- د. حسن يوسفي
* التخييل المسرحي والذاكرة:
لا أحد يجادل في كون المسرح، منذ أن وجد، جعل من الذاكرة، باعتبارها خزانا للتجارب الفردية والجماعية التي عاشها الإنسان، فعليا أو رمزيا، مصدرا لبناء متخيله. ذلك أن العديد من الأساطير القديمة والأحداث التاريخية الماضية سرعان ما شكلت منطلقا إبداعيا للعديد من الأعمال الخالدة في المسرح اليوناني، بالنظر إلى ما تعكسه من مواقف ورؤى تتصل بعلاقة الإنسان بالكون وبالزمن وبالذات. كما أن العديد من الكلاسيكيات الشهيرة في تاريخ المسرح الغربي جعلت من الذاكرة التاريخية المتصلة بحكام وشعوب وقوميات مصدرا للإلهام المسرحي مستحضرة أبطالا تاريخيين وأحداثا، فردية أو جماعية، متصلة بمساراتهم السياسية وبفترات حكمهم كما فعل شكسبير في جل أعماله المسرحية.
وبالقدر الذي شكلت الذاكرة الجمعية منطلقا للإبداع المسرحي، كان للذاكرة الفردية بما تختزنه من تجارب خاصة وأحداث ذاتية، حضورها القوي في العديد من التجارب المسرحية العالمية. ولعل هذا الحضور القوي للذاكرة في الإبداع المسرحي وفي غيره هو الذي جعل البعض يؤكد “بأن الكتابة الإبداعية هي في عمقها “كتابة الذاكرة”: أن نكتب ذاكرتنا، معناه نتخلى عن وهم محاكاة “الواقع” ونحرر اللغة من ترجمة المرئي، ونرتاد فوضى التخييل المنفتح على أكثر من سجل والمكتسب شرعيته من ما يرتديه من غلائل إستيتيقية”(1).
إن هذا الارتباط بين التخييل والذاكرة بما يتيحه للإبداع من آفاق للتحرر والانفتاح، يجعل “التخييل بمثابة ذاكرة مفتوحة تتجمع داخلها أزمنة متباينة ووقائع غير متجانسة، وملامح وشخوص شديدة الاختلاف. والتخييل، مثل الذاكرة، يخضع للانتقاء والنزوة والصدفة المحرضة”(2). ولعل هذا ما يدفعنا إلى مساءلة الكيفية أو الصيغة التي يستحضر بها التخييل المسرحي عناصر الذاكرة، جماعية كانت أم فردية.
فالمعروف عن الذاكرة أنها انتقائية وتقريبية ومحولة للمعيش، وذلك بالنظر إلى كونها “تدبيرا للنسيان”، وبالتالي فإن ذلك يجعلها خزانا للآثار المتبقية التي انطبعت في الذات من أحداث ووقائع تمت معايشتها عن كثب أو تسربت إلى اللاشعور عبر قنوات رمزية مختلفة من خلال ما تتقاسمه الذات الفردية مع الجماعة من تبادلات وعلاقات وتفاعلات. من ثم، فالذاكرة ليست سجلا لريبرتوار الأحداث والتفاصيل التي تمت معايشتها، وإنما لما انصهر منها في ذات الإنسان وبقي على شكل آثار أو جروح أو ندوب أو حكايات جميلة أو حزينة. فالذاكرة هي ما يتبقى موشوما في الوعي الفردي والجماعي من تجارب ماضية.
بهذا المعنى، نفهم كيف يمكن للذاكرة، عندما تصبح سندا للتخييل المسرحي، أن تتحول وتتبلور وتنصهر في عناصر التخييل الأخرى بما فيها الشخوص والفضاءات واللغة. ذلك أن من صميم الاشتغال الإبداعي على الذاكرة إخضاعها للصنعة المتخيلة التي تقوم على المحتمل vraisemblable بالقدر الذي تستقي الكثير من مقوماتها من الواقعي réel.
* التخييل المسرحي بالمغرب و”ذاكرة سنوات الرصاص”:
في ضوء ما سبق، يمكن أن ننظر إلى التجربة المسرحية المغربية في تعاملها مع ذاكرة ما عرف، في تاريخ المغرب المعاصر، ب “سنوات الرصاص” وهي الفترة التي عاش خلالها المغرب تحت وطأة أوضاع سياسية واجتماعية وثقافية استثنائية طبعها القمع والتسلط والتعذيب والاعتقال السياسي لرموز النضال من أجل حرية التعبير والديمقراطية، وهي سنوات تتراوح ما بين ستينات وثمانينات القرن الماضي. لقد ترتب عليها أوضاع إنسانية مأساوية لمناضلين سياسيين ونقابيين ومثقفين عانوا سنوات طويلة في مخافر التعذيب ودهاليز السجون المظلمة، منهم من قضى نحبه، ومنهم من صمد لكنه بقي يتعايش مع الآثار النفسية والجسدية لتلك الفترة السوداء على حياته.
لقد شكلت “سنوات الرصاص” مادة خصبة للعديد من الأعمال الأدبية والفنية، حاول أصحابها استرجاع ملامح هذه الفترة العصيبة من تاريخ المغرب، وإبراز آثارها على ذواتهم وعلى مجتمعهم، وذلك من خلال أعمال روائية أو شعرية أو سير ذاتية أو سينمائية أو مسرحية.
في هذا السياق، تندرج العديد من الأعمال الإبداعية للشاعر المناضل عبد اللطيف اللعبي، شعرا ورواية ومسرحا. فالمعروف عن الرجل، أنه عاش، باعتباره مناضلا في صفوف اليسار المغربي، تجربة اعتقال امتدت لثمان سنوات ونصف ما بين سنتي 1972 و1980، عرف خلالها كل أشكال التعذيب والأسر والحرمان من الحرية التي عاشها أضرابه من المناضلين المتشبعين بالفكر اليساري التقدمي، والذين جعلوا من قضية الحرية والديمقراطية محور نضالاتهم.
لقد انعكست ظلال هذه التجربة، باعتبارها جزءا من ذاكرة اللعبي الفردية والجمعية، في أعماله الإبداعية شعرا كما في ديوان “أزهرت شجرة الحديد”، ورواية كما في “قاع الخابية” ومسرحا كما في مسرحية “تعميد ابن آوى Le Baptême chacaliste”.
* “تعميد ابن آوى”: الذاكرة / العين الثالثة والحرب ضد النسيان:
“تعميد ابن آوى” مسرحية كتبها عبد اللطيف اللعبي بالفرنسية، انتهى من كتابتها سنة 1985، أي بعد خروجه من السجن بخمس سنوات، نشرتها “دار لارماتان” في إطار سلسلة “كتابات عربية” التي كان يديرها مارك كونطار، وذلك سنة 1987.
تقدم المسرحية نفسها – على لسان إحدى شخصياتها – باعتبارها “إعادة قراءة لتاريخ التعذيبات الكبرى”(3)، ليس قراءة ثقافية، وإنما قراءة بالحواس وبالأعضاء أي بالجسد الذي هو لغة المسرح، وذلك محاولة لبعث الحياة من جديد في “العين الثالثة للذاكرة اللامتناهية”(4). كل ذلك تحقيقا للهدف الأسمى، وهو مقاومة النسيان، أو بالأحرى إعلان “الحرب ضد النسيان”(5)، ومحاولة معانقة نوع من النزوع الطوباوي الذي لابد منه للإنسان، وعليه التشبث به حتى تستمر الحياة فوق الأرض:
“دامت لك الحياة أيتها اليوتوبيا الجميلة التي تسندنا”(6) هذا هو الشعار الذي تحمله مسرحية اللعبي التي أرادها استرجاعا لذاكرة مؤلمة، ومقاومة لنسيان آثارها.
إلا أن المثير للانتباه هو أن تعاطي اللعبي مع ذاكرة سنوات الرصاص في ارتباطها بتجربته الذاتية، لا ينطلق من معالجة ضيقة تتخذ طابعا تسجيليا شخصيا أو سير ذاتيا، وإنما تستند على تصور إبداعي مميز حول تجربة مسرحية يعتبرها اللعبي استثنائية في مساره مع الكتابة. ذلك أنه واع بكونه يخوض تجربة في الكتابة المسرحية، أي أنه يشيد متخيلا مسرحيا ينبغي أن يحتكم، أولا، لمنطق الإبداع وما يستلزمه من صنعة تعبيرية خاصة ومن اشتغال على بنيات التخييل المسرحي.
إن مسرحية “تعميد ابن آوى”، تندرج، بالنسبة للعبي، في سياق ما يسميه ب “عودة المكبوت” في تجربته الإبداعية، حيث يقول في الملحق الذي كتبه للمسرحية: “هذه الهجمة “الوحشية” على المسرح كنت أرغب فيها منذ ما يقارب عشرين سنة. لقد ظل المسرح، طيلة هذه الفترة، بالنسبة إلي عشق شباب أولي مكبوت”(7)، وهو هنا يشير إلى تجربة مجهضة سبق له أن خاضها مع أسماء أخرى في إطار المسرح الجامعي سنة 1964.
من جهة أخرى، فاللعبي كتب هذه المسرحية بمنظور جمالي وأجناسي واضح الأبعاد، تمثل في نظرته إلى الشعر باعتباره “صوتا جسديا” ينمو داخل الجسد ويترعرع على إيقاع أعضائه. وهو بهذا يصبح بمثابة “الأخت السيامية للمسرح”(8) « La poésie est une sœur siamoise du théâtre » لأنهما معا “يشتغلان بنفس السحر، ويعرضان للمشاهدة والاستماع نفس الجسد المهتز من الأعماق حتى أقصى الصراخ”(9).
بهذا الوعي تشتغل داخل النص شعريتان بنوع من التوازي والتفاعل أيضا هما: شعرية الجسد ممثلة في اعتماد الحركة الجسدية لتشخيص مواقف العشق والعنف المتصلة بإعادة قراءة “تاريخ التعذيب”، وشعرية الكلمة مجسدة في اقتصاد كلامي قوامه الاستعارة والإيحاء والمناجاة الشعرية، بشكل جعلنا أمام مناهض عبارة عن مسرحية – قصيدة تخضع لتركيب مرتب ونمطي ومتواز لمشاهدها وشخصياتها (تكرار ثلاث شخصيات في كل مشهد). ولعل هذا ما جعل من مسرحية “تعميد ابن آوى” تجربة متفردة لا تندرج بالضرورة في تقليد مسرحي أو في سلسلة تطورية لتوجه في الكتابة.
إننا إزاء تجربة إبداعية تتأسس على الذاكرة لكنها تبلور متخيلها بالانزياح عن أية سلطة مرجعية من شأنها أن تجعل العمل ذا بعد توثيقي أو سيري، لأن اللعبي أرادها تجربة ذات بعد إنساني تسترجع المواقف والتجارب الصعبة (أشكال التعذيب) لكن دون أية إحالة تاريخية محددة، وتقدمها في صورة تراجيكوميدية. وانطلاقا من رؤية تنظر إلى المستقبل لأنها تؤمن أن الحرب على النسيان يوازيها التشبث باليوتوبيا الجميلة التي تبعث الأمل في نفس الإنسان.
تنطلق المسرحية على إيقاع جو قيامي كل علاماته توحي بالموت: خشبة عارية، أصوات حيوانات مختلفة، صفارات إنذار، صوت طلقات نارية، رياح هوجاء ودقات طبول. على إيقاع هذا الجو القيامي تنسج المسرحية أحداثها وترسم مصير شخصياتها. كل شيء منذور للموت الرمزي والحقيقي في آن واحد، لكن يظل، مع ذلك، خيط رفيع يربط الشخصيات، باعتبارها رموز إنسانية، إلى الحياة قائما ولو من خلال نوع من النزوع الطوباوي(10).
إن المسرحية تتخذ من المنطلق الإنساني قاعدة لقراءة تاريخ التعذيب مستعملة أساليب شعرية ومسرحية تعتمد الإيحاء والمشهدية المعبرة واللغة الجسدية، وأحيانا أسلوب الرسوم المتحركة.
يتعلق الأمر ب “منظمة الجهاد الشعري لأبناء آوى” التي ستعلن عن اتخاذها للجمهور رهينة مشترطة تحقيق مطالب إنسانية تصب كلها في اتجاه “خطاب طوباوي” تتبناه المنظمة نيابة عن كل الكائنات الحية الأرضية، تطالب فيه بوقف تحويل مجرى الأنهار، وإعادة الغلات المنهوبة إلى أشجارها، وضمان الحق في الحلم، وتحويل كل السجون والمعتقلات والمنافي إلى حدائق عمومية، ووقف حالات الاستثناء وحظر التجول، وضمان مجانية السفر والكتاب والمسرح والسينما والمتاحف، وإعطاء الأولوية للعشاق في كل شيء، وإعادة الطفولة المغتصبة للأطفال… إلخ.
إن هذه اليوتوبيا جاءت في المسرحية كتعويض عن واقع التعذيب والطغيان والشر الذي تعانيه الإنسانية مجسدا في نموذج شخصية المسيح – الحلاج برونو الملقب بفكتور. هذه الشخصية التي تخضع لعملية استنطاق – من خلال لعب مسرحي يقوم على قلب الأدوار – تعرف فيها كل أشكال التعذيب ودرجاته المتصاعدة، بدءا بوضع الرأس في الماء والضرب على الأرجل، مرورا بشد الأرجل إلى الأعلى وتقليم أظافر الأصابع، وصولا إلى أسلوب الصدمات الكهربائية وقطع الأصابع.
إن تشخيص مظاهر التعذيب في المسرحية يرتبط بعنف المتخيل المسرحي عند اللعبي بالنظر إلى تسرب بعض عناصر التجربة الذاتية لهذا الشاعر الذي عانى هو نفسه من نفس هذه الأساليب أثناء فترة اعتقاله.
لذا، لا نستغرب أن يلجأ أحيانا إلى أسلوب السخرية اللاذعة، المبكية المضحكة في آن واحد، من خلال توظيف وصلات إشهارية ساخرة تشهر التعذيب وتدعو إلى اقتناء كتاب يحمل عنوان “Je sais torturer”.
وتشير المسرحية إلى مجنة المثقف من خلال شخصية الشاعر التي تريد التعبير عن أحلامها واستيهاماتها، لكنها تتعرض للعرقلة والتشويه وتصبح موضوعا للاستخفاف والازدراء كما تعبر عن ذلك التشويهات التي لحقت كلمة “poète” والتي قرنتها بدلالات قدحية:
« Les voix interpellent le poète sur un ton facétieux »
Voix 1 : p’tit poète !
Voix 2 : Po-hai-teux
Voix 3 : Po-è-toz
Voix 1 : pouète, Pouète !
Voix 2 : Potatoes
ويبقى طقس التعميد المؤجل الذي يجسد الاحتفال هو التعبير عن أقصى مظاهر الوحشية التي يتعرض لها الإنسان، ذلك أن انخراط الجميع في هذا الطقس مسايرة لدعوة “منظمة الجهاد الشعري لأبناء آوى” سرعان ما تعرض لمفاجأة تمثلت في بلاغ الحكومة العالمية الذي يدعو الجميع لتسليم أنفسهم ويعلن رفضه للمطالب الطوباوية. وأمام تجاهل هذا النداء سيتعرض الجميع لإبادة جماعية ويتحول الطقس إلى مشهد دموي تعبيرا عن التسلط والاستبداد والقهر الممارس على كل من يحلم بلحظة إنسانية أجمل.
إن مسرحية اللعبي تستعيد بطريقتها الخاصة وبأسلوب فني يجمع بين السخرية والرقص واللعب والسيرك وشعرية اللغة والجسد، مختلف المظاهر السوداء التي طبعت ذاكرة هذا الشاعر خلال فترة سنوات الرصاص الذي عانى من الممارسات اللاإنسانية التي طبعتها وجعلت منها فترة سوداء في تاريخ المغرب المعاصر، وتمت استعادتها إبداعيا في هذا العمل المسرحي الذي أراده صاحبه حربا ضد النسيان ومديحا لليوتوبيا الإنسانية.
الهوامش:
- محمد برادة – الرواية ذاكرة مفتوحة – دار آفاق للنشر والتوزيع – مصر – الطبعة الأولى 8-20 – ص 7.
- نفسه – ص 5.
- Abdellatif Laâbi – le baptême chacaliste – Edit l’Harmattan 1987 – p 10.
- Ibid – p 10.
- Ibid – p 19.
- Ibid – p 53.
- Ibid – p 59.
- Ibid – p 60.
- Ibid – p 60.
- سبق لنا في دراسة سابقة للمسرحية أن اعتبرناها نوعا من “المسرح الطوباوي” – انظر حسن يوسفي – ذاكرة العابر: عن الكتابة والمؤسسة في المسرح المغربي – دار وليلي – الطبعة الأولى 2004 – ص 49.