”، فهذا انسان قد حرگ. ولو أن جسده لم يستطع التنقل عبر الجغرافية. قلت له ستبني شخصية ولد البلاد، هي الأولى، وولد البلاد درس بمعية الوزير، والقاضي.. لما كانوا صغارا.. ولما كبروا أصبح واحد وزيرا، والثاني قاضيا، والثالث عاملا على إقليم.. بينما بقي هو “ولد الدرب” يبيع “الدِيطَايْ”، السجائر بالتقسيط.. وذات مناسبة يمر الوزير بالحي، فيحييه: “لاباس، كِي دَايْرْ”، رغبة منه في إحياء لحظة من الماضي، حنينا إلى ذلك الزمن الذي يجتاحه، ويريد تلبية مطالب النفس. ويجد “ولد الدرب”، فينفحه دراهم معدودات.. وانتهى الأمر، لكن ولد البلاد، “عَايْقْ وفَايَقْ”، حْرَگْ ورجع، غادر البلد ثم عاد إليه عدة مرات.. وتعب، قام بعدة محاولات وفشلت جميعها، ورأى عددا من المرشحين إلى الهجرة يفقدون أرواحهم جراء حلم استبد بهم، ورغبة في خلاص أخطأ طريقه نحوهم.. قال عبد الرزاق، فهمت هذه الشخصية الأولى، ننتقل إلى الثانية. شاب حصل على الإجازة، ولم يحصل على عمل، ويرغب في الحصول على عيش كريم، ويرغب في الحريگ. قال: للحراگة جميعا مستوى واحدا، فهم لم يدرسوا، ولو فعلوا لحصلوا على عمل!” قلت له: أنا أريد مرشحا للحريگ درس وحصل على الإجازة..
- للفن ضروراته، والمجاز ضرب من الواقع ليتبين خيط الفن من خيط الواقع المباشر..
- تماما، وقلت له سيكون الثالث بدوي الأصول، باع بقرة كان يكسبها، وسيبيع أشياء أخرى ليؤدي ثمن حرق هويته الأولى..
- ولنا في الواقع، عبر ساكنة منطقة الفقيه بن صالح الغنية بمواردها الفلاحية المائية نموذجا حقيقا لهذه الشخصية..
- فليكن من الفقيه بن صالح! أما الشخصية الرابعة فهي شخصية عسكري (ضاحكان). فتساءل محتجا: كيف لعسكري أن يحرگ؟ قلت له يريد السفر للحصول على حقوقه من الرئيس “دوگول”! (ضاحكان). فقد حارب إلى جانب فرنسا، كما حارب إلى جانب الألمان، وعاد من دون تحصيل حقوقه والواجبات. ولا سنتيم.
والميدان منجم المعرفة
- التيمة ذاتها التي سعى فيلم “أبناء البلد”، Indigènes” توظيفها، فيما بعد (2006)، وأزاح الستار عن هذه الفئات الواسعة من هذه العينة…
- تماما، بعد سنوات.. نعم. وهكذا تكتمل الشخصيات إذ تشكل رباعيا مركبا، معقدا.. لا تجمع بين أعضائه إلا الرغبة الملحة في مغادرة البلد، والأحلام التي هي بسعة المحيط. قال: “غادي نْشُوفْ”. أضفت: العسكري يسكن أذنيه صوت القنابل والصدى إلى درجة أن كلمة “بليسي” ينطقها “باق” عبر محاكاة صوت قنبلة.. لكل شيء بُعْد الانفجار، لا شيء غير قابل للانفجار.. وابن البلد يريد العودة إلى الخارج لأن ابن عمه اشترى سيارة، وعمارة.. والطالب السابق يريد الرحيل لتتمة دراسته بهذا الخارج.. تضاربت الأهواء، والرغبة واحدة.. كتب الفصل الأول وهو الوارد بالقرب من رصيف الميناء، لما شرع الديالوگيست في الكتابة، زرت قبطان يشتغل بالمرسى قصد الحصول على ترخيص لزيارة سفينة، والمشتغلين بها، والركاب.. والحراگة.. فقد سألت القبطان: هل يوجد حراگة بالمكان والأرجاء؟ رد قائلا: يوجد نصيب منهم. يمكن البحث عنهم واللقاء بهم، وليس من الضروري أن أبعث بك إلى الأمكنة التي يحتلونها أو يقيمون بها.. ثم تساءل: ماذا تهيئ يا عاجل؟ قلت: أهيء مسرحية.. وهكذا بدأت أتردد على القبطان وهو صديق حميم، يقدم لي كأس شاي، ثم يحصل لي على إذن السماح بالدخول إلى الميناء من رجال الأمن.. وهاهو واقع الميناء على سعته أمام ناظري..البحارة، والمعدات، والسفينة، والحراگة.. وقد شكلت الزيارات وصديقي دعامة مهمة للمشروع.. وكنت أحصل على تسمية كل أجزاء السفينة، ووظائفها، وأسجل كل المعلومات لأقدمها لمن يكتب ليوظفها.. وكذلك عرفت الرتب: من هو القبطان، من هو النقيب، ثم وجهني القبطان نحو مكان معين قائلا: لن أرافقك، عول على نفسك وستكتشف ما تساعدك عليه نباهتك وفضولك. نزلت إلى المكان الذي تدخل إليه السيارات والشاحنات.. ويطلق عليه بحسب القبطان “الشقف”. وهو الذي سيصعد منه البطل في فيلم “تايتانيك”، ويكون بعيدا عن “الفرفارة”.. من الجهة الأمامية للسفينة. تقدمت وأنا أعتمد على لمس الجدار، فسمعت خشخشة. فقلت في الاتجاه الذي صدر منه الصوت: “الخُّوتْ، حتى أنا حَارگْ، وحصلت هنا.. عَاوْنُوني الله يرحم الوالدين”.. سمعت أحدهم يقول، سِرْ فْحَالَكْ”، وآخر يقترح: “سِرْ دُورْ من جهة كذا، وكذا…” سجلت كل المعلومات في الذاكرة عبر السماع، فلست أستطيع تدوينها.. عدت إلى البيت، دونتها بدقة، قدمتها للديالوگيست، قلت له: وظف كل هذه المعطيات. لما كتب كل ذلك، قسمته إلى ثلاثة فصول…
والإبداع مغامرة وجنون
- والحقيقة فقد عرفت المسرحية نجاحا كبيرا، أذكر ذلك من صدى الناس، المتفرجين على الركح والمشاهدين للشاشة الصغرى، وتبينت حسنات البحث، وحسن استغلال معطيات الميدان..
- نجاح كبير، انتاج ضخم، اخراج دعمته مؤسسة مجموعة (أونا)، لم نحتج دعم مسرح محمد الخامس، ولا وزارة الثقافة. وقد ساندنا محمد قاوتي، فهو من جلب لنا دعم (أونا).. وكانت الدعاية للمسرحية عبر طائرة، في مراكش، وقد أسقطت من السماء (000) نشرة إعلانية فوق ساحة جامع الفنا.. لدرجة أن أحد المواطنين قال معلقا: “لم نر هذا الأمر منذ عهد محمد الخامس، وها هم أولاد كازا، “مسرح الحي” يقومون به”! وفي الوقت ذاته، كان شاب يعبر المكان يمتطي سيارة هوندا، يقوم بدعاية لمنتوج معين، فقال له مواطن لاحظ التناقض بين الأداتين: “وَسِيرْ دَرَّگْ دِيكْ الشَقْفَة، كازا دَارُوها بالطيارة.. كُونْ كان البحر في مراكش كُونْ دَرُوهَا بالبَّاطُّو…” تَقْشَابْ مراكشي.. وقد لعبنا المسرحية في قصر المؤتمرات، خلال ثلاثة أيام متتالية، ودائما كانت القاعة (archicomplet)، (archicomplet)، (archicomplet)…مملوءة عن آخرها.. وكان بالإمكان أن تسمع خلال يوم معين: “وكما جاء من صور ومشاهد لفرقة “مسرح الحي” عن الأزمة التي يعيشها المغرب من خلال قوارب الموت، التي تطرق إليها “مسرح الحي” بنجاح…” هذا الكلام في البرلمان.. فتحس أن البرلمانيين ركبوا موجة المسرحية كي يذروا دموع التأييد..
- تعرف السي عاجل أن المسرح (وغيره من الأجناس الأدبية والسينما) تأريخ فني للمجتمع وناشر متعة.. بل ويرفع قضايا المجتمع ويضعها على رأس جدول الوعي والاهتمام.. نذكر مسرحية “بيت الدمى” لإبسن الذي هز المجتمع والأوساط الدينية حين انتقد وضع المرأة، وحيلولة مؤسسة الزواج دون تحقيق ذاتها..ومنع المسرحية في معظم أنحاء أوربا، وطلبت دول من إبسن تغيير نهاية المسرحية…
- بالفعل، مثلما هو الأمر بالنسبة لفيلم “صمت الحُمْلان” الذي علم النساء احتراف مهنة البحث في الجريمة.. إذ لوحظ أن تأثير المرأة على المجرم في التحقيق أقوى من الرجل..
- وشكلت مسرحية “حسي مسي” الخطوة التالية في سبيل ألف الميل من التجاوز..
- بالفعل، تقدم العمل والتجاوز وتواصل. وكانت مسرحية “حسي مسي”، والأهم في الأمر أن اتصل بي رجال المقاومة وجيش التحرير، ومنهم أصحاب مراتب رفيعة، قباطنة، وعُقَداء.. وقالوا إنه أمر مفرح وينشرح له الصدر أن فنانا يتحدث عنا، وعن عملنا.. فالمسرح يعج بشخصيات المحامي، والطبيب، والمرشح الانتخابي، والمعلم… ولا أحد اهتم بالجندي.. وقد كنت زرت ثكنات عسكرية، ووقفت على نمط الحياة التي تعج به..
- يمكن القول إنك أضأت منطقة مهمة في المجتمع كانت تعاني من العتمة..
- تماما، هي مؤسسة يقال عنها شبه مقدسة، ولكني عرضت لها من جانب إيجابي، موضوعي، لا يخلو من عمق سياسي، ولكنه لا يمس شيئا من مقدسات البلد.. والجندي، مواطن له الحق أن يطالب بحقه، وهو ما شرع يتعرض له البعض كما أشرتَ إلى ذلك، وكما تعرض له مسرحية “قنبولة”، الآن، بشكل فكاهي.. ورغم قساوة الحدث وهو مأساة قوارب الموت، وفقدان عائلات لفلذات أكبادها، واستمرار الألم والجرح ينهش الأفئدة.. حاولت أن أضحك الناس بهمومهم، وأضحكت الناس عن همومهم..
- يلاحظ أن عمل “مسرح اليوم” يؤطره هاجس معين يجعل الأعمال التي قدمها تقدم مقاربة تتكامل فصولها والملامح، وقد يقال تقدم عناية خاصة بمشاكل تسكن المجتمع، وتتكامل فيما بينها لتقدم صورة عامة عن المجتمع.. كما أشرتُ إلى ذلك نوع من تأريخ فني للمجتمع وقضاياه..
- بالفعل، هناك تكامل وعناية بالمجتمع وقضاياه من خلال ثلاثية أو رباعية، مثلا نتحدث عن ثلاثية نجيب محفوظ.. وبالنسبة لنا هناك رباعية “لمسرح الحي”، بدأت بتلاعب بعض السياسيين في “شارب عقلو”، وانتقلت إلى تأثير تلك السياسة والتخطيط أو انعدامه في مجال التعليم “العقل والسبورة”، وأدى فشل التعليم إلى الهجرة، وفشل الهجرة أو استاحالتها إلى الجنون.. كما تجلى في مسرحية “شرح ملح” وعكسته. طبعا، وجب أن يكون الطرح في هذه المسرحية الأخيرة أقوى من سابقتها “حسي مسي”، لأن “شرح ملح” هي (l’extase)، النشوة القصوى، قمة الافتتان وهذا ما حدث. فالإنسان الذي يمرض، ولا يعنى بنفسه، ولا تمارس في البلد سياسة تخدم البلد والناس، يشرع الناس في البحث عن حلول فردية منها الهجرة إلى بلاد الله الواسعة… وحين لا تتحقق هذه الهجرة يؤدي كل ذلك إلى الجنون. ويجب أن نعرف كيف نطرح تيمة الجنون، فبعد نجاح عملية “حسي مسي”، ناقشت مع الكاتب أن يكتب مسرحية “شرح ملح”، وهو موضوع مغاير. وقد قادتني كتابة هذه المسرحية إلى الذهاب مرات عدة إلى مدينة برشيد، لزيارة مستشفى الأمراض العقلية حتى ربطت بيني وبين المسئول علاقة تشبه القرابة. حصلت على الترخيص من الإدارة، شريطة أن لا أحمل معي آلة تصوير ولا كاميرا.. وكنت أحمل معي مذكرة وقلم حبر جاف. وطُرح علي السؤال: هل نحن المجانين أم هم المجانين؟ عثرت هناك على مجانين يتحدثون إلى غيرهم وإلى الآخر، وآخرون يخلدون إلى الصمت، وهناك من يلجأ إلى الكتابة، وهناك المجنون الذي يرسم، والبورجوازي، والمعدم.. ومن كل أنواع الفئات والطبقات.. أنواع شتى، لا يحصيها العد. وذات لحظة طرأت على البال فكرة الحديث في موضوع إدارة مستشفى الأمراض العقلية. فقد رأيت كيف يتحدث الإداريون والمسئولون إلى هؤلاء النزلاء. ويستحيل أن تقف على تجارب ملموسة في هذا المكان، فقد كنت لا تسمع إلا: “أجي أنت، ماذا تفعل، سر ادخل…” لا يمكن أن تستمع إلى حديث اكتملت ملامحه ليشكل نقطة انطلاق، وحين تتحدث إلى أطباء مثل زيوزيو وغيره تكون الأجوبة ضبابية، غير واضحة، ولا مكتملة، وتنحو نحو لغة عالمة لا تفيد في التواصل بل تقطع أرحامه.. وكان لي أخ يقيم بفرنسا، وهو محام، طلبت منه أن يبحث لي عن أفلام وثائقية عن مستشفيات الأمراض العقلية والنزلاء. فزودني بأفلام وثائقية من إيطاليا.. ويتحدث فيه علماء نفس، ومحللين نفسانيين.. وقد استفدت من خلاصاتهم، وأفكارهم.. بل استوحيت شكل المستشفى نفسه من تلك الأفلام الوثائقية رغبة مني في الاعتماد على مستشفى نظيف، ويحترم المعايير الدولية، فالوسخ يسكن الذهن. وهو ما ولد فكرة اقترحت على السي مستور أن يضيفها إلى النص. وتجلى ذلك في لجنة تزور المستشفى وتكون مشكلة من دكتورة ومفتش.. [لحظتها التحقت بنا الزهرة، حرم عبد الإله. بعد التحية، خلدت إلى الصمت. وتابعت الحديث.. ولحظتها تذكرت كيف راقص عاجل حرمه أثناء لحظة تكريمها بطنجة وقبل يدها.. أمام الملأ.. سمعت كائنا خلفي يقول: باقة الزهرة ساكنة قلبو، وجاره يعلق: هما ممثلان، لا تعرف أين يبدأ التمثيل وأين ينتهي.. وغطت التصفيقات على بقية الحديث..]
- تسكنك فكرة أن المرأة تصلح في التحقيق أكثر من الرجل، وتلك بعض فاكهة الفرجة السينمائية.. لاحظ السي عبد الإله كم يصقل الفن بمختلف أنواعه الذوق ويؤثر في المخلوقات الناطقة..
- طبعا، السينما والمسرح أداتي تعلم والرفع من درجات التفكير والوعي.. والمفتش متخصص في التدقيق في الحسابات، والدكتورة تنقب وتفتش في طريقة التعامل، واللوجيستيك، والعناية الصحية بالنزلاء.. وبعد عرض المسرحية، بدأ الناس يتعاطفون مع المجانين الذين يجوبون شوارع المدن. وتلاحظ اللازمة التي ظل يرددها النزيل في المسرحية: “يَاكْ أنا عَا مْصَطِّي”! ثم اعتنى الجمهور المغربي باللازمة التي وظفتها في المسرحية: “عَاعْ، عَاعْ…” وأصبح الجمهور يكررها في ملاعب كرة القدم، حين يمرر لاعب الكرة من بين رجلي خصمه يصرخ الناس: “عَاعْ، عَاعْ…”. وهي عبارة طرأت على البال لحظة التمرين، وليست مكتوبة في النص. بالإضافة إلى الدكتورة والمفتش، هناك “ماجور” المستشفى وهو المسير الحقيقي، والمدير الفعلي للمستشفى. لا تفوته شاذة ولا فاذة. لا يفوته شيء، ويتحكم في كل شيء. وله تحت يده وفي خدمته ممرضان، وهما مختلفان عن بعضهما البعض، واحد إيجابي والآخر سلبي.
أعز ما يشتهى: عدم الافلات من العقاب
- قد يجسدان موقفي الجمهور ووجهة التعاطف..
- بالفعل، فهما يجسدان اختلاف الجمهور، ويجسدان موقفيه ووجهة نظر الناس. حين يقول واحد: “وَمَالُو أَشْ تَيْدِيرْ”؟، يجب الآخر: “وَالُو: تَيْهَزْ غِيرْ لِيزَارْ ويَدِّيهْ لْدَارُو. ونْهارْ دَارْ العرس لْبَنْتُو هَزْ طْوابَلْ والكْراسَا. بْقَا لِيهْ نْوَامَسْ تَاهُومَا يِدِّيهُمْ”. وبذلك يشفي الجمهور غليله عبر ما يدور بين الاثنين.. أما الماجور فهو كبير الأبالسة. وقد جاءت الدكتورة أمال والمفتش الميلودي للبحث والتقصي لمعرفة ما يقع في المستشفى، فيجدان “التخت” والعجين الحامض. وحين يبدآن بمعرفة نوع النزلاء، وطبيعتهم يجدان العجب: هذا برلماني نهب أموال الشعب، وليفلت من العقاب ادعى الجنون، “حُمْقٌ يتحامق، أم هو أحمق يتحامق”: يتحامق على السلطة، يتحامق على الدولة، على الناس… ويجدان فقيها وعدوه اللدود وهو المحلل النفسي، لأنه يزاحمه في الحرفة. يخصص له الماجور مكانا في المستشفى ليمارس الشعوذة، فلا شفاء منها. يمارس المهنة ويجني الأموال..
- لعل اختيار الشخصيتين يستهدف ابراز الخلاف بين الممارستين..
- طبعا، الاختلاف بين التحليل النفسي والشعوذة، والفرق بينهما شاسع جدا، ويحتار الناس في اللجوء إلى الفقيه أو الطبيب النفسي. ويلجأ الوزير إلى الأول ولا يذهب إلى الثاني. تخيل فقيها يقول: “أنا تَنْدَاوي السيدا؟!؟ أنا دَاوِيتْ لاَفَاشْ فُّولْ”؟ وقد يضيف الآن مع تطور الأمراض والأوبئة واكتشافها: إيبولا.. وهناك مْخَزْنِي أحمق: “أَبَّا مدان”، كان القايْد هو سبب فقدانه عقله. هو خادمه، وربما عرف أكثر مما يجب فوجب التخلص منه.. وأصبح لسان حال القايد: يقول قال لي القايد…. الصُبَّاطْ زَيَّرْنِي، شْكُونْ زَيَّرْنِي؟ القايد.. هو اللِّي زَيَّرْ الصُبَّاطْ.. تَنَغْسَلْ لِيهْ الطوموبيل.. أعْطانِي نْسِينِي وأنا نْسيني ومْشِيتْ فيها.. ها هو، هو اللي گال ليَا نْسِينِي، وأنا نْسِيني.. مْشِيتْ فيها، هو اللِّي گال ليَّا نْسِينِي، ها هو… وعْلاَشْ سِينِيتِي؟ گالها ليا القايد.. كال ليكم القايد هْدَاوْا.. ” وواقع حال القايد والمخزني، هو ذاته واقع المدير، في أي موقع كان هذا المدير، وكان الوزير..
- هو عينة لفئة أو قطاع واسع يجعل “الوظيفة” مطية لنهب الرعية الصامتة، الصامدة في وجه الحَلْبِ العنيف..
- تماما، هو نموذج، والمسرحية مثال للمجتمع.. نموذج مصغر منه.. وقد عثرت في المستشفى على مريض درس مع زميل له في بلجيكا، زميله عاد إلى المغرب وقد أصبح طبيبا نفسيا، وهو وقد فقد عقله.. يكتب الشعر، وحصل على دوكتوراه في النمو الديمغرافي. سألته ذات حديث: “لم لاتغادر المستشفى؟”، رد قائلا: عثرت في هذا المكان على ما كنت أفتقده: “الراحة النفسية”. قلت له: “غادر المستشفى، أنت مثقف و لابد أن تفيد في أي موقع كنت”.. أجاب: “مَا كَايْنْشْ مع من”.. قلت له: “يجب أن نخرج معا، الآن، لترى العالم، سأطلب ترخيصا من المدير”. [التفت عاجل نحو الزهرة التي كانت تجلس إلى جانبه وسألها: تذكرين المجنون الذي أخرجته من المستشفى ذات يوم؟”. قالت: نعم، دْيَالْ دِيما؟” قال: نعم، سأحكي له الأمر”. تابع عاجل:] وللتمكن من إخراجه من المستشفى طلبت الترخيص وأخبرت الإدارة أني سآخذه معي إلى الدار البيضاء، لحظتها قيل لي هو لطيف جدا. جلبت له لباسا محترما، ودخلنا مقهى ومطعم بالمرسى، ينقسم إلى قسمين، طابق علوي أثمنة الطعام فيه مرتفعة جدا، واخترنا الجانب السفلي من المكان. جلسنا وقلت لرفيقي تشرب قال نعم، طلبت ما يشرب، قلت له تأكل، قال نعم، قلت له تشرب ثم تأكل أم تأكل ثم تشرب؟ قال: إِيِّيهْ: نشرب عاد ناكل، وناكل عاد نشرب.. طلبت سلطة خضراء لكل واحد، وجلب النادل شوكة لكل منا. ظل يقرب الشوكة من السلطة ولا يأكل.. قلت له: كُلْ، رد قائلا: أنا آكل. سألته منذ متى لم يأكل “شلاظة”؟ رد قائلا: “إِيهْ شلاظة، تكونْ هَادِي، تكون هادي شِي دِيمَا (ضاحكان). واحتفظت بهذه العبارة البليغة ووظفتها في المسرحية… كانت الدكتورة أمل تدخل علي فجأة وأنا أحمل المحقنة، لتخدير المريض، فتسألني منذ متى وأنتم تحقنون المرضى؟ أجيبها: تكون هادي شي ديما..
- السي عبد الإله، لدوستويفسكي قول حكيم، قال: “الواقع أغرب من الخيال”. يصعب تشكيل هذه العبارة، ومضمونها.. وها هو الرجل أمدك بها بسهولة ويسر..
- صحيح، صحيح، ولعل السبب في نجاح تجربة “مسرح الحي” وأعماله هو البحث الذي قام به عبد ربه.. وكتابة مستور، بطبيعة الحال، وإدارة فلان التي كانت تقوم على دعاية قوية..
الفيض خارج الذات
- ثم كانت هناك تجربة أخرى من حيث الكتابة وغياب البحث الذي ألفت أن تقوم به، وهي التي جمعت بين “مسرح الحي”، والفقيه محمد قاوتي..
- إن المسرحية الأخيرة التي اشتغلنا عليها، والتي كتبها محمد قاوتي، ووظف فيها لغة جهة الشاوية ورديغة، لم تكن فصلت على مقاس وتجربة “مسرح الحي”.. ولم يستطع الممثلون التعامل معها باستثناء دوري أنا، تحت اسم قاسم، والزهرة والمعلم، وفهيد أيضا أدى الدور كما أُنيط به، ولكن بعض العناصر الأخرى مثل الخياري، وفلان، ونور الدين بكر… لم يستطيعوا الانخراط في العمل جسدا وروحا. ولم يتفاعل الجمهور مع الفرقة كما ألف، مع الطريقة.. مما يبين أن النص ليس مفصلا على مقاس “مسرح الحي”، وتم تطريزه ليلائمه.. أعتقد أنه نص كتب ليؤديه ممثلون آخرون..
- ألا تشعر أن تجربة “مسرح اليوم” يجب أن لا تنطفئ.. وتتخذ شكلا أو أشكالا مغايرة، ولو بفريق آخر.. ما دمت قادرا على الملاكمة؟
- صحيح، وهناك عمل في الأفق. ويتناول موضوعا لا ينتبه إليه أحد. ولكن هناك عدد كبير من الناس يستغل هذا الأمر، بشكل كبير. أقصد موضوع “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” نفسها. وقد لمسنا هذا الموضوع في مسرحية “شرح ملح”، حين يقال “دكتور في التنمية البشرية”، ولم تكن فكرة التنمية البشرية قد ظهرت ولا كيانها، ولا الفروع.. فهذه المبادرة يستغلها بعض الناس من كل الأنحاء، ويستحوذون على خيراتها.. وأصبحت الجمعيات تفرخ كأنها دجاج رومي وكالفطر..وقد تناول بريشت هذه القضية منذ بداية العشرينيات،
- في مسرحية “أوبرا أربع بنسات”..
- نعم.. وقد اشتغلت على مسرحية “أوبرا أربع بنسات” بمعية سعد الله عبد المجيد، وبمكتبتي الآن نسخة لنص مستنبت من مسرحية بريشت، ونص مكتوب للتصور الإخراجي للعمل، ونص للتصور السينوغرافي مكتوب أيضا، وتحليل مكتوب أيضا لكل شخصية، وبحوزتي ملخص مكتوب للنص، والنص أيضا مكتوب..
الوطن للجميع.. وإِقَرِيضَنْ للنخب..
- وأي شيطان يكبل يديك على المبادرة.. الشخصية.. أنت المجنون الذي يركب الهبال؟
- تنقص روح “مسرح الحي” التي كانت تدثرنا، والإقدام الذي جعل منا مَقاديم في مسرحيات “العقل والسبورة”، و”حسي مسي”، و”شرح ملح”.. ولحظتها أنا مستعد للاشتغال.. حين تتوفر هذه الروح.. وإذا كنا سنسعى إلى مواجهة نوع من البشر قصد تصحيح أخطاء ترتكب من لدن مستغلين، مستبدين، ومختلسين للمال العام ومجرمين في حق البلد، والمواطن، يجب علينا نحن جميعا، كفرقة “مسرح الحي”، أن نقدم صورة عنا أننا نُصحح هؤلاء الناس ولا نمثل هؤلاء الناس. نحن نعالج قضايا وظواهر ونصحح سلوكات فئات بشرية.. ونقوم بدور التلقيح لأناس فاسدين، هم بمثابة فيروس ينخر جسد المجتمع، ويجب تلقيح الجسد للقضاء على الفيروس.. يجب أن نقضي على فيروس جمعيات وأفراد تؤسس لنهب المال العام، تستغل مساعي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” وشعار “لنتحد ضد الحاجة”، فتنمي مصالحها وتقضي حوائجها.. كما يستغل آخرون مناسبة الموت، فيبادرون بتنظيم “حفل” التأبين لجمع المال.. بسطاوي مات، فهل يظل كل واحد ينتهز “الفرصة” ويغتني… ولو أتيح للراحل أن ينهض من قبره لقال: “بَارَكا عليَّا”! بينما يجب أن تنصب العناية على الأحياء المرضى خاصة. لمن هو طريح الفراش، ويقدم له ما جمع من مال لينتفع به.. وهو حي.. جمع المال لبسطاوي، هل لشراء الماء وصبه على قبره؟!
- قد يصبح الأمر ممكنا لو تم التنصيص في دفتر التحملات أن زيارات صب الماء ستظل تتكرر ما دام جامع المال حيا!! يرزق وحده!! لو بقينا ضمن ملف “إِقَرِيضَنْ”، وأبديت هذه الملاحظة أن مقادير الدعم الموجهة لقطاع السينما تتجاوز بكثير تلك الموجهة لقطاع المسرح؟
- لأن تلك الجهات لا تعرف المسرح، ولا تعرف قيمة المسرح. وقد بينت التجربة أن كثيرا من الناس لا تستوعب معنى المسرح. فهل كانت تسمية المسرح “أب الفنون” مجانية واعتباطية؟ وللعبارة معنيان، الأول: لأنه أول فن ظهر على وجه البسيطة، والثاني لأنه يجمع بين سبعة فنون: كل الفنون؛ الرقص، والسينما، والموسيقى، والشعر، والرسم.. ويبدو لي أن الجهة المشرفة على الدعم تُدلل الابن، وتهين الأب تحت ذريعة أن حاجيات الأب أقل من حاجيات الابن! بينما الأب هو الجدير بالاحتضان. فهو يقدم ساعة ونصف الساعة من الفرجة، مثل ابنه. ولكن المسرحية تحتاج مصاريف مستمرة: أداء واجبات الممثلين مع كل عرض، وواجبات النقل، وواجبات الفندق، وقاعة السينما حيث يتم العرض.. بينما في السينما يحتاج العرض القرص المدمج للعرض.. لا تحتاج “السْتَافْ” كله لتعيد التصوير أمام الجمهور.. ولهذا وجب أن يُدعم المسرح بأكثر مما تُدعم به السينما. صندوق الدعم ينتج الفيلم ب(450) مليون سنتيم، والتلفزيون ينتج الفيلم التلفزي ب(120) مليون سنتيم.. بينما تنتج المسرحية، ولا تتوقف المصاريف.. تُنتجُ المسرحية بْجُوجْ دَرْيَالْ! لم المسرح فقير؟ ولا يعتمد ديكورا ضخما، لأن يفتقر إلى المال، لو قدمت له مائة مليون لأبدع خشبة تدور، وتطير، وتنزل تختفي تماما.. والله، لو حصلت على دعم مقداره مائة مليون، لوظفت فيها مائة ممثل، وأؤدي لكل ممثل أجرا مقداره (5000) درهم لكل عرض، وتبقى بحوزتي خمسين مليون أوظفها في الكوستيم، والديكور… وبذلك نضمن الرقي للمسرح.. مع العلم ان المسرحية قد تنتج بعشرين أو ثلاثين مليون.. ولكن الفرقة تحصل على (15) مليون، ثم يتم تصويرها وعرضها.. ويمكنك القدر المالي من شراء “قَنْبَة، وخَيْشَة، وسَلُّومْ، وكرسي”..
أحاديث الذات..
لم يحدث أن حاورت أديبا أو مفكرا أو فنانا وتحكم في الحوار والحديث حيز المطبوع حيث سينشر (ومنه “مجلة دراسة الفرجة”) بل تحكم فيه على الدوام تكوين أرشيف وحفظه. كل فعل الانسان ملك للأيام.. وقد جاب الحديث مع عاجل مواضيع أخرى ومحطات.. ومنها موضوع “لغة الشارع”، و”الكلام النابي” في السينما المغربية وبعض المسرح. وكان كلامه لا يخلو من حكمة. فهو يرى أن على الممثل أن يبتعد عن كل ما يمس أخلاق المجتمع.. وعليه أن يحافظ على من يحبه من الناس وهم جمهوره، وهم رأسماله. والفنان من دون جمهور ليس فنانا. ولا يمكن الزعم أن جمهور الفنان المغربي يوازي جمهور لاعبي كرة القدم، ولكنه جمهور نسبي له علاقة بحجم البلد، وعاشقي الفرجة. لذلك على الممثل أن يحتاط، ويحافظ على هذا الجمهور، ولا يرتكب حماقة تبعد عنه هذه الفئات التي تقدره وتقدر فنه. فهو لم يحصل على هذا الجمهور إلا بعد عمل شاق.. فكيف يبدد هذه الثروة بسهولة… وأسأله:
- حرصا على الجمهور؟
- طبعا، على الجمهور، وعلى نفسي أيضا.. أنا رجل أحترم نفسي. ليس حرصا على الجمهور وحده، وهو جمهور أقدسه، ولكنني أحترم نفسي..
- يبدو أن النمل يعرف عاجل.. كما خلصنا إلى ذلك في جلسة سابقة..
- طبعا، النمل يعرف عاجل، وإذا سمعه يتفوه بكلمة نابية تهتز طمأنينته. لست سيدنا سليمان، حاشا ميعاد الله، ولكني قصدت تقديم صورة.. تعرف القطط، والنمل.. أن عاجلا يمارس المسرح.. أقسم لك بالله، أني ذات يوم ومن دون مبالغة وهناك شهود رأوا ما رأيت.. كنت راكبا سيارة، ولأني لا أقود السيارة، كنت سارحا في النظر إلى السحاب، فرأيت بأم عيني عبارة “حسي مسي”، حاء سين ياء، ميم سين ياء.. مكتوبة في السحاب ولا تخطئها العين.. نحن نتحدث عن الأموات، ونحن نثلج صدور الناس، ونعالج همومهم، ونخفف عنهم.. وذات يوم لجأ رجل مسن إلى تقبيل يدي.. قلت له “حاشا ميعاد الله”، قال لي: “كَتْفَوْجُوا علينا، كَتْقَرِّيوْنَا، كَتْنَبْهُونا”.. تعجبت من كلامه، فقال “أنا قْرِيتْ بكم، من خلال برنامج “ألف لام””، قال: “لم أكن أعرف الحروف، وتابعت البرنامج، وحين أكون خارج البيت كنت أقول لابنتي أن تسجل الحلقة حتى لا تفوتني. وما زلت أعيد مشاهدة تلك الحلقات”..
طوبى للفن والجمهور في هذا المغرب..