أدار الحوار وترجمه: عبد العزيز جدير
في الأحاديث النابعة من القلب بين الأصدقاء، وخاصة حين تستمر لساعات قد يحدث أن تأخذ كلمة معنى غير معناها المقصود بها من منبع السرد. ذلك ما شعرت به، حين نبهني صديقي الفنان خمولي، بعد أن نبهه بعض أصدقائه إلى ذلك مما يدل على أن هناك سوء فهم عبارة معينة. يتعلق الأمر بكلمة وردت في حوارنا الصادر في العدد السابق من “دراسات الفرجة”. ويتعلق الأمر بإشارة إلى فرقة “مسرح اليوم”. فالمعنى الحقيقي للعبارة أنه حين غادر الفرقة لم يعد يتابع أخبارها. ومن يستطيع الإدعاء بأنه يتابع كل شيء في مجال اهتمامه؟ والحقيقة، أني أهيئ كتابا عن عبد اللطيف منذ أربع سنوات، وتعددت حواراتنا ما بين الدار البيضاء، وطاماريس ضيفان على العربي سامي، وطنجة.. وأذكر إشاراته إلى تقديره للفنانة ثريا، واعتزازه بتجربته ضمن فرقة “مسرح اليوم”، وتأكيده أنها مكنته من السفر خارج المغرب، ولقاء شخصيات منها محمد الماغوط.. أقول كلامي هذا، رفعا لكل لبس، واصطياد في ماء عكر.. وأستغفر الله لي، وله، ولكافة الصادقين..
جليل دافيد أو جليل داوود كما يرد اسمه في مقدمة الأفلام والمسرح أيضا، فنان فرنسي من أصول مغربية، مفتول العضلات، مارس المسرح بفرنسا والسينما ببعض الدول الأوربية وأمريكا فكندا.. والمغرب بعد عودته إلى بلده. رياضي جمع بين كمال الأجسام، والكاراطيه (بلغ نصف نهاية مباراة بطولة كأس باريس حيث تم توقيفه لأنه لمس خصمه)، والملاكمة الأمريكية (وفاز ببطولة فرنسا)، و”الكيك بوكسين”.. ومارس الرياضة الروحية “اليوگا” لما أقام عقدا كاملا بجزيرة “بالي”.. وهناك سحرته الطبيعة، فاحترف التصوير، ثم امتشق الكاميرا لينجز فيلما عن استغلال الأطفال جنسيا (Les enfants du Gunung)، ثم فيلما ثانيا تحت عنوان (Zmana)، ويهيئ الآن فيلمين؛ قصير وتخييلي طويل..
ومن الحب ما ملك
– اقتربت من المسرح مبكرا نسبيا، خلال المرحلة التي ألف فيها أبو الفنون أن يغري الشباب ويطيح بهم؛ مرحلة الشباب وخاصة الدراسة بالسلك الأول..
– حدث ذلك بإعدادية الإمام الأصيلي بأصيلا، وكنت داخليا وابن الخامسة عشرة. بالصدفة، استبد بنا، صديقي أحمد الحمزاوي من طنجة أيضا، ومحاصر بالداخلية أيضا وأنا، العبث وركوب الهْبالْ. وشرعنا نؤدي اسكتشات ومرتجلات قصيرة لحظة انتظار وجبة الغداء أو العشاء. ولاحظنا إقبال التلاميذ فاعتقدنا أننا موهوبان! أو نمتلك عضلة زائدة كما يقال عن الزنوج! كان أحمد يؤدي دور المهرج الجدي والجاد، الأبيض اللون، وأنا المهرج الأبله، متعدد الألوان. لذلك فتنت، فيما بعد بدوستويفسكي وروايته “الأبله”. وخلال الفترة ذاتها، كان عبد الرؤوف هو النجم الوطني بامتياز. وهكذا عثرت على شخصيتي التي تجمع بين مهرج كلاسيكي، أبله كما يقدمه السيرك، وصوت عبد الرؤوف المحلي. وفي ذلك غرق فيما يتخبط فيه الجميع الجمع بين النقيضين: الأصالة والمعاصرة. وهي ممكنة في الفن وحده. وهكذا، شرعت أؤدي دور أحمقٍ بامتياز. تلك فاكهة الجمع بين النقيضين. بدأنا نرتجل من دون جمهور، ثم بدأ الجمهور يتشكل، واحد، اثنان.. وقد قادني اهتمام الزملاء إلى التفكير في “الاحتراف”! قلت بيني وبين نفسي، فيما يشبه المونولوغ: “لم لا نبدع في استحداث فضاء للعرض”. وقد كان بالإعدادية فضاء يليق بذلك، بعد أن يتم تخليصه من الحطام الذي يئن تحت وطأته: أجزاء من طاولات، وكراسي فتك به الزمن أو التلاميذ. قاعة ومنصة تصلح لتمثل ركحا فارغا. كان المدير يكن لي بعض التقدير، والعطف ما دمت تلميذا غريبا. لا يعرف اللغة العربية، يتحدث الفرنسية في أغلب الأحيان، ومن ثم فرتبته في المواد على قدر معرفة اللغتين، الأخيرة في المواد المدرسة بالعربية، والأولى في المواد المدرسة باللغة الفرنسية. طائر في غير سربه. ذهبت إلى المدير، حدثته في الأمر: هل هناك إمكانية لاستغلال هذا الركح؟ هناك فكرة تسكنني، أريد تنظيم سهرة لفائدة زملائي من التلاميذ ما دمت لا أذهب إلى طنجة كل أسبوع، وهناك زملاء يتبعون النظام ذاته. سأل عن مواد السهرة فحدثته عن السكيتشات المنتحلة، السرقة غير الموصوفة من عبد الرؤوف ومهرج السيرك، ثم غناء.. فقد كنت أملك مُدَوِّرَة أسطوانات، وعددا من الاسطوانات، وكنت شرعت أغني عبر واسطة “البلاي باك” عددا من الأغاني ومنها أغاني “جوني هاليداي”، وخاصة أغنية صدرت في تلك الإبان (Que je t’aime)/”أحبك”، في غرفتي أمام المرآة، كأنها جمهور متواطئ، وقد أقنعت نفسي بعد طول ممارسة أنني جوني، يا للسذاجة! ولعلني لذلك اخترت البهلوان الأبله!.. (ضاحكان).
والحلم تجسيد يا ابن أمي
– ولولا الطموح العاصف، والغرور الذي تطفح به الذات لما نجح الشباب في احتلال مواقع السلف. ولعل الحب الجارف يولد الحلم المترامي الأطراف، ويشد انتباه صاحبه شدا حتى يتحقق جزء منه أو كله. ولولا ذلك لما التقيت، من بعد، “جوني هاليداي” ومثلت إلى جانبه..
– الحب صانع معجزات. بالفعل، مثلت إلى جانب هاليداي “بهانغاريا” ولكن في فيلم لم يعجبني وعنوانه (Terminus)، واعتبرته قمة الفشل. مخرجه “بيير وليام گلين”، ويندرج ضمن تيار الخيال العلمي، وضمن ما يعرف “بماكس المجنون”، وهو صنف يحتاج المال الكثير..
– ولنعد إلى حوارك النقابي والفني مع المدير دفاعا عن صناعة الفرجة..
– أخبرته بمواد السهرة من اسكتشات، وأغاني مختلفة، ثم اقتراحات زملاء آخرين لمواد أخرى. فرح المدير للفكرة، وأعطاني الضوء الأخضر، ثم سألني عما أحتاجه. شددت أولا على تحرير المسرح. نادى على الحارس العام، وأخبره بالأمر ثم طلب منه تحرير الميدان.. وطالبت أيضا بستارة. وهي تقدم الفكرة السحرية التي يتضمنها المسرح، تفرض نفسها على المتفرج. لما سألني عن نوعها، اقترحت الحصول على أغطية الأسِرّة، فقال هي متوفرة، تزود منها كما شئت. ثم الحصول على حلقات لجعل الستارة تنفتح وتنغلق.. وأعددت الستارة، وكانت مائلة، فالكمال لله. ومن هنا استبد فيروس المسرح بالفكر والجسد.. وحين الحديث عن فيروس فلا بد أن ينتشر، ويلوث الجسد والفكر بالجمال، ومحبة الجمال، والفرجة الحسنة، الحقيقية..
– أشعر أن هذا التلوث الجميل كان يمثل بعض الخلاص..
– طبعا، أنت تلمح إلى كوني تلميذا كسولا بامتياز (ضاحكان)، (cancre) بتعبير الشاعر “جاك بريفير”، فلم أكن أطلب إلا هذه الفسحة، وأكره الدراسة التي أرى فيها اعتداءا على شخصي. فقد كانت اللغة الفرنسية هي المادة التي أحصل فيها على معدل محترم… وكانت اللغة العربية بالنسبة إلي لا تختلف عن اللغة الصينية، خاصة مع الصدمة النفسية التي خطها زوج الوالدة على الجسد والوجدان…
منافي الداخل
– جليل، لكي يعرف القارئ هذا “الحب الجارف” للدراسة، لا بد أن أشير إلى عناصر من سيرتك الاستثنائية. فقد حصل والدك على الجنسية الفرنسية سنة (1912)، وشارك في الحرب العالمية الأولى إلى جانب فرنسا ضد ألمانيا. وأُسِرَ، بحمد الله، ولولا ذلك لما كنت إلى جانبي الآن. أطلق سراحه بعد نهاية هذه الحرب الأمبريالية الأولى، وتمكن بفضل عمله من أن يمتلك مقهى، وحانة، وفندقا، وعدة شقق، كان يكتري بعضها. ثم حين حصل على التقاعد، وغابت زوجته الفرنسية، تمكن من الزواج من والدتك، ابنة الخمسة عشر ربيعا، من دون علمها. لما علمت بذلك رفضت الزواج، تدخل أهلها وأرغموها على القبول فلا بد لمن أعطى كلمته أن يحترمها، وإلا نظر إليه الغير نظرة غير الاحترام، خاصة في مجتمع محافظ، هو المجتمع الفيلالي الصحراوي. التحقت بزوجها بباريس، لم تطل علاقتهما، زرع بذوره في أحشائها، فانتقلت لتسكن عند الجيران من الفرنسيين، لأنها لم تطق العيش مع رجل يكبرها. خلصها منه الموت، ولدتَ بمراكش، وانتقلتَ إلى باريس وأنت ابن الشهر الواحد، وقضيت بباريس خمس سنوات، إذ كانت الوالدة قد عادت لبيتها، ولتسيير مشاريع زوجها بباريس. وقضيتَ تلك السنوات رفقة أطفال أسرة الجيران الذين احتضنوا الوالدة لما غادرت بيت الزوجية.. وكان طعامكم واحدا، ومنه لحم الفرس، و”الجامبون”.. عدا إدارة البيسترو، والفندق، كان الوالد يعود إلى المغرب ويذهب إلى الجزائر أيضا للبحث عن اليد العاملة للعمل بفرنسا.. وخلال غيابه، كما بعد وفاته، كانت الوالدة تقوم مقامه، في تحصيل المال، بينما يقوم بالتسيير مدير.. وظل الفندق بيد الوالدة حتى بلغتَ ربع قرن من العمر. وخلال الأربع سنوات تلك كانت والدتك تتحدث إليك بالفرنسية، فتشبعت بها.. ثم تزوجت بطنجة من رجل تقليدي يشتغل بالأمن المغربي. وكان نقيض والدك، رجل يرفض تربيتك السابقة، يرفض حديثك باللغة الفرنسية، عادتك الأكل بالشوكة والسكين.. وأراد تأميمك، كما يقول بول بولز رحمه الله عن والده.. وأدخلكَ لمدرسة ابتدائية لا تشرع في تدريس التلاميذ اللغة الفرنسية إلا في القسم الثالث، الابتدائي الثاني، وكان عليك قضاء السنتين الأوليتين في أتون العذاب اللغوي، والنفسي.. وجب أن تكره المدرسة، والأساتذة، واللغة العربية كرد فعل على رغبة زوج الوالدة تأميم حواسك وشخصك..خاصة أن كل ذلك حدث زمن الطفولة الأولى وفترة الشباب الأول..
واللغة بوابة الآلام
– بالفعل، فقد منعني من التحدث بالفرنسية محاولا إرغامي على الحديث بالعربية، وكنت لا أستطيع الحديث بها. بل سعى إلى القضاء على اللغة الفرنسية، وإحلال العربية محلها! كما لو أن ذلك ممكن في خمسة أيام، ووفق رغبته!! فما العمل؟ دفعني إلى كره اللغة العربية كرد فعل على النزعة التحكمية. ثم دفع بي إلى مدرسة عربية هي مدرسة محمد الخامس، الإعدادية الآن.. مررت بها مرور الكرام، فقد نصح المدير الوالد قائلا: “لا مكان لهذا الفرنسي هنا، سيعاني من دون نتيجة. فلتضعه بمدرسة مزدوجة اللغة، على الأقل”. ثم وضعني بالمدرسة الإيطالية، وبها قضيت بضعة أشهر. عذاب آخر، فهي لا تدرس بالفرنسية بل بالإيطالية. كأن مكرا يُحاق بي حتى أفقد اللسان. منفى مضاعف. وبعد ذلك انضممت إلى مدرسة (Perrier)، وكانت جزءا من البعثة الفرنسية. وهناك، شعرت ببعض الطمأنينة. وكانت بهذه المدرسة حصة باللغة الفرنسية. وبدأت أتعرف على بعض الحروف الهجائية العربية. ثم انتقلت إلى مدرسة “عين قطيوط”، حيث درستني اللغة الفرنسية معلمة فرنسية، إذ كان ما يزال هناك حضور فرنسي قوي داخل قطاع التعليم. وكانت لطيفة اتجاهي، وتمارس بعض المحاباة، والمحسوبية، والتحيز نحو شخصي لأنني كنت فرنسيا-مغربيا. كانت أحيانا تجلسني إلى جانبها، وكنت أنسى وجودي فأضع يدي على فخذيها (ضاحكان). وهذا مشهد سينمائي بامتياز.
والمدرسة وحدة برأسين
ثم بعث بي زوج الوالدة إلى أصيلا بعد أن سمع أن التلاميذ غير الراغبين في الدراسة يجب إلحاقهم بسجن المدارس التي تتوفر على قسم داخلي. وهكذا، تخلص مني، من جهة، ثم حاول ترويضي لعل وعسى أن أُهْدى إلى صراط الدراسة النظامية. ويبدو لي الآن أني من أتباع التعليم غير النظامي، والتكوين الذاتي حين غادرت مرحلتي الطفولة والشباب.. وبعد أن غادر زوج الوالدة هذا العالم استعدت زمام الفعل وتحررت من زمام رد الفعل. لما لاحظ رحمه الله أني شديد الخمول، مواظب على الهروب من الدروس، كما كنت أستفيد من مرافقته لوالدتي إلى باريس، إذ كانا يتركانني في بيت صديق له، فكنت أستفيد من وقتي وأبدده كما أشاء، فيما أشاء، لا في ما يُشاء لي.. وهكذا صعب علي الحصول على شهادة نهاية التعليم الابتدائي، شكلت عقبة كأداء تطلبت ثلاث سنوات… ألحقني بمدرسة ابتدائية يوجد بها قسم داخلي، فحصلت على تلك الشهادة التي انحنت لها الأعناق في المحاولة الثالثة. لعل ذلك ما يسمح به الشرع!.. كان المدير “بوشامة” لطيفا معي إذ وقف على طبيعة منفاي والتيه. لكنه لم يتوان على الأمر “بتحميلي” حين علم أننا، جماعة من الأصدقاء، غادرنا القسم الداخلي من دون إذن.. حين استبد بنا البلوغ.. ثم التحقت بإعدادية الإمام الأصيلي.. وحين كانت حصة العربية تدق، كنت أجمع أدواتي وأغادر القسم قبل أن يدخل الأستاذ إلى القسم كنوع من الاحترام للأستاذ واللغة! وأنا أغادر القسم أقول للزملاء: “Salut les mecs”.
يا مسهرني..
– ويحكم تصرف الإنسان رد الفعل وليس الفعل.. وقد يكون التمثيل، والمسرح، وتقمص الشخصيات يمثل نوعا من التطهير.. لذلك كانت السهرة الموعودة مناسبة لتفجير المكامن، ولحظة انتقام من عسر العربية، ويسر التشخيص الذي يصعد المكبوتات، ويطهر الذاكرة، والفؤاد..
– كانت السهرة الأولى لفائدة تلاميذ الإعدادية، وحققت نجاحا منقطع النظير. وكانت الثانية.. وهو نوع من تداريب.. ثم قدمنا الثالثة بمناسبة عيد العرش لفائدة طاقم الإدارة، والأساتذة، والآباء، والناس أجمعين: البهلوانان، وفي ذلك استيحاء بعض من حماقات عبد الرؤوف، ثم اسكتشات متنوعة معظمها مستوحى من أشياء كانت تقدمها القناة المغربية، والفرنسية، ثم مسرحيات من فصل واحد.. ومرتجلات.. ولا يخلو ذلك من إبداع.. وقد رفع التشخيص من معنوياتي ومكانتي في عيون أساتذة المواد المدرَّسة باللغة العربية..
فينق العربية
– بل الإدارة ذاتها، والنيابة.. ومنحت فرصة أخرى للتشخيص على ركح مدارس شمال المغرب..
– بالفعل، فقد نادى علي المدير وأخبرني أني الوحيد الذي اختير من منطقة الشمال للذهاب إلى الرباط للخضوع إلى تدريب على نص الشعار الوطني. فلم يكن من قبل وجود لنص الشعار الوطني، بل كان هناك ايقاع أو لحن موسيقي. كنا نسمع النشيد الوطني، ولا نص يرافقه كما الآن. وقد كنت من أوائل الشبان الذين قرأوا النص، ثم درسوه، وحفظوا كلماته لنقل مضمونه لتلاميذ منطقة شمال المغرب، فقد كنت رسول الوطنية المجسدة في النص، بإيقاعه المعروف الآن. وقضيت أسبوعا كاملا بغابة المعمورة لحفظ النص، والتدريب على أدائه ووجوب إبلاغ مضمونه..
صنو ماكبث
– أشير إلى أن اللحن الموسيقي كان وضعه ضابط فرنسي يدعى “ليو موركان”، وهو رئيس الفرقة الموسيقية للحرس الشريفي. ولعل هذا من امتحانات الزمن، دفعت بك صدمات زوج الوالدة إلى كره العربية، وبداية المسرح إلى التبشير بها.. لعله تناقض أو هو الوجه المشرق لمكاره الزمن يستحق التأمل..
– بالفعل، لم أنتبه إلى هذا من قبل. أصبحت المبشر باللغة العربية للنشيد الوطني، والشعور الوطني.. وحل الشعار محل “لا مارساييز”، أو تآخى معه..
حلقة “بوزار” الفنية تزهر مسرحا
– أنت الآن ابن السابعة عشر ربيعا، وقررت أن تكون فنانا، ممثلا..
– كنت نهب طموح هادر، طوح بي كما يشاء فاعتقدت أنني فنان بالفطرة، والموهبة. ضاعفت السهرات، والمرتجلات، والسكيتشات، والأغاني هذا الشعور، وشجعني أستاذ فرنسي، “مارك بوزار”، بناء على ما عاينه من أداء وعشق للمسرح فتعاطف معي. وقد دعاني مرة إلى بيته رفقة عدد آخر من الضيوف المغاربة أكبر مني سنا: ومنهم أستاذ وممثل الآن، وهو الجعايدي. وقد شجعه “بوازار” لتعاطي الفن، وتعرفت عليه ببيت الأستاذ الفرنسي. وكان “بوازار” صديقا لمجموعة من الشبان المغاربة المولعين بالفن، ويتأهبون لينتموا إلى رحاب المسرح أو السينما. ومنهم أيضا الجيلالي فرحاتي.. وكان “لبوزار” شقة من غرفة واحدة غير بعيدة عن بيت فرحاتي. وبحكم معرفة “بوزار” بمساري، وكوني فرنسيا فقد نصحني باجتياز مباراة “الكونسيرفاتوار”.. كما نصحني أن أدرس لبعض الوقت الجوانب التقنية، وتمهير ذاتي على طريقة الإلقاء..
الطلقات الثلاث بركح باريس.
– وعدتَ إلى باريس لغزوها كما “راستينياك” شخصية بلزاك في روايته “الأب گوريو” حين شمر عن ساعديه وقال لها: “الدور علينا الآن، نحن الاثنين”..
– بالفعل، قد كنت شديد الادعاء والغرور.. وكنت على يقين أن معارفي بالمسرح واسعة سعة المحيط. بينما أوتيت من المعرفة العدم. لم أكن أعرف أني لا أعرف شيئا. كنت شديد الثقة بصورتي، وبمؤهلاتي، وشجاعتي، وجرأتي.. وستنذهل اللجنة وتقف كرجل واحد مهنئة ومصفقة!! وكنت أتوهم أن أعضاء اللجنة سيقولون “أية موهبة هذه، وأي فنان هذا، يا له من حضور قوي”!! (ضاحكان). وذلك بالرغم من أنني كنت تحت سحر فنانين كبار انتقلوا إلى فئة الأسطورة مثل “ألان دولون”، و”كيرك دوگلاس”، و”گاري كوبير”، و”مارلون براندو”… وكنت يومها شخصية ترجسية، أداوم النظر إلى المرآة وأخاطب نفسي: “كم هو جميل وجهك”! (ضاحكان)، ثم حين أقارن الأفلام الأمريكية بالأفلام الفرنسيية أقول: “باستثناء “ألان دولون”.. البقية أقزام، لن يصلوا إلى كعبي”. كنت شديد الإدعاء، وسذاجتي تناطح السماء..
جليل والمسرحي أندريه روسان على الركح |
الغرور حرية، والثقة بطولة..
– الادعاء ضرب من الطموح، لكن الجرعات كانت مسكرة..
– كانت بنية جسدي قوية، لم أكن قد انخرطت في ممارسة عدد من الرياضات بعد، ولكني كنت أمارس كمال الأجسام، وبدأت عضلاتي تنفتل.. وشرعت أمارس لعبة الكاراطي في مواجهة صديق لي بالشارع، كان يتردد على إسبانيا، ولم تكن ظاهرة الأسطورة “بريس لي” قد ظهرت بعد. ولما رحلت إلى باريس، انخرطت في لعبة الكاراتيه. وإذا تحدثت عن لعبة الكاراتي فلأنها منحتني ثقة في الذات..
في الكونسيرفاتوار، يعز المرء أو يُستخار…
– ها أنت تواجه باريس في أحد معاقلها الفنية، تقدمت إلى الكونسيرفاتوار..
– وقد استخبرت في أمر الانضمام إلى معهد الفنون المسرحية هذا، إذ كنت زرت رفقة الوالدة الكونسيرفاتوار خلال فصل الصيف كما يحدث كل سنة، فعلمت أن علي أن أهيء ثلاثة مشاهد. اثنان ينتميان إلى عملين كلاسيكيين، والثالث مأخوذ من مسرحية عصرية. هيأت مشهدين لكل من “موليير”، (البورجوازي النبيل) و”كورناي”، حيث اخترت مونولوغا من (السيد)، ولا أذكر النص المعاصر. هيأت كل ذلك بطنجة طيلة فترة دراسية كاملة.. وكان المشهد فولكلوريا. أردت أن أعطي صورة ناصعة عني، استلهمتها من كبير المسرحين المغاربة، الصديقي، وهي صورة “هاملت” والقلنسوة.. كان اللقاء مع اللجنة طنانا، وكالمصطنع، مبالغا فيه. يجب رفع الصوت، وتأكيد الحضور.. هكذا، فهمت جوهر الشخصية المسرحية. وكان أمرا طبيعيا، بالنسبة إلي، حين تطأ رجلاي الكونسيرفاتوار، أن ألفت النظر، لا أن يكون ظهري مقوسا، ورأسي مطأطأ! يجب أن أحدق في الجميع، ولا أغض الطرف عن شيء.. كنت أشعر برهبة المسرح، وكل هذه البهرجة محاولة لإخفائه. كانت اللجنة مكونة من ستة أعضاء، يجلسون إلى مائدة، وأمامهم فضاء هو بمثابة ركح. دخلت مرتديا القلنسوة، وحين استرجع الأمر الآن مع مرور الوقت أتساءل أي حمار ليل ضربني! وأي مسٍّ أصابني! لم يضحك المساكين، وربما فعلوا حين انصرفت، أو هم اعتادوا على استقبال ما لا يطرأ على خيال.. وشرعت في أداء المونولوغ، وكان طويلا، وأعتقد أني لم أحترم علامات الوقف، ولا شك أني التهمت بعض الكلمات بشكل مرعب.. وناب عضو في الحديث إلي نهاية أدائي الاستثنائي! قال الرجل: “إن الفنان يجب أن يتوفر على التقنية، والروح.. إنك تفتقد للتقنية، لكنك تتمتع بروح الفنان. والتقنية تُتَعَلَّم. أخبرك أنك لن تقبل في الكونسيرفاتوار، ولكننا سنوجهك نحو أحسن درس في المسرح تقدمه “تانيا بالاشوفا”وهناك ستتعلم التقنية. وتعود إلى الكونسيرفاتوار السنة القادمة”. حصدت خيبة الأمل، وكنت على يقين بأنني سأقبل بالمعهد! أعادني الحكم إلى أرض الواقع. ومن هناك توجهت والوالدة نحو (Théâtre de poche) بشارع “مونبارناس” حيث تقدم “تانيا” الدروس. وسجلت نفسي بالمدرسة..
جليل بمسرحية الكوح الصغير لأندريه روسان |
“تانيا” وكتيبة الفرجة..
– من هم الأساتذة الذين يقدمون الدروس بمعية “بالاشوفا”، وما طبيعة الدروس، ولا شك أنها جمعت بين النظري والتطبيقي؟
– كان من نصيبي أساتذة كبار.. منهم أولا “تانيا بالاشوفا” وهي روسية الأصل، تدرس وفق منهجية “ستانيسلافسكي”، وكانت زوجة مخرج فرنسي كبير “رايمون رولو”، و”ميكائيل لانسدال”، و”لوران تارزييف” وهو ممثل معروف، ومخرج أفلام تلفزيونية يسمى “كلود ريجي”، و”فرانسوا بيرو”/(Perrot)، وهو ممثل وأدى أدوار عدة، ومثل كثيرا، وأستاذا آخر أحببت طريقة تدريسه “فليب گاريل” وكان له ابن ممثل ومخرج أيضا هو “لويس گاريل”. ولن تلتحق بهذا الدرس من دون أن تخضع لاختبار. ومن لم يفلح في الاختبار يوجه نحو درس أسهل وأبسط لتلقين المبادئ الأولى.. اختبرتني “بالاشوفا” نفسها، وقد سحرها أدائي، لاحظت أني أتمتع بحضور قوي، وبنية جسدية تميزني عن الآخرين. كان ذلك بداية عقد السبعينيات، وكان حضور الزنوج والمغاربيين قليل في هذه المدارس. وكان يؤمها الفرنسيون في الغالب، وشباب مثقفون تعصف بهم القراءة. كانت قراءاتي يومها محدودة، ومعارفي والمعلومات متفاوتة وغير منسجمة.. ولكني أحمل شيئا ناذرا هناك، وهو الحيوية، والنضارة، والرشاقة، وبنية جسدية أقرب إلى الأمريكيين، أمارس الرياضة، أتحرك بسهولة ويسر، وشعري مجعد، وهو ما أحبته “تانيا”. كانت تريد طالبا من هذا الصنف بين طلبتها ليؤدي أدوارا مختلفة، غير مألوفة.. كنت سلالة نادرة! (ضاحكان، وبحركة مسرحية:)، إياك أن تأخذ كلامي على محمل الجد. على أي كنت مختلفا، وهو مكسب وإضافة نوعية. كنت طويل القامة، وقوي البنية، من صنف “مارلون براندو”، ولذلك حين اقترحت علي أداء مشهد لتمتحن أدائي ثم تقرر القبول أو التخاص مني، قالت عليك بالاشتغال على مشهد “نزول أورفيوس”، وتقصد شخصية فال، والمسرحية “لتنيسي وليامز”، وقد يكون أخرجها “إليا كازان” وكيَّفها للشاشة الكبرى وحملت عنوان (L’homme à la peau de serpent)””
الألم العظيم يصنع الإنسان العظيم
– أخرجها (S. Lumet)/”سيدني ليميت”وهو الاقتباس الذي اعترف “تنيسي وليامز” بتميزه، هو الذي لم يعترف بجودة مسرحياته التي نقلت إلى الشاشة الكبرى. طبعا، أدى الدور الرئيسي في الفيلم “براندو”.. والمسرحية إعادة اقتباس معاصر في الأصل للأسطورة اليونانية القديمة. وتعرض لموضوع قوة الحب، والفن، والخيال في تجديد الحياة وتنشيط خلاياها.
– نعم، “براندو” والفنانة الكبيرة (A. Magnani)/”أنا منياني”. يجب أن أعيد مشاهدة هذا الفيلم. طلبت مني أداء المشهد، الذي لعبه “فال”، وأداه “براندو”، وفي الشخصية بعد فوق إنساني، قريب من الحيوان بل البهيمة. يأتي الشخص حاملا قيثاره، وهو يبحث عن العمل، وحين تراه “آنا منياني”، الأرملة، تهيم في حبه.. لاحظ كيف اختارت “بالاشوفا” الشخصية، وكيف رأت بعض التطابق بيننا. ولذلك أقول لك إن بنيتي الجسدية ساعدتني كثيرا في المهنة التي اختارتني. أذكرها الآن تحدق في، ثم تبتسم وتقول بصوت هادئ “عليك بالاشتغال على مشهد “نزول أورفيوس إلى العالم السفلي””. ليس غريبا عنها هي الروسية الأصل، الستانيسلافسكية الهوى، الباريسية المعيش والبلجيكية الزوج.. ثم وقف أمامها طالب تعرف أنه فرنسي من أصول مغربية، وعربي.. فرأت الإضافة والإغناء وتمازج الأجناس وهجنتها وجوهر وجودها.. واسخرجت الشخصية التي تعاني وجوديا، وبنية الممثل الذي شخص الأصل وطبيعته.. يدخل “براندو” المقهى حاملا قيثارته، ويبدأ طوافه خلسة، فتصرخ “مانياني”: “من هنا؟”. وكان اللقاء. في البداية، داهمه بعض الخوف، ثم احتفظت به لنفسها..
شلال المعرفة، وضمأ الفرجة..
– وشرعت “بالاشوفا” تروي ضمأ الفنان الذي ينضح طموحا، وكان يعتقد أن لا حاجة للدروس، فالموهبة يرضعها المغربي من ثدي أمه..
– ذلك جزء من وهم المراهقة. تعتمد طريقة “بالاشوفا” على أن تختار لك شخصية قريبة منك مظهريا، ونقيضك في الآن ذاته. عن قصد حتى ترى تقمصك والتفاعل. والتأقلم. والخروج من جلدك. والقدرة على السباحة خارج ذاتك. وقد رأيت دور “براندو” فهو صعب الأداء والحلول فيه، وتنيسي وليامز” عميق وكذلك نصه. نص يسائل الأعماق، والنفس، إذ الشخصية تعاني العذاب النفسي والروحي. ثم هذا النفس الستانيسلافسكي الذي يجب أن يخترق الأداء.. وعبر هذا المشهد، و”فال”، و”بالاشوفا” تعرفت على ستانيسلافسكي، ورؤيته. واشتريت الكتاب وشرعت أستقي منه الدروس، والتعليمات، وكيف تقرأ الشخصية وتلجها. ما تزال النسخة تقبع بمكتبتي من تلك اللحظة الحاسمة في حياتي. ومن هذه اللحظة شرعت أهتم بعلم النفس، والتحليل النفسي، والهيام “بگيستاف يونغ” وكتبه.. كما قادني المسرح نحو ما هو غير منطقي، وروحي، وروحاني، وباطني، وصوفي.. يمكن أن تقول إن هذه المشاعر تسكننا وتكمن في قرارتنا، ولكن المسرح لعب دور الزناد. وقد وضعت “بالاشوفا” الأصبع في المكان المناسب لتغير الشخص الذي كنته، وتفجر العطش المعرفي في أعماقي.. إذن، تقدم لك مشهدا للاشتغال عليه، فتشتغل عليه وحدك أو رفقة شريك أو شركاء من نفس الدرس، والطلبة. ونشرع في القيام بالتدريبات في بيتها أو بيته أو بيتي.. ويكون يوم عرض مشهدي مبرمجا بتاريخ معين، وساعة محددة. ثم تقدم المشهد مثل امتحان دخول المعهد. وقد توقف أداءك وتقدم ملاحظات مثل المخرج تماما، أو تمهلك حتى تنتهي من المشهد تماما. ثم تعود إلى مشهدك، وتشتغل عليه من جديد وفق ملاحظاتها والتوجيهات. ثم تقدم مشهدك، مرة ثانية لترى مدى استفادتك من عدمها، والاستيعاب. ثم هناك دروس في طريقة الإلقاء، والرياضة بدنية، وقراءة النصوص، تختارها بشكل فردي، تهيئها بالبيت. ثم هناك عمل على ما قبل الأداء، وما بعده، ودروس الدعم، خلال الدرس وفي البيت.. وفي القراءة، هناك اشتغال على تغير مقامات الصوت، والنبر، وطريقة الأداء المثلى.. وتقوم بجزء من هذا الجهد “فيرا گريگ” التي كانت مساعدة “تانيا”. وكنا نقوم بحصص القراءة ببيت “فيرا”، وهي شقة تقع قرب “مترو فورش”، وليس “بمسرح الجيب”، مدرسة تانيا”. كانت تقسمنا إلى مجموعات، كل مجموعة لا تتجاوز عشرة طلاب. ويقرأ كل منا نصه، وهي تبدي الملاحظات المستخلصة من القراءة: “خذ وقتك، لا تسرع، ابتلع قدرا كافيا من الهواء، امنح علامات الوقف حقها من الاحترام…”
ضربات الفرشاة..
– ولا بد أن دروس الممثل “ميكائيل لانسدال” أستاذا غنية، وممتعة..
– يقدم دروسا في طريقة الأداء. مثلا، لم أقدم مشهد “نزول أورفيوس” أمام “تانيا” وحدها، بل أمام “لانسدال” أيضا. فلم تكن الدراسة تعتمد عليها وحدها بل على الأساتذة الآخرين، ثم إنها كانت تؤدي أدوارا في مسرحيات وتخرج أعمالا مسرحية.. فهي لم تكن بالمدرسة دائما، ولها توقيتها المحدد.. ووجب معرفة رأي الأساتذة الآخرين، خاصة أنهم من الممثلين، والمخرجين. وبذلك تغتني رؤيتك، وتراكم التجارب عبر تعدد الآراء وتنوعها في الشهد الواحد. وهو غنى ما بعده غنى. ثم كنا نقوم بمرتجلات مع “لانسدال”، و”موريس گاريل”..
خطوة من الألف ميل..
– يمتد التكوين بمدرسة “تانيا” سنتين. وقد تخللت السنتين مشاركات في أعمال مسرحية محترفة قدمت للعموم..
– بالفعل، فقد جاءني اقتراح أول من مخرج يدعى (J. Nolot)/”جاك نولو”، وهو ممثل يومها، ومخرج فيما بعد ومعروف جدا الآن، وقد كان مثليا، بل إن الأفلام الخمسة أو الستة التي أنجزها محورها المثلية. وله حضور ضمن سينما المؤلف، وإليه يرجع الفضل في هذه العمل الأول. كم أود رؤيته، فلم أره منذ أربعين سنة.
– كيف حصل الأمر، وجاء الاقتراح..
– فقد كانت تربطه صداقة مع مخرج مسرحي معروف يومها، ويسمى (N. Bataille)/”نيكولا باطاي”، وهو يمثل ما يمثله الصديقي في المغرب، بينما هو يعنى بالمسرح الحِرَفي، التقليدي، والمقهى المسرحي، والمسارح الصغرى. كان ينجر أعمالا إبداعية مسرحية صغيرة، لا تحتاج ميزانية كبيرة ولكنها مهمة جدا. وكان يقوم بجولات كثيرة منها جولاته باليابان في اتصال مع مخرج ياباني كبير.. وقد كنا على وشك الذهاب إلى اليابان لعرض هذه المسرحية.. وقد كان “نولو” على اتصال بهذه “الجماعة: نيكولا باطاي، و”جاك لوگراي”، و”ديديي بوضي”.. ولما كان التهييئ لخلق المسرحية، كانت الحاجة ملحة لشخص “طرزان”، وكان “جاك” ممثلا ويحضر الدرس الذي أحضره بمدرسة “تانيا”. كان طالبا معي. وعندما سمع بالمشروع قال لزملائه: “من سيؤدي دور طرزان موجود”. وعندما قدمني إلى “نيكولا باطاي”، ورآني استحسن اختيار “جاك”، فأمامه شاب طويل القامة، مفتول العضلات. وهكذا تعرفت على إيزابيل هيبير، كما قلت لك ذلك سابقا، كانت تقدم عرضا مقتبسا عن مسرحية (جاك السفاح) قبل عرضنا. اقتبستها أختها “إليزابيث” وهي ممثلة، ومخرجة، وكاتبة. حين كانتا تنتهيان، وجب سحب الديكور وغير ذلك، فكنت أساعدهما.. ومن هنا نشأت المعرفة. ثم التقينا المرة الثانية في الفيلم الذي أخرجه “ماريو بولونيني”، “غادة الكاميليا”، بعد خمس سنوات، تذكرت لقاءاتنا السابقة قائلة: “أذكرك جيدا”.
وكان الحصاد وفيرا..
– ما الحصاد الذي جنيته من زراعة السنتين بمعهد “بالاشوفا”..
– جنيت فاكهة الثقة في النفس ممثلا، جنيت معرفة بالمسرح، والريبرتوار المسرحي، طورت معرفتي باللغة الفرنسية، وازداد رصيدها، وتعرفت على الوسط وعالم المسرح، وعبر هذه البوابة بدأت أهتم بالسينما ومشاهدة أفلام المخرجين، إذ بدأت أسمع أسماء “بيرغمان”، و”بريسون”.. أصبح ذلك هو نوع اللغة التي أتعامل بها خلال النهار وآناء الليل أحيانا، وتحتل ذهني والذاكرة. ثم ابتليت بالقراءة، فقد عرفت أنها أس الوجود، والاندماج في الوسط. ثم شرعت أدمن التردد على المسارح، وعلى الخزانة السينمائية. كما كنا نحصل على استدعاءات من زملاء طلبة.. وهكذا فقد كان الانخراط قويا، والتورط واسعا..
بلاغة الأصل والعري
– لو ننتقل الآن إلى بداية تشخيص الفرجة، ولنحط الرحال عند تجربة “طرزان”..
– بالفعل، هي الأولى، وهي محاكاة ساخرة لحكاية طارزان. وكان اسمها “الطانغو الأخير في الأدغال” وهي التفاتة إلى فيلم برتولوتشي “الطانغو الأخير في باريس”. وهي مسرحية خفيفة، وهزلية موضوعها “طرزان” عرضناها في (café-théâtre)/مقهى مسرحي. لم يكن هذا المسرح بالشكل الذي هو عليه اليوم، فقد تطور الآن كثيرا. وأعتقد أن هذا النوع من المسرح لم يعد له وجود تقريبا. يومها، كان المقهى المسرحي هو “مسرح المحطة”، حيث مارس معظم الذين هم ممثلون كبار الآن، وبدأوا في تلك المسارح. “تيري ليرميت”، “جيرار جينيو”، “جيرار لونفان”، “كوليش” نفسه. وفي “مسرح المحطة”، كان المتفرجون يؤدون ثمن التذكرة، مثلما في كل المسارح، بينما في مسارح أخرى تلج الفضاء، وتؤدي ثمن ما تستهلكه، وهو يشبه الكاباريه. وبعد العرض يمر الممثلون يحملون حافظة نقود أو قفة ويجمعون ما يتفضل به الحضور. وقد بدأت التمثيل بهذا الصنف من المسارح. وكان المسرح يسمى (le cellulite)، بشارع (دوفين)، بمواجهة (le pont-neuf)..
فاكهة البدايات..
– كم استمرت التمارين بالنسبة لهذه المسرحية، وهل يتم حفظ النص قبل ولوج مرحلة التمرينات؟
– شهرا كاملا تقريبا. طبعا، كنا نخضع للتمارين يوميا. وبالفعل حفظت النص قبل بداية التمرين. فقد كنت منضبطا جدا، وبراغماتيا أيضا، لذلك كنت أحفظ النص عن ظهر قلب. بالطبع، في البداية تقرأ النص، والدور قراءة عادية. وعندما تستوعبه، وتمتلكه في سياقه، تشرع في أدائه، وفي تخيل طريقة النبرة، والصوت، والنغمة.. ثم يحدث أن تتغير طريقة الأداء، جزئيا أو كليا، وفق رؤية المخرج. طبعا، لا تنسى أن الممثل مبدع أيضا كالمخرج. فأنت تواجه النص بتكوينك، وثقافتك، وإبداعك الخاص.. كيف ترى الشخصية التي ستؤدي دورها، وكيف تتقمصها، ثم يصحح المخرج ما وجب تصحيحه أو تفاديه في الأداء خلال التداريب. وقد أطرى بعض المخرجين في البداية على حركتي وطريقة تحركي وليس أدائي. أقصد في السينما، بينما قيل لي إن لك حضورا على الركح في المسرح. وهذا يبين أن للممثل رأسمالا، ملكة تعوض بعض نواقص الذي يجب أن يتوفر عليها الممثل. بالطبع، كنت أعتبر نفسي ممثلا كبيرا، ويمثل هذا الاعتقاد بعض الأنا، وفي الحقيقة لم أكن ممثلا كبيرا..
– ولعل فقدان هذا الإحساس يورط الممثل ويبث الشك في نفسه والأداء..
– طبعا، لا بد من بعض الشعور بالذات، في حدود معقولة. الثقة في الذات ضرورية، لكن يجب أن نحتكم للواقع أيضا. كانت لي ثقة في النفس غير عادية. وحدث أن تضاءلت كمية الثقة لحظة أداء أدوار في بعض الأفلام، وأدركت أن للأمر علاقة بطبيعة الصوت الذي يريد المخرج أن يستخلصه مني، ولم يكن هذا الصوت جزءا من طبيعتي، من شخصيتي، وهكذا بدا الصوت كأنه نابع من قلب رجل ثمل. حدث ذلك في أفلام ثلاثة. ولم يحدث ذلك في المسرح لأن حجم حريتك أوسع..
رحلة عبر أعماق الذات
– حين صعدت لأول مرة على الركح لأداء دور “طارزان”، ما كانت طبيعة نفسك، ومزاجك، ونبضك..
– كنت طبيعيا ومرتاح البال. لم أشعر برهبة المسرح. رشيقا وبارعا كنت.. وكنت أعرف أن كل الحضور يركز علي، وبحوزتك الصورة فلتعد إلى تأملها، فقد كنت أمارس الرياضة منذ زمن، والممثل جسد أيضا، وكانت عضلاتي مفتولة وبارزة، ثم إن صورتي كانت تزين الملصق. والمخرج كان مفتونا بالجسد الإنساني.. وكان مسرح “السيليليت” يقدم مسرحيات تجمع بين بعض البذاءة، والإثارة، ولجلب الجمهور المثلي أيضا. فهذه باريس.. وقد حضرت العرض عدة مجلات طلبت ثلاث أن تنجز روبورتاجا مصورا عني فقبلت لأن التعويض مغر جدا، وكنت في البدايات.. وأبحث عن الشهرة ككل فنان يدشن مسيرته على الركح، ويعرف أن الإعلام يؤسس الأساطير.. واشتمل الربورتاج على صوري بلباس طرزان، ونصوصا عن موطني المغرب، ومدينتي طنجة والتعريف بهما. وفي ذلك جمع بين الحُسْنيَيْن. وقد عشت ستة أشهر من التألق إذ كنت بطل العرض، وكان معظم طلاب الفرجة يأتون لمشاهدتي. كنا نقدم العرض على الساعة العاشرة ليلا، ويسبقنا عرض الأختين إليزابيث وإيزابيل هيبير..
– مخرج مسرحية “الطانغو الأخير في باريس” هو نيكولا باتاي، ما الذي احتفظت به من هذه التجربة مادام المخرج يطبع الممثل أو يكبت مؤهلاته؟ ثم كم استمر عرض العمل؟
– هو مخرج معروف بأعمال تندرج ضمن هذه المدونة، وقد استفدت خاصة كيف تمثل قرب الجمهور وبمحاذاته، كما استفدت على مستوى الالقاء، بالرغم من أن “طرزان” يتحدث أحيانا بطريقة تعوزها البراعة وحسن التركيب. ثم إن المسرحية محاكاة ساخرة بما يعنيه جنسها من تشكيل اللغة، والتركيب.. ثم إنني كنت ما أزال طالبا حين أديت الدور في المسرحية. كنت ما أزال طالبا بمدرسة “بالاشوفا”، وأؤدي أدوارا ومقاطع من مسرحيات.. وكان هناك ممثل آخر من الطينة ذاتها يسمى جاك لوگري، وهو الذي أدى الدور الرئيسي لسنوات عدة بمسرحية يونيسكو “المغنية الصلعاء” بمسرح (La Huchette)/”لاهيشيت”.. قدمنا المسرحية طيلة ستة أشهر مع استراحة كل يوم اثنين.
أحفاد روبنسون كروزو
– بعد “طرزان” دعيت لأداء دور بمسرحية ذات طابع أدبي، (La petite hutte)/”الكوخ الصغير”، لكاتب مسرحي متميز، “أندري روسان”..
– لم يكن دوري يتسع لمقاطع طويلة، لكنه كان يمثل الانقلاب المفاجئ في العمل. تقوم المسرحية على أربع شخصيات، في البداية، نرى ثلاثة منهم امرأة ورجلان: الزوج وصديقه، والصديق عشيق الزوجة في الآن ذاته. من دون أن يعلم بذلك، فالزوج آخر من يعلم. يسافر الثلاثة في رحلة بحرية، وتغرق السفينة، وينجو الثلاثة فنراهم على ظهر جزيرة مهجورة. هذه بداية المسرحية، ونرى أيضا كوخين، الكبير ليضم الزوجين، والصغير للصديق العاشق. أظهر في البداية جلداً ثم عِيل صبره، لم يعد يتحمل رؤية خليلته رفقة صديقه، زوجها. وكان الزوج مرحا، دائم الغناء، يذهب للصيد، عاشق لفن الطبخ.. يذهب الزوج للصيد، يتحدث العشيقان، يشكو العاشق عذابه، تسأله العشيقة ما الحل؟ يقترح إخبار الزوج بالأمر ثم اقتسام المتعة.. وافق الزوج على الاقتراح فكانت المفاجأة مذهلة. وهنا تتدخل الشخصية الرابعة المحرضة، أنا، فينقلب كل شيء على عقب. وهو ما يمثل لباب المسرحية وجوهرها. فاجأت الثلاثة مرتديا لباس الهنود الحمر، كالمتوحش، هددت الجميع، قيدت الرجلين إلى عمود وكمَّمْتهما، وأخذت المرأة إلى الكوخ الصغير.. وكان ما كان.. هكذا ينتهي الفصل الأول.. وبعد (L’entracte)/الاستراحة، التي لم يعد لها وجود في المسرح الآن، يبدأ الثاني وقد قبل الرجلان بوجودي.. ثم أُصبح خادما.. وذات يوم، اصطدت سمكة كبيرة، ثم طبختها، أطرى الزوج والزوجة على طريقة الطبخ والذوق. قال الزوج: كم وددت لو كان يتكلم ويعطيني الوصفة. فارتكبت الخطأ. قلت نعم.. وقد أمضيت معهما كل الفترة السابقة لا أتحدث فاعتقدوا أني متوحش!! فانقض علي الرجلان، وقيدا معصمي. وأخبرتهما أني كنت طباخ السفينة الغارقة! إنه الالتباس أو سوء الفهم الذي يثير الضحك، فالمسرحية تنتمي إلى مسرح البولفار، تهدف إلى الترفيه والإضحاك..
العودة إلى المنابع..
– رأيت بحوزتك صورة مع “أندريه روسان”، ما المناسبة؟
– كان قد زارنا الكاتب المسرحي بعد الانتهاء من التداريب وحضر العرض من دون جمهور، أعطى بعض الملاحظات كما تدل الصورة على ذلك، وقد أحب العرض والأداء، والاخراج “لجاك أرغدوان” (1937-2002)..
– وكم استمر عرض المسرحية..
– أكثر من ثلاثة أشهر من دون انقطاع، بمسرح يسمى (Théâtre des nouveautés)، ثم قمنا بجولة بالمسرحية ذاتها، بممثلين آخرين في بعض البلدان الإفريقية. بينما بقي معي دومينيك باتيريل. عمره (85) سنة، وهو معروف بالدبلجة في فرنسا. فقد أعار صوته لكل من تيرانس هيل، ميكائيل كين، روبير فاغنر، جورج بِّيبار، وجِيِّيرْ في مسلسل “دالاس”… فقد حصلنا على عقود عمل برعاية “روطاري كلوب”، و”لاينس كلوب”، و”طيران أفريقيا”، واتحاد النقل الجوي (UTA). وحصلنا على ذلك من خلال عضو (La comédie française)/الكوميديا الفرنسية “برنار ديران” (1926-2013)، الذي أدى دور الزوج، وكان العشيق هو الفنان “كلود تيتر”(1930-1985)، وقد اشتهر بأداء دور “بوب موران” بمسلسل تلفزيوني منتصف السيتينيات. نظم “ديران” الجولات، فقد كان متزوجا من ابنة سفير فرنسي معتمد بدولة إفريقية، وله علاقات قرابة بقصر الإليزي. كنا ننتقل إلى السينغال مثلا نقضي هناك أسبوعا، نقدم خلاله العرض، ثم نعود إلى باريس، ثم ننطلق نحو ساحل العاج، نقدم العرض لمدة أسبوع، فباريس من جديد، ثم الكونغو/الزايير، فباريس ثم الكامرون، فباريس، ثم التشاد..
الثقة.. إكسير الحياة..
– لا يمكن أن لا يجرنا الحديث إلى تذكر لحظات مع المسرحي “روسان”…
– رجل لطيف حقيقة، مهذب. قبل الالتقاء به على الركح لحظة نهاية التداريب، كان زملائي بالمدرسة قد أرعبوني: “روسان رجل صعب، وهو أكاديمي، وشهير.. انتبه جيدا”. ولذلك حين زارنا ووقف إلى جانبي كنت كالمتحجر.. وبعد العرض الأول استضافنا لحفل أقامه على شرفنا.. وكان فرحا ثم إن الصحافة احتفت بالمسرحية.. وشربنا الشامبانيا..
– أنت الآن، ما تزال طالبا، قدمت عرضين مسرحيين مهمين.. ما الإضافة التي تشعر أنهما قدماها لتكوينك ولك؟..
– أول ما شعرت به أنهما عرَّفتا بي، ومنحتاني الاعتراف. فقد كنت أشعر في قرارة نفسي ببعض القلق من طريقة الإلقاء. فقد قضيت فترة بطنجة، صحيح أنني فرنسي الجنسية، ولكنني أعيش بين طنجة وباريس.. وكان شركائي فرنسيين أبا عن جد، ومعرفتهم أوسع بالأدب والتاريخي الفرنسيين، وكنت لا أحب أن يكون بيني وبينهم حواجز من أي نوع. ومن هنا أهمية هذين العملين اللذين أعطياني ثقة أكبر في الذات. وحين تكتسب الثقة في الذات، يصبح كل شيء يتمتع بالسلاسة، والرقة..
فن الحياة، وفن الآلة..
– والآن، يمكن أن أسألك ما معنى أن تكون ممثلا في المسرح، وفي السينما…
– بالنسبة إلي، أن تكون ممثلا مسرحيا يعني أنك تؤدي دورا مباشرا، أمام الجمهور من دون توقف ولا استراحة. دورا تقضي أسابيع بل وشهرا في إجراء التداريب عليه بعد حفظه، وحين تصبح جاهزا، تقف على الركح فتغطس.. تقتحم الدور وتواجه الشخصية التي تقمصتها خلال التداريب. وفي تلك اللحظة تصبح شخصا آخر تماما.. أعرف أنني لما أديت دوري في مسرحية جينه “الزنوج”، كنت أؤدي دور شخص يمثل مدينة “سان لازير”، وكانت الشخصيات كلها تحمل أسماء مدن، وكنت شخصية ثورية، فقد كنت وأصبحت “سان لازير” حتى عندما كنت خلف الكواليس. كنت أؤدي مونولوغات، ومقاطع طويلة جدا.. بينما تطلب منك السينما نغمة، ونبرة لكنها متقطعة، متشظية لحظة توجه الكاميرا نحوك، وإشعارك بذلك، ولو أنك تهيئ نفسك قبل ذلك بقليل.. إذ هناك تقنيون، وهناك إنارة.. فتضطر أن تعزل نفسك في زاوية معينة، أو داخل كرافان/بيت متنقل إن كنت نجما كبيرا. بينما في المسرح تحس أنك داخل أسرة، للتواصل خلال فترة التداريب، وهاهي ساعة العرض قد دقت فلنغطس، ولنلعب.. المسرح مباشر، لا يعرف الانقطاع. والسينما سيدة الأداء المتقطع، ولذلك تعرف تقنيات التوضيب أو المونتاج.
وقود المسرح والسينما..
– وطريقة الأداء..
– هي أيضا تختلف، في السينما تكاد تتحدث حديث التمتمة.. وألاحظ أننا نقول فنان بالنسبة للمسرح، وممثل بالنسبة للسينما. فنان المسرح يمتلك تقنيات أداء بلغت الاكتمال، وكلامه واضح جدا، وحركاته أكثر تضخيما من ممثل السينما. فممثل السينما الذي لا يمثل إلا للسينما يتحدث كما يفعل ذلك في الحياة اليومية، كما أنا الآن أمامك، أتحدث إليك، لأنه يعلم أن الكاميرا ستلتقط كل شيء، ولن يفلت منها شيء، فعلاقته بالكاميرا علاقة حاسمة. ممثل السينما يغوي الكاميرا، يغازلها، فهو يعرف أن الكاميرا تنظر إليه، بينما الفنان المسرحي يعرف أن هناك جمهورا أتى من أجله، يشعر بوجوده، بذبذباته، وينتظر منه متعة ما.. وهكذا فهو يعمد إلى مغازلة الجمهور، ويرفع صوته، ويقوم بحركات يمكن أن يراها من هو في البالكون أيضا. ثم إن مشية من يتحرك على الركح تختلف عن مشية من يمثل للسينما، بالرغم من أن المسارح عرفت موجة تحديث كبيرة حتى أنه يمكنني القول إن جزءا من المسرح قد أصبح إفتراضيا. شاهدت مؤخرا مسرحيتين بباريس، حضرت فيهما معا شاشة تعرض عليها صور وأحداث.. وقبل العرض ترى الشاشة تعرض الفنانين وهم خلف الكواليس وقد انخرطوا في لحظة التركيز والتمركز على الذات. فالواقع الافتراضي قد تم إدماجه ضمن اللحظة المسرحية. أتحدث عن المسرحيات الجديدة، وأقصد طريقة مشية ممثل من اللحظة الراهنة، وهي تختلف عن مشية من يسير وهو أمام عين الكاميرا.
دم الفنان..
– وثقافة الممثل أو الفنان الضرورية التي لا يمكن أن يفلح في مهمته من دون امتلاكها أو تشرب بعضها..
– يجب أن يقرأ معظم إن لم يكن كل المسرح الكلاسيكي، وينكب على الحديث.. ليعرف تطور المسرح، وأعلامه، وخصائص كل عصر واتجاه.. ثم إن معظم الفنانين، في فرنسا، قراء بنهم، واطلاعهم واسع، وفنانو المسرح أكثر اطلاعا من ممثلي السينما، قد أكون أتحدث عن الجيل السابق، الذي عاشرت كثيرا من أعلامه. ثم إن معظم الفنانين المسرحيين الشباب الذين يذهبون إلى “أفينيون” يمتلكون ثقافة مسرحية كلاسيكية حقيقية، لا يمكن إنكارها.. ثم إن الفنان يجب أن يكون على وئام مع جسده، ويدرس التعبير الجسدي، والرقص، والمسايفة.. فهو قد يدعى إلى أداء أدوار في مسرحيات كلاسيكية “لشكسبير” ويعرف فن استعمال السيف، ثم ركوب الخيل.. والخلاصة يجب أن يشتغل الفنان على جسده اشتغالا كبيرا بل مضنيا، وعلى صوته أيضا.. خاصة طريقة الأداء..
– دون أن ينسى الحركة الرشيقة على الركح..
– بالفعل، فحين تكون على معرفة جيدة بجسدك، وتتعامل معه بحرية فأنت تعرف سبل الحلول بفضاء الركح، فذلك نتيجة طبيعية لتلك المعرفة. إن من يؤدي دوره وهو جامد في مكانه يبين أنه على غير وئام مع جسده. إنه محاصر كشيء عَلِقَ بمكان ما.. والرياضة تسهم في تلطيف الجسد وتلْيِينه. والخلاصة، فمن يكون على وئام مع جسده يفرض ذاته على الفضاء، ويحسن التحرك فوقه بكل البراعة المطلوبة..
الدور الأم..
– ثم كانت المسرحية الثالثة التي أديت فيها دورا هي (un canapé-lit)/”أريكة سرير”..
– بالفعل، كانت المسرحية مترجمة عن الانجليزية، وحققت نجاحا كبيرا في لندن، وشارك فيها أيضا “دومينيك باتريل”، الزوج في مسرحية “روسان” سالفة الذكر. وهو من نادى علي، فقد أعجبه أدائي في “الكوخ الصغير”. ثم إنه كان يبحث عن شاب عربي ليتقمص دور أمير. ولكنه عصري أيضا، مرة يرتدي اللباس المحلي، ثم البذلة الأوربية. وهو أيضا فاتن، ومُغْوٍ، يقيم بعاصمة الضباب. نادى علي، ولأنه نجم فكلمته مسموعة في الأوساط المسرحية. وقد لاقت المسرحية نجاحا كبيرا، وقدمنا العروض بمسرح (Daunou)/”دونو”، وهو قريب من قاعة الأوبرا. وقد كانت عدة حافلات تأتي من مقاطعات أخرى تحمل متفرجين جاؤوا لمشاهدة المسرحية، كما جاء عدد كبير من المتقاعدين. وكتبت عنا الصحافة كثيرا، ثم قدم العمل على الشاشة الصغرى. وما زلت أحتفظ بمقاطع من المسرحية مسجلة.. وشعرت بكثير من الغبطة والاعتزاز بالنفس حين حضرت العرض والدتي، وأختي، وعدد من أفراد العائلة والأصدقاء.
– لو عدت لطرح السؤال ذاته: ماذا أضافت هذه التجربة الجديدة لك؟
– تقريبا ما قلته سابقا، الثقة في الذات، طبعا جرعات إضافية، ومن ثم الإصرار والرغبة في ركوب كل أصناف التحدي..
الحج إلى أثينا..
– وكانت مسرحية جان جنيه، “الزنوج”..
– أستميحك عذرا، فقد نسيت مسرحية بالرغم من دوري المتواضع بها، ولكن وجب أن أشير إليها فهي مسرحية “ليوريبيديس” وهي (Les bacchantes)، وأداها فنانو مسرح “لا كوميدي فرانسيز”، و”فرانسيس هيستير”، وهو ممثل، ومخرج للمسرح والسينما، وكاتب سيناريو، و”كاترين سامي” وتنتمي إلى “لاكوميدي فرانسيز”، وهي من كبار سيدات المسرح، وهي فنانة رائعة تمثل عيون المسرح، و”فرانسوا شوميت” (1923-1996). وهؤلاء النجوم ينتمون إلى “لاكوميدي فرانسيز”، واحتككت بهم سنة (1977)، مباشرة بعد مسرحية “طرزان”. ومن غير المنتمين للاكوميدي فرانسيز فتيات يلعبن دور “الباخيات” وصديق وأنا لعبنا دور عبدين يونانيين. كنا نتدخل في أشياء عدة، وكانت لنا بعض الردود. وقدمنا المسرحية بمسرح (L’Odéon) /الأوديون، كما كان يدعى يومها ويسمى الآن مسرح أوربا. ورغم محدودية الدور، فأنت تؤدي عملا كلاسيكيا، وتؤديه بمسرح أوربا، وهو ممتلئ عن آخره كل ليلة طيلة شهر كامل. وكان المخرج شهيرا جدا، يخرج مسرحيات ولكنه أنجز فيلما رأيته وأعجبك، كما أعجبني، “زوربا اليوناني”، وهو “ميشيل كاكويانيس”. أراك تريد طرح سؤال الحصاد من جديد. ازدادت الثقة في الذات، وقلت بيني وبين نفسي إذا مثلت مع هؤلاء، ورضي عنك هذا المخرج فأنت قادر على متابعة المسير، والتقدم خطوات أخرى. وشيئا فشيئا حدث ذلك، بالفعل، فقد اخترت لأداء دور في مسرحية جينيه، “الزنوج”. لو اقترحت علي المسرحية بعد “الكوخ الصغير” مباشرة لترددت وأكلتني الخشية. لن أستطع الرفض، ولكن لم يقترح اسمي للأداء. لقد كنت عجينا جيدا، قابلا للتشكيل. وهو ما قصده حين قال لي: “إن لك روح الممثل”. فقد كنت مادة خاما..
تشْمير عن السواعد..
– وها هو نسيان مقابل نسيان. أذكر أنك أديت دورا بمسرحية (La colline)/”لاكولين”..
– نعم، قدمنا العرض بمسرح (Les bouffes du nord)، وقد أخرج المسرحية أحد الطلبة القدامى وهو “ديديي فلامان”، واشراف أستاذنا والمشرف علينا (A. Voutsinas)/”أندرياس فوتسيناس”/(1932-2010). [وكان فوتسيناس يكتري هذا المسرح ليدرس به طلبته في النهار، كما كان آخرون يكترون مسارح أخرى للغرض ذاته، وتحتضن في الليل العروض المسرحية] وهي عمل قدم بمناسبة نهاية السنة الدراسية بمعهد بالاشوفا. فقد كنا، نحن الطلبة، نشكل ثلاث مجموعات، وعلى كل مجموعة أن تهيئ عرضا مسرحيا وتقدمه أمام الجمهور. كان الدور الذي أُنيط بي هو دور رجل ماجن بلا عمل، يقضي وقته في إغواء سيدة فاتنة تكبره سنا..
ابرة في القش..
وهي زوجة فنان معروف، هو (Darry Cowl)/”داري كول”/(1925-2006)، وهو فنان فكاهة وموسيقي معروف. ويومها اكتشفني كاستينغ معروف جدا يدعى (Margot Capelier)/”مارگو كابولييه”(2007-1910) التي كانت تملك كل السلط لتقرر في كل شيء في مجال السينما. فهي أكبر كاستينغ في فرنسا. وعندما رأتني، وكان شعري مجعدا، يومها، وتعكسه الصورة على الشاشة أشقر، وسمعتها تقول في الكواليس باحثة عني: “أين هو الأشقر؟ أين هو الدانماركي الجميل؟” معتقدة أني مواطن دنماركي. وحين اقتربت منها اكتشفت أني لست دنماركيا، ورغم ذلك وضعتني على لوائحها، ومكنتني من أداء أدوار كثيرة في عدد من الأفلام كانت وراء اختيار ممثليها..
ومن الصدف ما أحيا..
وهنا أيضا سألتقي مع “تامان” حيث سيكتشفني “برنار لوفور”، وكان مدير الأوبرا بباريس. وعندما رآني بمسرح “لابوف دي نور”، كان يشغل منصب مدير الأوبرا بمدينة مارسيليا، وعين للتو مدير الأوبرا بباريس، ولم يتسلم الإدارة بعد، ولكنه كان مدير مهرجان “إيكس أون بروفانس” للمسرح الغنائي، يومها. وهو مهرجان دولي ويقام مرة في السنة. وما دام هو المدير، فهو من ينظم المهرجان، وما دامت الدولة هي التي تؤدي الأجور، فقد كان مرغما على توظيف ثلاثة أو أربعة متدربين مساعدين. ولما رآني اتصل بي، حدثني عن المشاريع التي يعتزم تدشينها، أعطاني رقم هاتفه، ولم يقل لي إنه مدير الأوبرا، وأن الأوبرا تحتاج ممثلين. بل اكتفى بالقول إن أوبرا مارسيليا تهيئ أحيانا مسرحيات. والحقيقة، أن الأوبرا تحتاج ممثلين أحيانا وليس دائما. أعطيته رقم هاتفي، وأعطاني بطاقته. وكان شخصا قوي البنية، والشخصية، والحضور، ومهذبا جدا. وقد أخبرني أحدهم أنه المدير المقبل لأوبرا باريس.. ثم نادى علي، ودعاني لتناول وجبة الغداء، بباريس طبعا حيث يقيم، أما مارسيليا فهو ينتقل إليها بين الفينة والأخرى. وكانت صديقتي يومها حبلى وعلى وشك الوضع. ورغم ذلك رحلت إلى أمريكا لأداء دور في فيلم تلفزي (Salut champion). وأخبرته بكل هذا، وقلت له إن الفيلم يخرجه “جاك شاريي”. وهو واحد من أوائل أزواج “بريجيت باردو”، ورزق منها بطفل. وامتدح الأمر، كما امتدح الرجل. ثم سألني عن مشاريعي بعد هذا الفيلم، قلت له: “ليس هناك عمل في الأفق”. تعرف أن الممثل قد يشتغل ستة أشهر متتالية، ولا يشتغل عدد الأشهر ذاتها، يعاني بطالة فنية! ولذلك، على الممثل أن يحتاط وينظم وجوده ليضمن بعض العمل حين ينتهي من مشروع أو مشروعين. قال: إذا لم يكن هناك عمل في الأفق، يجب أن نلتقي، حين تعود إلى باريس، لأنني أهيئ مهرجان “أديكس”، وأقترح عليك عمل متدرب، وستكون أجرتك أرفع من أجرة الآخرين، وتستفيد من شقة طيلة أشهر العمل/التدريب. وقد كان المتدربون يقيمون بفندق متواضع، تؤدي ثمنه الدولة.
مسارب سبل الحياة..
– ها أنت تعود من أمريكا، تنتقل إلى مدينة “إيكس أون بروفانس” رفقة صديقتك، أم ابنك.. والأوبرا تقوم على الأعمال الموسيقية، ولست موسيقيا، ولا قادرا على قراءة مقطوعة موسيقية…
– تعرف أن المتدرب، في هذه الحالة، شخص يحصل على أجرة مدة التدريب لأن الدولة ملزمة بمنح فرص التدريب لأربعة متدربين بالأوبرا. وعملك هو أن تحمل مذكرة وتدون كل الملاحظات بشأن العمل، أو المهرجان، أو تمتشق آلة تصوير وتلتقط كل الصور التي تؤرخ للمهرجان، ثم تكتب تقريرا عن كل ما تعلمته. وفي كل ذلك تشجيع من الدولة، ومنح فرص للشباب للتعلم، أو فتح الآفاق أمامهم لتعلم أشياء أخرى، أو متابعة الدراسة.. وفي رأيي، كان بإمكانه أن يطلب متدربا حاصلا على تكوين موسيقي. اختياره لشخصي لأنه كان حامل أفكار أو أوهام.. وبهذه الطريقة تعرفت على “جان لوي تامان” الذي كان مخرج أوبريت مشهورة جدا بعنوان:”دون باسكوالي”…
– وهي من تأليف “گايتانو دونيزيتي”، وقدمت لأول مرة منذ منتصف القرن التاسع عشر..
– نعم، ثم نادى علي ذات يوم.. قال إنني أهيئ أوبرا “بشاتلي”، وسأحتاج إليك. طبعا، الدور كان صامتا وعلي الحضور على الركح لمدة طويلة ، وعلى الفنان أن يشتغل. ثم إن هذا العمل يمكنني من جمع عدد معين من الساعات يمكنك من حق الحصول على تعويضات البطالة.. وأعتقد أني كنت طلبت هذا الأمر، كما يطلبه الفنانون الشباب لتأمين أنفسهم ضد الحاجة.. لكني لم ألب طلب “تامان”، إذ جاءني اقتراح لأداء دور في فيلم (La guerre des polices).. ويقينا على اتصال، ثم أصبحنا صديقين. وهو رجل لطيف وحين أصبح مديرا لمسرح مدينة “بوردو”، وهيأ مسرحية “الزنوج” نادى علي..
زنوج، وعدالة، وتحطيم الجدار..
أخرج المسرحية “تامان”.. مكنتني هذه المسرحية من إنجاز خطوة كبيرة في تجربتي المسرحية. بل عدة خطوات، دفعة واحدة. على مستوى الأداء، وعلى مستوى الحركة، وعلى مستوى الفضاء، ثم إنها المرة الأولى التي أؤدي فيها مونولوغا طويلا أمام جمهور. ثم إن إخراج المسرحية قد قِيمَ به بطريقة خاصة واستثنائية جدا. وحديثة، وعصرية، أيضا. ويحيل “رولان بارث” على “بريشت” متحدثا عن طريقته في الإخراج، وطريقته في تحطيم الجدار الرابع، كما في المسرح اليوناني القديم.. وبالنسبة لي فقد كان الجمهور حاضرا، وكان مشاركا في العرض، بل كان يمثل قلب العرض. وكان الجمهور كله من الشباب، شباب مدينة “بوردو”، ورغب “تامان” في تقديم المسرحية بباريس، لكنه لم يعثر على قاعة مسرح شاغرة. وقد طلب أن يعرض بمسرح “لي بوف دي نور”، وهو الفضاء المثالي لتقديم العرض، مادام الركح لا يشبه الركح التقليدي، بل هو شبيه بركح السيرك. مثل مدرج ويتخذ توزيع الجمهور شكلا دائريا، لذلك كنا لا نلج قاعة المسرح من الكواليس بل من الشارع مباشرة بعد أن يكون الجمهور اتخذ أمكنته، وهدأ.. نغادر القاعة ثم نمر من أمام شباك التذاكر ونلج القاعة. طبعا، لم أكن أدخل مع الممثلين الذين يفتتحون العرض، بل أنتظر نصف الساعة لذلك ألجأ إلى “البيسترو” القريب من المسرح، أحتسي قهوة، وأنا أرتدي بذلة الدور، وحين يكن الجو باردا ألبس أيضا برنس الحمام. وقد ظللنا نعرض المسرحية طيلة شهر كامل من دون انقطاع. وقد كتبت عنا الصحافة ومنها مقالة بجريدة “اللوموند”. وأذكر أنك قرأته من قبل.
– لو عدت لطرح السؤال ذاته، لأمتحن أجوبتك، خاصة أن جينيه كاتب طليعي، ومسرحيته تجمع بين الواقع واللعب وتعرض للثورة التي ستندلع مع إعدام الخائن وأصحاب الأقنعة البيضاء…
– أصبح لدي الدليل على أنني قادر على أن أؤدي أي دور كيفما كانت طبيعته. وأؤدي أدوارا في المسرح الكلاسيكي، ومسرح الكتاب الملتزمين أخلاقيا وسياسيا. وكما قلت من قبل، فقد أعطتني هذه المسرحية الجرعة الكبرى من الثقة. ولعل تجربة أي ممثل مهما امتدت في الزمن فهي بحث عن جرعات متنوعة من الثقة في الذات، وهي التي تمكن من إمتاع المتفرج، وتطوير الفرجة التي يؤسسها الكتاب.. الذين يدين لهم الفنان بالكثير، والمخرجون الذين يمكنونهم من ذلك.
كلمات سارتر وفعل جينيه..
– كنت أديت دور شخصية ثائرة..
– أديت دور مدينة “سان لازير”، وهو الشخصية الثائرة بالمسرح، الذي لا يكتفي بالحديث عن الثورة بأسطح المقاهي، مثل جان بول سارتر”، بل كما كان جينيه نفسه يشتعل ثورة ويريد التغيير. كنت على صورته أعاين الواقع، ثم أعود وأخبر الثوار بما يحدث في الواقع.. وقد رأيتَ صورا من العرض، كنت أرتدي يومها لباس “رامبو”، وطليت وجهي بالطين. وقد جاء صديقي المخرج جاك لمشاهدة العرض ولتقييم الأداء، وأطرى عليه..
– يحدثنا تاريخ السينما أن كثيرا من كبار المخرجين السينمائيين مروا من تجربة المسرح..
الفن بين المتعة وفرص الشغل
– هل العبور من المسرح ضروري؟ ذلك ما تقصد الإشارة إليه.. ليس ضروريا، ولكن لو سألني شاب على وشك دخول التجربة لنصحته بممارسة المسرح، فهو بذلك سيكون أقرب إلى الاكتمال، لأنه تجربة شاملة، متواصلة في الزمان والمكان، لا تعرف التقطيع ولا التجزيء.. ولا التلاعب بالمشاهد، أقول ذلك استطرادا. أفكر مثلا بالدبلجة، تسرق صوت الممثل السينمائي، ولو كانت تخلق فرص الشغل لآخرين! والممثل البديل الذي يقوم بالأدوار الخطرة..
– هل يمكن اعتبار السينما تسرق الفنانين من المسرح لأنها تغري بكل مقوماتها: عدد الجمهور، التعوضات والأجور..
– لا، أبدا. لا أعتقد ذلك. بينت تجربتي الخاصة أن الممثلين الذين يمارسون حتى الثمالة المسرح، يمارسون بشكل أقل السينما، ولكن يشاركون بشكل أكبر في الأفلام التلفزية، وربما أيضا في مسلسلات تلفزيونية. ويبدو لي الأمر يتغير نسبيا الآن، ذلك أن ممثلي السينما، من فئة الممثلين الأذكياء، يعودون أو يمارسون المسرح. ومنهم “ألان دولون” نفسه، فقد أدى عدة أدوار في عدد من المسرحيات.. فقبل ثلاث سنوات مثل إلى جانب ابنته، وقبل أربع سنوات لعب إلى جانب “ميراي دارك”. لقد أضحى جزءا من موضة أن ممثل السينما، بل نجمها يعلب في المسرح. ويبرز هذا الأمر أهمية المسرح، ومعروف أن الممثل الذي مارس السينما فقط، ينقصه شيء ما في تجربته.. وهؤلاء يمثلون فئة قليلة.
– ما طبيعة شعورك وأنت تصعد إلى الركح..
– أمامي الآن شاشة صغرى تقدم مباراة كرة القدم. حين يلج لاعب كرة القدم الملعب فهو يتجاوز نفسه، يتخطى ذاته، وكذلك الأمر بالنسبة للفنان المسرحي حين يعتلي الركح يتسامى، يعرف أنه لن يسمع المخرج يأمره: توقف! فهو سيتابع سموه إلى نهاية الطريق، آخر رمق منه ومن النص الذي يحمله بين جوانحه وقلب قلبه.
لك الإمارة أيها الفنان..
– قال لي فنان مغربي مؤخرا: حينما أكون على الركح أشعر أني أمير”، وقد قصد من عبارته الحرية المطلقة التي ينعم بها على جزء من الركح، وفي تلك اللحظات المعينة، وقد ينسى الجمهور التي جاء باحثا عن الفرجة، ونفسه التي تتحول لتقدم تلك الفرجة، وقد تحولها متعة..
– لعل لكل فنان مشاعره الخاصة، وتخيلاته وأوهامه الخاصة، ونماذجه الخاصة.. أحدثك الآن بعبارت الأحاسيس، والالتزام الذي يشعر به ممثل اتجاه آخر يوجد بالأستوديو القريب منه، الذي ينجز فيلما، والذي يلعب على ركح مسرح غير بعيد، والذي يتم توقيف أدائه بين الفينة والأخرى.. ومن هؤلاء الممثلين من يظل يكرر جملة واحدة ثلاثين مرة حتى يسأم تكاليف الحياة. بينما الذي يؤدي دورا في مسرحية يتمتع طيلة العرض، وفي النهاية سيقال له: “كنت رائعا، أو كنت مقرفا”.. فهناك كمية أقل من الاحباط وتثبيط الهمة. أتحدث عن فعل الفعل، حين تؤدي دورك الذي هو جوهر وجودك وأنت على الركح، فأنت تعيش أقل قدر من الاحباط.. وهذا لا يعني أن ممثل السينما لا يمنح نفسه كاملا لأداء دوره، ولكنه يؤمر بالتوقف، ويخضع للإيقاف.. وهناك مخرجون ساديون، حين يرى الواحد منهم الممثل يجهد نفسه أو يتثاقل يقول: “توقف”! لو كنت محله لما أمرت بالتوقف، بل أسمح له بالانتهاء من أداء اللقطة ثم أقول له سنعيد اللقطة ولكن يجب أداؤها بالطريقة التالية.. في السينما نؤدي الدور بشكل شذري، ومتقطع، ثم يتم توضيبه.. بينما في المسرح نعيش اللحظة في تواصلها المدهش، والإنساني النبيل.
من المهد إلى اللحد
– بعد انهاء درس “بالاشوفا” انتقلت إلى درس آخر مهم أيضا “لأندرياس فوتسيناس” وهو ما مثل السنة الثالثة من التعلم..
– بالفعل، فقد حدثني “جاك” عن أهمية درس “فوتسيناس”، وهو مستشار الفنانة “جين فوندا”، ومساعد (Lee Strasberg)/”لي ستراسبيرگ” مبدع طريقة الممثل/استوديو القائمة على أن يؤدي الممثل أداءا حقيقيا وواقعيا في المسرح والسينما لا على أن يحاكي، أو يقلد، أو يتظاهر. وكانت طريقة “فوتسيناس” تعتمد أسلوب “ستانيسلافسكي” القائم على التحليل النفسي للشخصية، وعلى البعد الفكري. وقد درس على يده كل فناني باريس: “كلود براسور”، و”بريجيت فوسي”، و”أرييل دومبال”.. وكان كل الفنانين المعروفين يترددون على درسه، بالرغم من أنهم يشتغلون، لأنهم في حاجة إلى تدريب مثل كل الرياضيين الكبار، فهم يلعبون، ولكنهم في الحاجة إلى تدريب ليكونوا أكثر فاعلية.. ولا يقبل الطالب في درس “فوتسيناس” إلا بعد أن يمتحن. وقد رفض العشرات من المرشحين..
موعد مع بيتر بروك..
– ولما كنت أتابع درس “فوتسيناس”، كان يتردد على ذات المسرح المخرج المسرحي الكبير “بيتر بروك” وفرقته، فقد كان يعد مسرحياته بالمسرح ذاته، “لي بوف دي نور”، وقد قدمت طلبا للانضمام إلى فرقته ولكن لم أقبل. و”بروك” معروف بأنه يقبل ممثلين من كل الأجناس، كما يحب المزج بين الأجناس في مسرحه، لكن لم يكن بحاجة إلى شخص بمثل سحنتي في تلك الفترة بالضبط، بحسب ما قيل لي.. فقد كان “بروك” حضر درسا “لفوتسيناس”، ورآني وقال لأستاذي “أريد أن أختبر أداء هذا الممثل”، وكان يقوم بكاستينغ لاختيار ممثلين لمسرحيته المقبلة، لكن لم أكن أستجيب لما تطلبه تلك المسرحية بالضبط. لم يكلفني بتقديم مشهد، بل اكتفي بطرح عدة أسئلة، ثم قال لي: “سأنادي عليك”. ولم يفعل، لأن لا دور لي في تلك المسرحية..
ولم ينس نصيبه من السينما
– وقد جذبتك، فيما بعد، السينما لسحر فيها ولأنها سبيل استيعاب عمل الممثل وفضاء العمل والابداع. ما الإضافات التي وضعتها ممارسة الرياضة في رصيدك في ممارسة المسرح، وهو يتطلب مرونة وليونة أكثر من السينما..
– والسينما أيضا.. وقد حظيت بمخرجين استحسنوا هذه الخصيصة منهم صديقي “جان كلود ميسيان” الذي اشتغلت معه في ثلاثة أفلام هي: (Tirs groupés) مع فنانين آخرين منهم “لونفان”، و”ميشيل كونستنتان”، و(Ronde de nuit) إلى جانب الفنان “إيدي ميتشيل”، و”جيرار لونفان”، و(La Baston) إلى جانب “روبان رينوتشي”،الذي أصبح مدير مسرح ويدير فرقة مسرحية الآن.. وقد كان “ميسيان” ملحقا صحافيا ويمتلك معرفة موسوعية عن السينما الأمريكية، قبل أن يلج عالم الإخراج السينمائي.. وفي هذه الأفلام كنت أتحرك جيدا، ويعود الفضل في ذلك إلى الرياضة. وتمنحك الرياضة الخفة، والمرونة، والليونة، وهذا ما منحتني إياه الرياضة. وقد شاهدت حلقة من مسلسل مثلت فيها إلى جانب مطربة بلجيكية وممثلة: “آني كوردي” حيث أديت دور زوج تفتك به الغيرة.. هناك شخص يهاحمني وينطحني ثم يسقطني، وحين أسقط أقوم بشقلبة في الهواء نحو الخلف، ثم أقوم بقفزة بهلوانية، كما يقوم بها “الترابيزيست”، وقد رأيت هذه الحركة لأول مرة قام بها ممثل إيطالي تعرفه جيدا منذ مرحلة الشباب، وهو “جيليانو جيما”..
الجسم السليم في الفرجة السليمة
– تقصد تلك المبارزة في فيلم “الجبابرة” ضد رجل ملون.. وقد دهن “جيما” جسده بالزيت حتى لا يستطيع خصمه الإمساك به.
– نعم، وقد شاهدت هذا الفيلم مرات لا تحصى ولا تعد، وأثر في كما لم يفعل فيلم آخر، وكان “جيما” معبودي وليس نجمي المفضل، كما “ألان دولون” أيضا. وقد قمت بهذه الحركة تكريما له وتقديرا. ولولا ممارسة الرياضة لما استطعت أن أقوم بهذه الحركة البهلوانية… ثم إن كل المعارك التي خضتها في عدة أفلام ساعدني على أدائها ممارستي للفنون الحربية. ولذلك لم أحتج يوما لممثل بديل يقوم مقامي للقيام بالأدوار الخطرة، ولكنه كان يعلمني كيف أقوم بحركة مواكبة للضربة التي يوجهها إلي الخصم. وهو يمتلك تقنية عن كيفية تحريك الوجه.. والحاجة إليه تكمن في تنسيق حركات المعركة.. وفي الغالب، لم يكن هذا الممثل البديل أكثر ليونة مني، بل كان أقل قوة وطول قامة، لذلك كان يتركني أقوم بكل الحركات.. أنت محق، فالرياضة أعطتني الشيء الكثير.. حزام أسود برياضة الكاراتيه، والفول كونتاكت.. وكنت أقف أمام نجوم ولكن لا أرتعب، وأعتبر الأمر عاديا جدا، ولحسن الحظ مثلت إلى جانب نجوم رُزَناء، وحُلَماء.. ولم أخش الوقوف إلى جانب أحد منهم، ولعل الرياضة تمنحك الثقة، والثقة في النفس. وقوة التركيز، وصفاء الذهن، أو القوة الهادئة كما يحلو لصديقي “جاك فيسكي”، كاتب السيناريو والمخرج أن يردد..
والوَهل تنبيه وجرأة
– لو تسترجع، المستر جليل المشاعر التي انتابتك المرة الأولى لحظة صعودك الركح، أمام الجمهور، وكان قريبا منك جدا بالمقهى المسرحي.. أتحدث هنا عن الوَهل أو رهبة المسرح..
– أصابني الوهل (Le trac) ككل الناس، وهو شيء محمود لأنه نوع من “الأدرينالين” يمنحك جرعة من الجرأة، ومن الطموح، ومن المحافظة على ايقاع التنفس، أدرينالين يُنبهك.. أما الخوف فهو شيء مختلف، يمكن أن يحاصرك ويعيق حركتك، ومن ثم يحدث ثقوبا في الذاكرة وثنايا النص.
ونثر الورود
– وحين ينتهي العرض وتندلع التصفيقات..
– والتصفيقات هي حكم أو قرار محكمة الجمهور بعد سماع مرافعتك الأدبية الشاملة، تقويم للأداء، والإلقاء، والفرجة التي قدمتها.. يجب أن تعلم ان قاعات العرض لا تشبه بعضها البعض، ومن ليلة لأخرى تختلف القاعة الواحدة عن نفسها من منظور رد فعل الجمهور. أحيانا، تكون بصدد قاعة أكثر انفعالا، ورد فعل، واستقبالا.. يكون رد فعلها قويا خاصة حين تقدم عرضا كوميديا، ما دمتُ قدمتُ مسرحيات “البولفار”، ولاحظت أن مقاطع أو وقائع تثير إعجاب جمهور معين أكثر من جمهور آخر.. وحين ينتهي العرض فالجمهور يقدم لك أوراق الاعتماد أو يسحبها منك، فإذا نشر العرض الدفء والحرارة في عروق القاعة فتصفيقات الاستحسان تدعوك إلى الظهور مرة ثانية، وثالثة، ورابعة أحيانا أمام الجمهور، الذي يأبى أن يغادر القاعة قبل أن يوقع مرات على حسن الضيافة الفنية.. ويعاد النداء عليك بالتصفيقات، وتعود وتنحني مرات، وتغادر ويعاد النداء عليك تصفيقا.. وهنا تكون الجودة تنبع من الجانبين، القاعة والمسرحية، فهل أضيف طريقة الإلقاء والعرض.. وقد حدث أن نودي علينا عشر مرات من لدن جمهور مدهش.. وقد حدث ذلك مع مسرحية جينيه، “الزنوج”.. نودي علينا عبر مزج الجمهور بين التصفيق وخبط أرضية المسرح الخشبية بالأرجل إلحاحا، ورأيت في ذلك باقات أزهار يقدمها كل متفرج للفرقة. وهو نداء لا يمكن أن لا تستجيب له، وهو ما يبعث في النفس فرحا، وابتهاجا، وسعادة قل أن يجود بها الزمن، يشعر بها الممثل الفنان. وقد حمتنا عروضنا من التصفيقات التي تنطبع على محياها كل ملامح الخجل.
بولانسكي سينمائي شامل..
– في السينما، اشتغلت إلى جانب ممثلين كبار، ولفائدة مخرجين كبار. أفكر الآن “برومان بولانسكي”.. في فيلمه (Frantic)/”شديد الاهتياج” وإلى جانب “هاريسون فورد”..
– كان “بولانسكي” يرغب في أن يسند لي دور زعيم حركة إرهابية، ولما كنت شابا في العقد الثالث من عمري، ولا أملك هيئة الزعيم فقد صمم على أن يعطيني دورا آخر لأنه رأى فِي كل ملامح الممثل الجيد، كما قال لي. ولذلك أضاف شخصية جديدة للسيناريو الأصلي وجعل مني مساعد الزعيم. وقد سعدت بمتابعة عمل “بولانسكي” على البلاطوه. وهو سليل المدرسة السينمائية البولونية، ولا يكتفي بطريقة إخراج متطورة جدا، بل يجمع إلى جانبها معرف كبيرة بالاكسسوارات إلى درجة أنه لا يطلب من القيم على الاكسسوار أو “شاف أوبراتور” أن يقوم بعمل معين بل يقوم به هو نفسه.. بالطبع، لا يمكن أن يعنى بكل شيء، وله أيضا طريقة خاصة للحديث مع الممثلين، طريقة حقيقية، وواقعية، وملموسة، وعميقة حتى تشعر أن الرجل يحب حبا جما مهنته.. وباختصار فهو أستاذ حقيقي في مجال السينما. وهناك ميزة أخرى يتميز بها هذا الكبير، هناك مخرجون يشرحون لك طريقة الأداء، وقد يكون غير كاف، بينما “بولانسكي” يشرح لك ميزة الشخصية، والدور، بطريقة واضحة، وعميقة ثم يؤدي اللقطة لمزيد من التوضيح، أحايين كثيرة. وقد تلاحظ أنه مثل في كثير من أفلامه منها (Le bal des vampires)، وكان ما يزال شابا.. إنه مدير كبير للممثلين، ويمتلك معرفة عميقة بالمهنة..
كلمات، وكأس رفقة هاريسون
– وما طبيعة العلاقة “بهاريسون فورد” خلال مرحلة التصوير..
– كان بالإمكان أن تكون أحسن مما كان لو كانت معرفتي باللغة الأمريكية كما هي عليه اليوم. لقد صور الفيلم غير بعيد من باريس، ومن (Le Parc des Princes)، وتعرف أنه خلال التصوير نعاني من فترات انتظار طويلة (وأحيانا كثيرة)، قد تستمر لساعات، ولما كانت شركة (Warner) هي المنتجة فلقد كان لكل ممثل بيت متنقل، وكان بيت “فورد” جناحا حقيقيا، وذات لحظة رآني أجلس خارج بيتي المتنقل، وكان التصوير صيفا، فسألني “هل تعرف مكان وجود “بيسترو” قريب؟” كنا بمكان يوجد به كثير من باحات وقوف السيارات، ولم يكن أي “بيسترو” على مرمى البصر. فقلت له فلترافقني أنا أدعوك لشراب… وقطعنا مسافة لا بأس بها حتى “باب سان كلو”، وشربنا كأسا بالحان، ولم يتعرف عليه أحد من الرواد. ونحن نغادر المكان، تعرفت عليه شابة وحيته، ثم تساءل الآخرون: “من يكون؟” قيل لهم: “هاريسون فورد”. “آه”، صدح بعضهم.. فتحدثوا عن حركة التصوير لأنهم كانوا يرون الشاحنات الحاملة للآلات قرب أحيائهم.. كان التواصل طيبا..
ملائكة وشياطين الفرجة..
– أذكر أيضا أنك مثلت لفائدة (J. Toback)/”جيمس توباك في فيلم (Exposed)/ إلى جانب “ناستازيا كينسكي”، ابنة الكبير “كلوس كينسكي”..
– وكان هناك ممثل أكبر أيضا هو (H. Keitel)/”هيرفي كايتل”، وهو صديق “دو نيرو”، و”سكورسيز”. وقد تم تصوير الفيلم في باريس أيضا، بمحافظة (Issy-les- moulineaux) ما زلت أذكر ذلك، وربطت بيننا علاقة طيبة، كان يحد من تعميقها محدودية معرفتي باللغة، لذلك انكببت على دراستها ببذل المال والوقت، ومثل كل ذلك استثمارا وتوسيع دائرة الكرامة.. وكانت “ناستازيا” طيبة، ولطيفة، ومتواضعة جدا.. مثلت دور إرهابي، وكان “كايتل” هو القائد الإرهابي. طبعا، هو أمريكي!!
– واقتربت من الكبير أيضا “جيان ماريا فولونتي”، في فيلم “غادة الكاميليا”، المقتبس عن رواية “ديماس” الأب..
– أذكر أنه كان متعبا، ولم يكن ذلك ظاهرا من الوهلة الأولى، كان يحتسي بين الفينة والأخرى جرعة ويسكي، من قارورة مثل التي نراها في أفلام الغرب الأمريكي. وكان لطيفا، وقليل الكلام طبعا. وكنت شاهدت أفلام “ماريا فولونتي” وأنا طفل، وكنت أعرف أنه من كبار الممثلين، ولكن لم أشعر بالرهبة بالقرب منه أثناء التصوير، فقد جعلني هو أشعر بالطمأنينة، ولا أشعر بأي ضيق للطفه، ورقة أخلاقه. وقد تبادلنا الحديث مرات عدة لأنه كان يتحدث الفرنسية بشكل جيد. وأعتقد أنه كان يكتم مرضه، ويتحدث بالقسطاس. لم يكن يطيل الحديث، ولكنه يقطر لطفا.. بينما هناك ممثلون آخرون لا يشعرونك أبدا بذرة لطف. وكذلك كانت “مارلين جوبير”، رائعة في حديثها ولطفها خلال مرحلة تصوير فيلم “حروب رجال الشرطة”، وقد مثلتْ دور شرطي أيضا. أذكر الآن ممثلا آخر فرنسي، منغلق على نفسه، ولكنه يقف بين المغفل والغباء، أقصد “كلود براسور”، أدينا أدوار في فيلم “حروب”، ولم أتواصل معه. وحين انتهينا من التصوير استضاف كل الفريق إلى بيته، ويومها كان لطيفا على غير العادة. هل لأنه كان في بيته، أم لأنه كان في لحظة تمثيل وكان مستغرقا في الدور خاصة أن الفيلم يقوم على صراع بين شرطة مكافحة المخدرات، وشرطة مكافحة الجريمة.. فقد يعود الأمر إلى أنني كنت في المعسكر الآخر. بينما كان “كلود ريش” لطيفا، ورائعا، وهو ممثل كبير، ورئيسي، ولا يتوقف عن الإضحاك. أذكر أننا كنا نصور شمال باريس نهاية شهر يونيو وبداية يوليوز، وهي فترة بداية العطل والسفر، وكان البلجيكيون، و”لي شتي” يمرون من هناك نزولا نحن الشمس، وينتج عن ذلك ازحام سير كبير، ولما كان الانتظار الطويل مرادفا للتصوير، كان “ريش” يريد أن نعبث قليلا ونضحك، قال لي: “يجب أن نرعب بعض هؤلاء”، ومثل طفل صغير مرح يخرج مسدسه ويقول لي “اخرج مسدسك أيضا”. وذلك ليجعل الناس يعتقدون أن هناك مجرما في الأرجاء وتبحث عنه الشرطة، فقد كنا نرتدي لباس ضباط الشرطة، لنتسلى ما دمنا ننتظر بداية دورنا والتصوير.
أجمل الأحلام التي تتحقق
– من أحلام الطفولة التي أشعلتها السينما وتحققت لقاء “ألان دولون”، الذي كان معبودك..
– التقينا ذات ليلة باستوديوهات “Buttes Chaumont” هو كان ضيف سهرة منوعات، وكنت أتهيأ للتصوير. بعمارة ضخمة جمعت بين عدد الأستوديوهات، والمكاتب، والقاعات “لفرانس تليفيزيون”.. كنت أصور حلقة من مسلسل يسمى “أنجيلو”، وأؤدي دور أمير عربي. وأنا أغادر قاعة الماكياج، ويؤمها الممثلون، والفنانون، والمغنيون.. ورأيت كلبا أفغانيا جميلا ضخم الهيئة يتقدم عبر الممر الممتد، وكما تعرف فأنا أحب الحيوانات: ناديت عليه.. فجرى نحوي، اقترب مني ورفع أحد قوائمه كأنه يحييني، وسمعت صاحبه ينهاه.. فقد كنت ألبس لباسا أبيض اللون فخاف من أن يوسخ لباسي.. وكان المنادي “ألان”… وكنت التقيت به مرتين بباريس ومراكش ولم نتحدث.. فقلت لن تمر هذه المرة من دون تعارف وحديث… سألني بصيغة المفرد كأنه يعرفني من قبل، هل أنا مدعو لسهرة المنوعات، قلت أمثل. سألني هل أنا فنان، أجبت بالإيجاب.. وقد كان “دومينيك فاليرا” صديقي وأستاذي لمادة الكاراطيه قد حدثني عن دولون، قبل ثلاثة أو أربعة أيام من ذلك، وأخبرني أنه التقى “ألان”، بمناسة كوكتيل حضره كل النجوم.. وقال له “ألان” إني أهيء فيلما بوليسيا، وأريدك أن تؤدي دورا معي. أخبرني بالقاعة التي كنت أمارس بها الرياضة. وأضاف على سبيل الختم: “سأحاول أن اقترحك على الكاستينغ”.. وأعدت على مسامع “دولون” الحكاية..
والواقع لا يطاول الخيال
تساءل هل تعرف “فاليرا”، قلت له نعم، لأنني أمارس هناك. قال: “مدني الآن بصورة لك وضع عليها عنوانك والهاتف”.. عين لي “لودج”، وقال: أنتظرك هناك. على الصورة كان شعري مجعدا بحسب الدور.. قال: “أنت هنا مجعد الشعر، ولك وجه حسن”. ثم قال سجل اسم وكيلك على ظهر الصورة. سجلت اسم الوكيلة: “أولگا أورستيگ”. مددت الصورة، قرأ ما كتب ثم صاح: أنت أيضا مع أولگا؟” ثم أضاف: “إنها أمي الروحية”، وسأعرف أنه ينادي عليها باستمرار، وبمناسبة عيد الأم، بل ويبعث إليها بالأزهار.. كانت وكيلته من قبل وظلا صديقين حميمين. وهكذا، جمع الظرف كل البهارات لتنطلق علاقة صداقة ما تزال ممتدة حتى الآن، وإن لم نعد نلتقي كثيرا.. وبعد أربعة أيام، أخبرتني “أولگا” أني سأمثل مع “ألان”، وسلمتني كاتبته السيناريو.. وأنا أغادر المكتب نادى علي، وسألني عن الأصول.. ثم أخبرني أنه يملك فيلا بمراكش، ويذهب إلى المدينة الحمراء مرة في الشهر، وأعطاني هاتفه، ثم التقينا.. وهكذا، كما قلتَ، حققت حلم اللقاء به، هو معبودي، ومثلت معه.. لكن الفيلم فشل فشلا ذريعا. عنوانه “لا توقظوا الجمهور الذي ينام”..كما سماه صديقي “فيسكي” حين دخلنا لمشاهدة الفيلم، ونام.. ولما أيقظته قال ذلك..
– والفيلم يسمى “لا توقظوا الشرطي الذي ينام”! غريب أمر البشرية، تتشابه في كل شيء، والاستغلال يفرق بينها.. في الثقافة العربية مثال يقول: “إذا رأيتم شرطيا نائما عن صلاة لا توقظوه لها فإنه يقوم يؤذي الناس”.