تجارب وحساسيات: محمد قاوتي فقيه الفرجة

حوار : عبد العزيز جدير

حكَّاء هو محمد قاوتي. من لا يستطيع أن يراه يحكي قصة القرامطة الجدد وهم يتمرنون في سوق شطيبة، وهو يتقمص دور “خليفة” ويجلب الناس فرادى وجماعات فقد أخطأ معرفته. كان فنان فرجة الحلقة يختفي زمنا من ساحات الشدو والحكي، يجوب الآفاق، “وُفِينْ ما رَاحْ عْلِيهْ الليل يِبَاتْ”، ويعود وقد نسج خيوط حكاية أخرى بل قصة تشد الأفئدة، وتخلب الأسماع والروح. وهو يجوب آفاق الحياة، ويسافر عبر النصوص ليعود بمواد يحرص على الحفاظ على طراوتها والنضارة ورائحة البحر. يظل ينظمها حتى تستوي سوارا أو “مْضَمَّةً” يسران  الناظر أو قلائد على جيده لتظل تسحر الفضول.

وعمود الفرجة شوق وتشويق، قصة وحكي، مأساة ونفس درامي، موضوع وتجديد، بحث وموقف، لغة واستنبات..

كان العرب القدامى من سكان الحضر يبعثون بأبنائهم إلى البوادي ليرضعوا اللغة السليمة، ويربوا السليقة.. فالحواضر تستدعي لعنات التداخل اللغوي، والعجمى، واللحن، وتمرغ المواطن في “گَلْتَاتِها” والوحل.. للصدفة يد، ولوالدة السي محمد “الفقيه والزعيم” يد في بعث الطفل والشاب نحو الأصول والمنابع، نحو القبيلة، والدوار، والفخذة، والقسمة، فاستنشق غبار اللغة، ورائحة التراب وقد زاره المطر فجأة ثم انحسر، وطارد “الجوش” والزرزور، واحتاز بيض السمان، وقذف سلحفاة بالطوب والحجارة، وقطف بيض الغول، ووقف على لحظة زواج الديب من الديبة واحتفاء قوس قزح بما اقترفا من فرح.. وشرب ماء البئر، وسحب الدلو من قاعه.. قاع البئر، طبعا! فسكنته لغة البادية الباذخة، الشاوية الشامخة، وسحره مجازها قبل واقعيتها.. وما استطاع تفرنسه أن يحرره من أحضان البادية، ودفء كونها.. ولذلك صاغ نصوصه بها وبروحها..

لكن العودة إلى الأصول والينابيع مكنته من صنعة نظم الأحداث والمواقف، وصياغتها.. فقد سحرته محكيات الجدة وباقي الرواة في النهار وهو يطارد الفراشات أو الجراد.. أو وقد أسند رأسه إلى “مزود” ثم وهو يفتح عينيه ليرى ما يحكى يتجسد أو يخرج شخصيات من الصوت لتتجلى وتجسد ما أناطه بها الراوي من أدوار..

أراه يمسك بمعصم الدار البيضاء وبعض المغرب، يجس النبض، ويقرأ تمائم الابداع، يشحن ذاته بما ينتقل إليه من قوة ومشاعر، فتنبعث لغة الشاوية في الذاكرة والجسد.. لتصوغ الوجع، وتنسج خيوط التاريخ تميمة، تميمة..

هل رأيت السي محمد يعتمر طاقية، أم رأيته من لحم ودم يمشي وهو يرتدي سروالا “قندريسيا”، وفي رواية أخرى سروال “الوليدة”؟… بدوي رضع البداوة لغة، واستنبت الواقع، وأسفاره في النصوص (“العادة”، “بوغابة”، “سيدنا قدر”، “نو مانس لاند”) بلغة تلبست به وتلبس بها.. زرع حديقته ببذورها، ولا يزال..

رفع الستار

“حُط مَسْعودة للبرودة”

يدخل قاوتي حقل الركح المخضر، تحيط بجنباته شقائق النعمان كأنما لتحميه من العين! والابتذال. وهو يحتضن “علاَّفة”. يلقي نظرة فاحصة على القاعة. امتلأت عن آخرها. يبتسم. يحشو يمناه في العلافة، يخرجها مليئة، ويشرع في زرع البذور.. تتحول كلمات، تملأ القاعة والأسماع..

تذكر [الفقيه موجها الحديث إلى العبد الفقير إلى الله والمعرفة] جئت عندي وقضينا النهار كله في البيت. خارج أوقات العمل أكون معسكرا بالبيت. ومعروف عني أن لا أحد يمكن أن يجعلني أغادر البيت. حين ينادي علي أحد الأصدقاء ويكون رفقة شلة، ويقول: التحق بنا، نحن في المكان الفلاني، أقول له: يَاكْ مَا كَاينْ بَاسْ؟ ليس هناك أجمل من لحظة الالتزام بمكتبتك، تقرأ ما طاب لك، ثم تهيء قهوتك بيدك، لا تعول على أحد. وقد رأيتني أهيء لك فنجان قهوة. لا أريد الاعتماد على أحد.. الاستقلالية شيء ثمين جدا.

 المشهد الأول.. الثاني.. المشهد النهائي.. فضاءات متنوعة ومتعددة يستحيل وصفها وتحديد معالمها، ومنها بيت الفقيه، ومقاهي متنوعة.. ديكور واحد: مائدة. فناجين قهوة أو شاي أو ماء زلال..

الكتابة سفر.. والسفر كتابة..

– الكتابة سفر، سفر معرفي عبر الكتب وعلى متنها.. ومن أحد هذه الأسفار عدت بنص “بوغابة”..

– الكتابة سفر في الكتابة، وعندما كنت أشتغل على “بوغابة” كنت أسافر في الكتب. وهو ما أسماه الناس بالتناص. وهو ما سماه البعض بالـ(ressourcement)، الورد، أن ترد، ونحن نرد من هذه الأوراد، وننتعش.. فقد كان اشتغالي على كتاب “قطب السرور [في أوصاف الخمور” للرقيق القيرواني] وديوان الزنادقة، و”حلبة الكميت [في الأدب والنوادر المتعلقة بالخمريات” لشمس الدين محمد بن الحسن النواجي]، والأدب الاسلامي، والخمريات في العصر الاسلامي، والمختارات مع الكامل في الموضوع. وهي طريقة الاشتغال الناجعة، في اعتقادي، وطريقة اشتغال المبدع الباحث. وليس المبدع الذي يكتفي بما يعتبره وحيا يوحى..

– والكتابة، في الغالب، ليست وحيا يوحي، فهناك عشرات الأقوال لكتاب يؤكدون أنها كدح، وصيد، وسعة معرفة، ثم تطريز، كما يقول بول بولز رحمه الله..

– الكتابة خارج ما بلغنا به الأنبياء والرسل لا يمكن أن تكون وحيا يوحى. الكتابة اشتغال، والكتابة حوار مع كتابات أخرى أيضا، وحوار مع أفكار، وهي ليست هلوسة انفرادية تكاد أن تصبح ضربا من سكيزوفرينيا. لا هي سكيزوفرينيا، ولا هلوسة داخلية، أو هلوسة ذهنية.. الكتابة سفر في الكتابات الأخرى، وهي حوار مع ما كتبه الناس قبلنا، وما استطعنا أن نتحاور فيه مع ما كتبه الناس.. ولنحاور الآخرين يجب أن نكون في المستوى.. وعلى قدر المستطاع، على الكاتب أن يحاور ما كُتب، وعلى الكاتب أن يحاور ما أبدعه الناس من أفكار، وما اجتهدوا فيه من أفكار.. وأن يخلص آنذاك إلى زبدة اشغتاله. وقد تكون هذه الزبدة مقبولة، أو زبدة من دون، أو زبدة فاسدة أيضا..

– وعلى قدر العزم تأتي العزائم، على قدر الحوار تأتي الفواكه..

– ربما، ولكن الكتابة تستدعي كثيرا من التواضع، لأن “اللْوَلاَ ما خَلاَّوْا والُو للتْوالاَ ما يْقولوا”..

– هل غادر الشعراء من متردم.. دمدم الشاعر الفارس قديما..

– تماما، تماما.. وهذا الاشتغال يستدعي الكثير، الكثير من التواضع..

– لكن.. وهناك دائما هذه اللَكِنْ التي تضفي نكهة من نشاط الفكر، وروح التمرد على الوجود والقول.. ألم يقل فقيهنا الأكبر، المعري:

وإني وإن كنت الأخير زمانه        لآت بما لم تأت به الأوائل

قد نحس أحيانا أن كل شيء قد قيل، ولكن صدر الكون يتسع للفكر، والاجتهاد، والاضافات، والنقلات..

– في الحقيقة، هذا مشكل. مشكل كبير.. لا أعتقد أن “الأنا” قابلة للتقييم، ولم يتم تقييم الأنا إلا عندما جاء فرويد وحمل معه اجتهاداته، ولا أعتقد أن تقييم الابداع يُحتكم فيه إلى تقييم الأنا. ولأقل بشكل مغاير على الكاتب أن يتحلى بكثير من التواضع.. وهو يعلم كل العلم أن “اللْوَلاَ ما خَلاَّوْا والُو للتْوالاَ ما يْقولوا” علما بأن هناك اجتهادا في الموضوع من ذلك ما جاءت به كريستيفا. مباحث كريستيفا خطيرة في هذا الموضوع، موضوع التناص. وعندما كتبت “التوابع والزوابع” قامت الدنيا وأُقعدت. قيل في الشرق: هذه سرقة من “رسالة الغفران” للمعري. ربما. هي ليست سرقة لرسالة الغفران، اجتهد فيها الناس وقارنوا بين النصين.. ربما التقت الأفكار، أو وقعت الحوافر على نفس الميسم. فقط، فقط، ربما.. ويحضرني أمر عجيب. فلنعد إلى المكتبة. [ننتقل من جلسة على مرمى الحديقة إلى بعض مكتبة الفقيه، حيث يختلي والكلمات] وهو أخطر كلام قيل في الموضوع..

وما قفعوه!!

– لعلك تقصد كلام ابن المقفع، الذي ران هواه على القلب..

– ومن غيره يستشهد به، [قاوتي يقلب الصفحات بحثا عن الشاهد] نحن في الأدب الصغير.. يقول: “من أخذ كلاما حسنا عن غيره فتكلم به في موضعه وعلى وجهه فلا ترينّ عليه في ذلك ضؤولة. فإن من أُعين على حفظ كلام المصيبين، وهُدي للاقتداء بالصالحين، ووفق للأخذ عن الحكماء، ولا عليه أن لا يزداد، فقد بلغ الغاية، وليس بناقصهِ في رأيه، ولا غامطهِ من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه.” وهناك قول آخر أشد قوة وحكمة، وقد ورد في “الأدب الكبير”: “فإن صيانة القول خير من سوء وضعه، وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب موضعها خير من مائة كلمة تقولها في غير فرصها ومواضعها مع أن كلام العجلة والبدار موكل به الزلل وسوء التقدير وإن ظن صاحبه أنه قد أتقن وأحكم.” كتاب مليئ بالحكمة، لا أتوقف عن قراءته. وسأقرأ لك الآن مقطعا يمثل أعمق تمثيل المثل السائر “اللْوَلاَ ما خَلاَّوْا والُو للتْوالاَ ما يْقولوا”: “الأدب ينمي العقول، وللعقول سجيات وغرائز بها تقبل الأدب، وبالأدب تنمو العقول وتزكو. فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر أن تخلع يَبسها، وتظهر قوتها، وتطلع فوق الأرض بزهرتها وريْعَيْها وزهرتها ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبسِ والموت ويحدثَ لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها من القلب لا قوة لها، ولا حياة بها، ولا منفعة عندها حتى يعتمرها الأدب الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها.”

المآسي، الكراسي، المآسي…

– القرامطة يتمرنون على الثورة، ولكنهم لا يثورون.. الله يحفظ! القرامطة الجدد كما يحدد ذلك الزمان والمكان.. وفي العنوان إحالة على نص شهير لمسرحي ثائر وشهير..

– بالفعل، هناك اقتباس في العنوان، وهو ما أسميه دائما (Transplantation)، استنبات: (Les plébéiens répètent la révolution)، وهو نص لبيتر فايس. وفي عنوان “القرامطة يتمرنون” إيحاء موجه إلى كل من هو “عايق”. “القرامطة يتمرنون كما رواها خليفة في سوق شطيبة”. وهنا نحدد الأمر، بالفعل، في زمان خليفة وفي مكان شطيبة. في المكان الذي يتحدث فيه خليفة.

– وها نحن في الحلقة، وفي المغرب..

– طبعا، هكذا جاء العنوان، وهو عنوان طويل، ولكنه ديداكتيكي.. كان بالإمكان أن يشتمل العنوان على صيغة “القرامطة يتمرنون”، فقط. ما الفائدة من طول العنوان؟ فقد سبق لي أن وظفت عناوين من كلمة واحدة في سابق الأعمال: “الرينگ”، و”بوغابة”.. وبوغابة بالشطابة مع الحطابة [ضاحكا].. الاختيار كان واعيا، والقرامطة تمرنوا على الثورة، وهم تمرنوا فقط والأمر مجرد تمرين، ولم يقوموا بالعرض.. وقد تحدث بونيت عن هذه الثلاثية، وقال هناك فشل ثورة، فشل شخص.. وفشل إيديولوجية، كما تجسد في “اندحار الأوثان”. وقد قيل قاوتي يرصد الفشل، ولكنني أقول إنني أرصد المآسي.. هذه النصوص كلها مآسي، وكل نص هو مأساة في حد ذاته. “بوغابة” ملهاة ولكنها مأساة في الآن ذاته. و”سيدنا قدر” ملهاة، ولكنها في الآن ذاته مأساة. لكن “القرامطة”، و”الحلاج”، و”اندحار الأوثان” كلها مآسي..

– مآسي أفراد قادهم فكرهم نحو نحبهم (الحلاج)، أو جماعة قاد أفرادها رفض الوضع القائم نحو حلم التغيير وامتشاق السلاح (القرامطة).. هي مآسي لأن المرحلة وطنيا كانت مرحلة مآسي..

– بالفعل، وقد رصدت مآسي لأننا كنا نعيش مآسي في تلك المرحلة.. وكنا نأسى على رفاقنا الذين اعتقلوا وكانوا يعذبون في السجن، ومن ماتوا منهم ومن فقدوا رشدهم.. وهم كثر. وقد عبر كل بطريقة عن تلك المآسي. وكنت محظوظا لأني كنت أمتلك أدوات التعبير عن تلك المرحلة والمآسي. ولا ألوم من لم يكن يملك أدوات التعبير عن كل ذلك، لكن كيف كان يعيش المأساة؟. من عاشها سيعيش “بسيكوز”/اضطرابا عقليا، لأنه لم يعد قادرا على التحمل أكثر. وسار كثير من هؤلاء في متاهات: منهم من سار في المتاهات الدينية، ومنهم من “اختار” سبل المتاهات الخمرية، ومن “اقتيد” للانخراط في دهاليز المتاهات الزندقية..

– متاهات للتفريغ مما يثقل الفؤاد والمشاعر، ولكن تتحول إلى ضرب من الذوبان..

– ونوع من قتل الذات أيضا. والمبدع، على الأقل، يحترق ولا يقتل ذاته، لأنه شمعة تضيء.. وتحترق. لكنهم يتناسون أنه من بقايا الشمع يمكن أن نصنع شمعا وفتيلا آخر. ولا يموت، ياك؟

– ويُورث بشكل معين، ويمس مشاعر وعواطف جماعات معينة، وبذلك يحدث الأثر، وقد يترك الآثار..

– [مقاطعا]، لا، ولكنه لا يموت.. الفكرة التي أريد التعبير عنها وتوضيحها تتلخص في أن بعض الناس، وبعض الأصدقاء، وبعض المعارف، والرفاق أيضا ماتوا بشكل من الأشكال لأنهم لم يستطيعوا التعبير عن هذه المرحلة، أو لم يستطيعوا التعبير عن مشاعرهم أو مواقفهم اتجاه هذه المرحلة.. هؤلاء الناس، وقع لهم ما وقع. يحترق كالشمعة في تعبيره عن هاته الأشياء، لكنه لا يموت لأن بقايا الشمع يمكن أن يستعمل من جديد ليضيء قناديل أخرى.

– كأنه حين يعبر عن نفسه يحفظ نفسه من ألوان الاحباط التي تعصف بمن لا يعبر عن النفس؛ لأن في التعبير ضربا من الخلاص..

– تماما، صحيح..

والكتابة رحلة في النصوص..

– يذكرني نص “الحلاج يصلب مرتين”، بنص باذخ لكازانتزاكي: “المسيح يصلب مرتين”..

– يا حبيبي، أول كلام قلناه هو أن الكاتب الذي لا يسافر بين ما يكتب، ولا يسافر في الأدب، ولا يسافر في الأفكار والمفاهيم فهو ليس بكاتب. أنا رجل أسافر في كل هذه الأشياء. دَاكُوغْ!..

– مأساة الحلاج مأساة أي مثقف، وأي إنسان نبيل يعشق الحرية حد الشهادة من ظهور الانسان على وجه البسيطة حتى “اختفائه” ذات لحظة.. كيف سطعت فكرة زرع بذور مأساة الحلاج في حقل الركح؟ مع العلم أن صلاح عبد الصبور صاغ المأساة ذاتها في حضن المسرح الشعري..

– لا أتذكر ذلك، لا أتذكر.. يصعب تذكر ميلاد فكرة وطريقة صياغتها في ثوب مسرحي. الحلاج ذاته شخصية مأساوية غير عادية؛ إذ هناك شخصيات مأساوية عادية (مثل شخص قتل آخر، وحوكم بالاعدام، وشنق..). والحلاج جاء في مرحلة غير عادية كان فيها المحيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي جعل الحلاج شخصية مأساوية غير عادية. لو كان هذا المحيط هاااادئا، يتميز بالراحة لما كان الحلاج كما كان.. لكان الحلاج سيذكر كمتصوف من المتصوفة مثل البسطامي وغيره ولما لفت انتباه كل الناس. فهذا المحيط هو الذي جعل من الحلاج الرجل الذي نعرفه. ثانيا شخصية الحلاج استثنائية من حيث مقاربته لمفهوم التصوف، لمفهوم الكشف. للمتصوف خطوط حمراء يؤطرها الكشف، أي البوح….

– وهو يجب أن لا يبوح.. فالبوح محظور على المتصوف..

– لا يجب أن يبوح.. وقد كتبت لوحتين في “الحلاج يصلب مرتين” فضاعت، لست أدري كيف حدث ذلك، قد تكون سُرقت خلال التدريب..

– وما مضمون اللوحتين؟

– يجيء الشبلي ويقف على صليب الحلاج، والحلاج مصلوب ويرميه بزهرة، ويحدثه عن البوح. ويقول له: قلت لك لا تبح. يلوم الشبلي الحلاج على البوح. وهو حدث غير تاريخي، وقد جاءني الشاعر السرغيني وحدثني في هذه القضية، ولم يحدثني في المسرحية. قلت له: أستاذي العزيز، مع كل الاحترام أنا لست مؤرخا، لا أكتب التاريخ، بل أكتب المتخيل. لا يمكن أن تعثر على تاريخ في النص الذي كتبت. كنت كتبت لوحة جميلة: خطاب الشبلي للحلاج، والحلاج قد مات بعد الصلب.. بعد أن قطع كذا، وجدع كذا.. وصلب الرجل. وبحوزتي الحكم كما صدر وقد أورده صاحب “النوازل” في كتابه. فالبوح هو المشكل “الحقيقي” الفقهي، لأن الذوق عند المتصوفة والشرع عند الفقهاء يتناقضان. والشرع هو الذي يعاقب الذوق على البوح. لا تبح، لاتخف: بأي ذنب قتلت.. الفقهاء دهاة. لا ينطلي عليهم أمر. وهنا انطلى عليهم، ولذلك فهو يرميه بزهرة. وقد كتبت اللوحة في سبع صفحات أو عشر، ويقول فيها الشبلي كل ما استطعت تجميعه من أفكار واجتهادات في الموضوع..

الشق الثاني في مشكل الحلاج هو قرابته من أم الخليفة. وكان مستشار أم الخليفة. وأصبح الخليفة يحكم بآراء الحلاج من فم أم الخليفة. وألب عليه كل رجال الدولة. وأقروا بقتله.

رحابة التصوف..

– لعل المتصوف نقيض السياسي، لا يخدم مصالحه ولا الأسرة والأصهار! ولكنه يعري الساسة إذ يمنع عنهم المرق، ولذلك يعتبره الساسة عدوا يجب التخلص منه..

– طبعا، وكان التأليب عليه لأن الحلاج كمتصوف لا يمكن إلا أن يشير بما لا مصلحة لأهل الحكم فيه. وقد سجن تسع سنوات، ولم ينفذ فيه حكم الاعدام إلا بعد أن قضى بالسجن تسع سنوات. كان السجن بمثابة إقامة إجبارية. في القصر. دَاكُوغْ. كان لا يزال له رأي آنذاك.

– لسطوة فكره..

– هذه مأساة الحلاج الكبرى، وهي مأساتان في الحقيقة: أولا، مأساة انتصار الشرع على الذوق؛ حيث أن الذوق ارتكب خطأ البوح، ثانيا انتصار مصلحة رجال السياسة ورجال المال والأعمال؛ لأن الحلاج يفتي بما هو في غير مصلحتهم..

– وقد يقال: قد يغفر له البوح، لكن الرجل أصبح له أتباع كثر يهددون السلطة بكثرة عددهم، واخلاصهم للرجل.. فقد أصبح لسان حال الفقراء.. وهو أمر ترفضه الدول..

– فقد وجدوا له روابط مع القرامطة. وهذه مناورات رجال السياسة. وفي اعتقادي، لا متصوف واحد لعب دور زعامة. فالمتصوف يهرب من الزعامة؛ لأن التصوف زهد.. وخاصة التصوف الأول. ولا علاقة له بتصوف الزوايا. الزوايا تمارس السياسة والأعمال..

– هو زعيم بالرغم من أنفه، مثل “مريض بالرغم منه”، أراؤه وجدت لها أتباعا ومعتنقين.. فقد تكاثر عدد الفقراء، الدراويش.. وبالغ رجال السياسة في غيهم.. وكانت أقوال الحلاج كانتصار للفقراء: نوع من الشعور بلا جدوى الحياة، يعكس نوعا من التمزق الوجودي.. فالتصوف ضرب من الوجودية.. ولو أنه ظهر قبل هذه الفلسفة.. أذكر أن عبد الرحمان بدوي قد تناول موضوع “أوجه التلاقي بين التصوف الإسلامي والمذهب الوجودي” وذلك ضمن كتاب له يحمل عناون “الإنسانية والوجودية في الفكر العربي”..

– آه، ويلاحظ أنه قد نسبت للحلاج أشياء لم يقل بها، منها “ما في الجبة إلا الله” وهي للبسطامي. هناك بعض التْخَرْبِيقْ.

– أعتقد أنه من شعره، السي محمد، وأنت الفقيه في الأمر.. بالرغم من أن الحافظ قال بذلك في “اللسان”، وأعتقد أيضا الذهبي في “الميزان”..

– لا، ليست من أقواله..

– واخا أسيدي.. ولكن لا يمكن أن نقول الأمر ذاته عن هذه اللمع:

أنا من أهوى، ومن أهوى أنا             نحن روحـانِ حللـــنا بدنــا
نحن مذ كنا على عهــد الهوى            تُضربُ الأمثالُ للناسِ بنــا
فإذا أبصرتـــــني أبصرتــــــه             وإذا أبصرتَـــهُ أبصرتَــنـــا
أيها الســـــــائلُ عن قصّتنـــا             لو تـرانا لم تفــــرّق بيننـــا
روحُهُ روحــي وروح رُوحــه            من رأى روحينِ، حلّت بدَنا

– هذه تمثل مبدأ الحلول، ولن يجد له أتباعا من بين العامة؛ لأنه من قرائن البوح.. كان يقال له: “ما تْگُولْشْ.. شْكُونْ گَالْ لَكْ گُولْ؟” ولو وقف عليك الله! ونظر إليك، ونظرت إليه.. “ما تْگُولْشْ”.. وهذه من قرائن البوح.. وليست من قرائن الاتباع. وهي قرائن توجد فيما كان يتسرب من نصائح، وآراء، ومشورة.. التي كان يقول بها في القصر وكانت تصل إلى أذن الخليفة، المتوكل آنذاك، وقد ينفذ بعضا منها، وهذه قد تجلب له الأتباع. أما قرائن البوح فلن تجلب له أتباعا؛ وذلك لأن التصوف مسلك فرداني. كل يتخذ له مكانا يمارس فيه تصوفه.. انظر إلى صاحب “المواقف”..

– العملاق الآخر النفري.. “وقال لي: لا يكون المنتهى حتى تراني من وراء كل شيء.

  وقال لي: نَمْ لتراني، فإنك تراني؛ واستيقظ لتراك، فإنك لا تراني.”

– نعم، النفري، فقد كان ابنه هو من عمد إلى جمع أوراقه أو كلامه..

والبوح رحمة

– كتبت مسرحية “الحلاج” سنة (1978)، ما الأسئلة التي طرحت عليك يومها وأنت تعاين المجتمع أو تقرأ بعض ملامحه، وجعلتك تستحضر الحلاج لتقدم عنه وعبره نسخة مغربية منه ومن واقع الحال..

– لم يطرح علي أبدا مثل هذا السؤال، لا صحافي، ولا كاتب. ذات دورة أقيمت في طنجة المشهدية وكان محورها “الوسائط الحديثة” من سينما وغيرها من وسائط.. بينما كنت وظفت عشر دقائق من الوسائطية، من “الديابوزيتيف” في العرض المسرحي يومها، حين عرض مسرحية الحلاج.. وكانت الفكرة تذهب نحو كون الحلاج ليس حلاج زمانه بل هو حلاج أزمان مثلما لمحتَ. لذلك عدت إلى “باتريس لومومبا”.. ويرافق هذه الوسائط مقطع موسيقي من (L’hymne à la joie) لبيتهوفن من أداء سولتي؛ وهو أحسن أداء معروف يومها. وقد أمدني بالمقطوعة محمد الواكيرا الشاعر. أصدقائي من “ناسْ الكُبْرى”. سجلها لي على وجه شريط كاسيت، وكان لديه على وجه أسطوانة فونوغرافية من نوع 33 لفة.

– وقد عرضت الوسائطية بمسرحية “الحلاج” لحظات من انتفاضات العالم..

– بالفعل، كل الانتفاضات: البارتهايد في أمريكا، قتل الشعوب في فتنام، اغتيال الزعيم باتريس لومومبا، تشي غيفارا.. ويواكب الوسائطية نص من قراءتي، وهو نص خطير: “تحكمنا الأفخاذ العربية وموسى الحلاقة”.. وللوسائطية، والمقطوعة الموسيقية، والنص المقروء المساحة الزمنية ذاتها.. وكنت أقرأ النص مباشرة؛ إذ لست من زمرة الممثلين. كنت أقرأ النص في كل عرض مباشرة.

– لو تمدني بهذا النص أيها الفقيه.. تلبية لهاجس التأريخ..

– ضاع مني يا سيدي، ضاع..

للاستقلالية ثمن، وللعبودية أقنان..

– لحظة، لم يقدم العرض خلال المشهدية الخاص بالوسائطية بمدينة طنجة..

– لا يا عزيز، لما حظرت ندوة المشهدية قلت كم سبقنا إلى هذه الأشياء ذات زمن. ولم أحدث خالد نفسه عن هذا الأمر. وقد كنا شاركنا بالمسرحية في مهرجان مراكش، وبالدار البيضاء، والرباط، ومكناس، وفاس.. سنة (1978). كنت “خايْب بزَّاف”، الآن أصبحت درويش..

– اللحظة تبرر ذلك.. ونزاهة الشخص.. طهارة النفس واليد من قوة الايمان.. أيا كانت طبيعته.. فاللهم أنزل شآبيب رحمتك على الدراويش..

– لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب مني، اسأل عن ذلك. بالفعل حين يكون الشخص خائفا من عدم التصدق عليه “بأربع ريالات” يفتقد الجرأة، ويتجرأ عليه أيا كان…

– من تم شراؤه مقدما ولو مع تأخير الدفع والاكتفاء بالوعد، أو ينتظر مقابل خدماته، أو يريد أن يلفت الانتباه إليه كي يقدم له نصيب من الكعكة أيا كانت طبيعتها.. هذه هي الفئة التي أفسدت دور الثقافة والسياسة وأحبطت إرادة أفراد فئات الشعب المستقل والحر..

– وما دام الشيء بالشيء يذكر، أحكي لك “خُبَّيْرَة” لما اشتغلت مع فرقة “السلام البرنوصي”، سنة (1974)، قدمنا ملف المنحة الخاص بمسرحية “علاش وكيفاش”، وبعثت لنا وزارة الشبيبة والرياضة يومها ألف درهم. وأعدنا لها بضاعتها. ومن يومها بدأت الوزارة تبعث لنا خمسة ألاف درهم فما فوق.. لا نريد صدقة، بل منحة. وحين نشارك في المهرجان تقدم لنا مقابل المشاركة في المهرجان: ستة أو سبعة آلاف درهم، بالإضافة إلى ستة آلاف درهم الخاصة بالدعم. خلال السنة ذاتها..

– ينتهي الصدق بالانتصار، ولا بد أن يفرض الصادق ماركته المسجلة..

– وبذلك تحصل على حُقَيِّقِكَ، لن تصحل على حقك، يقولون فيما بينهم “اعطوه شي بركة. هذا غادي يَطْلِينَا”. لن يسكت.. [ثم داعب ساعته اليدوية، وقال: فرحان أنا، ابني تبرع علي بمگانة. مگانة زوينة، عفريت.. ثم مستطردا: أنا معك، أنا مناضل معك اليوم. ويقصد الفقيه اليوم الذي امتد فيه حوارنا من الساعة العاشرة صباحا حتى ما بعد منتصف الليل]..

تراب المغربة تبر..

– يبدو نص “نُو مَانَسْ لاَنْدْ” نصا مغربيا بامتياز، لا يحتاج توظيف الرمز.. ليقول ما في قلبه..

– مغربي، تماما. [ومبتسما: ومال النصوص الآخرى ماشي مغربية؟ يمد يده نحو حزمة من أوراق، يستخلص واحدة، يقول: أتريد سماع الفرنسية؟ ومن يرفض ذلك؟ قد نرفض سياسة فرنسا والهيمنة، أرد عليه. يقرأ النص الفرنسي: “بصدد “نو مانس لاند”، من دون أن أقوم بعمل مؤرخ، أحتفظ بسنة (1972) كنقطة انطلاق موجة من القمع شاملة ضد قوات الوطن الحية والشابة والمؤمنة بالفكر الماركسي المنتظمة ضمن ثلاث منظمات سرية: “إلى الأمام”، “23 مارس”، “لنخدم الشعب” التي تدعو إلى الثورة ضد النظام المغربي وتحويله إلى نظام جمهورية ديمقراطية شعبية. القمع الذي سلط على مناضلي هذه التنظيمات كان من القسوة بمكان مما جعل الأحكام تصل عشرات السنوات من السجن: تتراوح ما بين أربع سنوات والثلاثين سنة بل المؤبد بالحكم غيابيا.. من دون الاعتراف للمناضلين بوضع المعتقلين السياسيين…” هل هذا تأريخ؟ نعم. هذه وثيقة رسمية قرأتها بلشبونة. وذلك لما قدمت مسرحية “نو مانس لاند” أمام لفيف من العلماء. لا أبيع بلدي من أجل مصلحة، لا أكذب على البلد.. يتابع فقيه الفرجة قراءة النص/الوثيقة: “وقد انطبعت السنوات العشر الأولى من الاعتقال بضرب من الوحشية مما جعل بعض السجناء ينعتونها بعشرية الفظاعة. فظاعة أفقدت بعض المعتقلين رشدهم.. وفي هذا السياق عرفت مسرحية “نو مانس لاند” ميلادها. وقد أرادت أن تكون عبر الفعل المسرحي شاهدة على عشرية الفظاعة هذه… فهل تدخل مع الرقيب في مواجهة عندما تتكلم بخطابه، فيتوقف نشاط الفرقة المسرحية أو تخلق بينك وبينه برزخا لا يبغيان عندما تتكلم بخطاب لا يمكن أن يلجأ عتبته (لأن للروح ايقاعات تكون هادئة مرة، وتكون مرة أخرى هائجة)؟ وهذا الخطاب هو حصان طروادة، تدخله إلى قلعة المسرح وتسمح لحصان طروادة بالعمل.. أي نتحاور مع جمهورنا ونبتعد عن صخور القمع الباطنية التي تحبط وتدمر السفينة، وتجعل أي حوار مع الرقيب لا يطل برأسه. لا حوار مع الرقيب لأنه لا يوجد داخل برزخي.. وذلك لأن النص يتعالى ..

وقد كتبت نص “نو مانس لاند” على امتداد ثلاث سنوات، من سنة (1982) إلى سنة (1984)”.. وقد ظل النص يعرض على الجمهور المغربي طيلة أربع سنوات من سنة (1984) إلى سنة (1987). وقد قوبل العرض بالترحيب في كل مكان عرض به، كما نال جائزتي الاخراج والأداء سنة (1987) بالمهرجان الوطني للمسرح. التوقيع: محمد قاوتي كاتب مسرحي. المغرب” (ترجمة تقريبية للمحاوِر)]. ولم يسبق لهذا النص أن نشر، وها أنت تخرجه للعلن. المهرجان العالمي للبحث الدرامي، لشبونة. وكان يرافقني خالد أمين. كان التلقي جميلا، وقدمت النص/الوثيقة ضمن وحدة البحث في المسرح العربي، وتضم هذه الوحدة عربا وأجانب منهم أمريكان، وأفارقة… قدمت العرض، وقضيت يومين هناك وعدت تاركا المهرجان يتابع وقائعه. كنت يومها قد عينت للتو مديرا لجريدة “البيان”..

البستاني يستنبت..

– إذن تلح السي الفقيه على أن النص لا يتميز بجرعة مغربية أكثر عن اخوته، وقد يعود الأمر إلى حضور الحلاج في ثناياه..

– نعم، ألح على ذلك. ويضاف إليه حضور “المواقف والمخاطبات” للنفري، كما يحضر الحجاج بن يوسف الثقفي.. وإذا كان أصدقائي يتحدثون عن الاستنبات، فقد قال لهم الشعبي وقد نزلت عليه الفكرة هداية من الله: “آجي، رَا قاوتي من نْهَارْ بْدَا وهو يستنبت!؟ لماذا لأن قوتي رجل مسافر بين النصوص وقرَّاء. والفرق بينه وبيه غيره أنه لا يخفي مراجعه، يبوح بأسمائها ويعلنها”.

– ويبدو لي أن قاوتي من تحدث عن الاستنبات قبل أصدقائه؛ من الأصدقاء أو النقاد..

– بالفعل، أول من تحدث عن الاستنبات هو قاوتي. لا نقبل “التخربيق” في الموضوع. [يتوجه الفقيه نحو مكتبته داعيا إياي الالتحاق به. فهمت أنه يريد أن يقدم حججه. وأنا مريد المحققين والموثقين. يجلس على كرسيه وأقف بجانبه. يستل بعض الأوراق من ملف قديم. يقرأ باللغة الفرنسية]: “دراسة في الاستنبات نشرت بالمجلة المغربية (فيزيون 90)، العدد الأول، (1990)”. ولم يكن أحد قد تحدث عن موضوع الاستنبات، دَاكُوغْ. “تم إدراج توليفة من مشروع الاستنبات في الكتالوج الذي رافق جولة مسرحية “بوغابة”، استنبات السيد بانتيلا وتابعه ماتي، التي أنتجها سنة (1989) “مسرح اليوم”.. قاوتي معلقا: ربحنا سنة من الأقدمية! أقدمية ظهور المصطلح أو المفهوم. ويقرأ من جديد: “لمزيد من التفاصيل تجب العودة إلى الملف الغني”.. [قاوتي معلقا]: هذه إحالات، لكني بحوزتي نصين محكمين: نص يوجد ضمن كراسة “مسرح اليوم”، وهي كراسة رسمية، ونص آخر نشر بمجلة ورد بهما معا [الكراسة والمجلة] الحديث عن مفهوم الاستنبات. وهذه الورقة الرسمية التي قدمت وقرئت في “الووركينغ آربك كروب: مجموعة العمل العربية” أمام الباحثين المتخصصين في مدينة “أوساكا” باليابان. وخُوكْ، كما تعلم، ليس باحثا..

– معلوم أخويا أن المبدع يشغل الباحثين.. والابداع يؤسس لنشأة المفاهيم: من المسرح الذهني لابسن، إلى مسرح العبث للحاج بيكيت والمُعتمريْن يونيسكو وآداموف.. فالمسرح الفقير لبسكاتور البروليتاري..  المبدع يلد، والنقاد والباحثون يسمون ويرعون الوليد.. ألم يقل  المعلم الكبير، والرجل الشهم، المتنبي:

أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا   وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

– نشرت النص باللغة الفرنسية، للإشارة والتذكير.. وتعلم أني أرغب في دفعك إلى البوح..

– أعرف ذلك.. تعرف أني أحرس دائما على كتابة “التَّخْمَام” باللغة الفرنسية، داكوغْ، التَّخْمَام تَيْجِي مْغَيَّزْ باللغة الفرنسية، وحين تكتبه بالعربية تصبح تُخَرْبِقْ، تْوَلِّي بْحَال داكْ خُنا فالله.. […].. مع كل التقدير لعربيتنا، وقليل من التقدير لكثير من كتابها.. يظهر في الكتابة التكرار، والاطناب، والحشو..

– قد “يعود” ذلك إلى الحرص على تسويد وجه أكبر عدد من الصفحات بغير موجب شرعي، منطقي.. وقد قيل اللغة الفرنسية عقلانية، لعل الصفة لمن يكتب ولا ذنب للغة في الإعاقة التي يعاني منها من “يكتب”..

وبعض العلم أسفار..

– السي الفقيه، تحضرني فكرة وليدة اللحظة، الأسفار خارج المغرب، ماذا أعطتك؟ من حماس على الانخراط في الكتابة، تجديد أدوات الكتابة، العثور على كنز سواء كان كتابا أو التعرف على كاتب.. ولشوقي كلمة في السياق: “وبعض العلم أسفار”..

– أجيبك بسرعة: أنا من الفنانين القلائل والكتاب القلائل، الذين سافروا كثيرا.. أنا أسافر عبر المتن..

– هذا معلوم، والكيف أيضا، أقصد السفر عبر الجغرافية والواقع.. لا الذهن وحده.. ولا تقل لي أسفاري محدودة..

– أسفاري في الجغرافية محدودة، أفهم حديث شوقي، وأفهم الظروف التي أنتجته: فهي ظروف البعثات آنذاك. أنت تعلم أنها تدخل ضمن انفتاح مصر على الحداثة الغربية ، وكان الانفتاح يمر عبر البعثات. أما انفتاحنا نحن، انفتاح جيلي أنا، على المعرفة فلم يمر عبر البعثات لأنني لم أبعث ولو مرة واحدة من قبل الدولة المغربية [ضاحكا] لأتعلم وأتكون. يتخلل حياتي سفران مهمان لا علاقة للدولة المغربية بهما، السفر الأول قمت به سنة (1981) وكان بإيعاز ومساعدة من البعثة الثقافية الفرنسية التابعة للسفارة الفرنسية بالرباط للمشاركة في “سِيمِينِيرْ”/بعثة دراسية منظمة من قبل جامعات انجلترا وجامعات فرنسا بالمعهد البريطاني بباريس لمدة (21) يوما في موضوع “المسرح المعاصر”.

– ما الدروس والعبر، والخلاصات التي خرجت بها من هذا السفر؟

– من الخلاصات التي خرجت بها أنني شاهدت قرابة عشرين عرضا مسرحيا من أهم ما يعرض في مسارح باريس، وباريس عاصمة الثقافة يا حبيبي، وكتبت من عتبات الحب عن مسرحيات شاهدتها مجموعة من المقالات، مقالة عن بيتر بروك ومسرحية “كارمن”، ومقالة عن أرييل موشكين و”مسرح الشمس” عن “مسرحية ريتشار الثاني”، ومقالة عن جيروم سافاري “السيرك السحري الكبير” عن “البورجوازي اللطيف”.. مقالات نشرت في ملحق “العلم الثقافي”، وملحق (L’opinon culturel)”لوبينيون الثقافي”. كانت المقالات تترجم وتنشر في الأسبوع نفسه يوم الجمعة، ويوم الاثنين.. وكان للمرحوم عبد الجبار السحيمي الأيادي البيضاء علي في هذا الموضوع، وساعدني أيضا في تسهيل هذه المسألة الزميل الفنان عبد الحق الزروالي، فقد كان يشتغل يومها بجريدة “العلم”. ما تزال تلح على الخلاصة التي انتهيت إليها من هذه السفرية الأولى، هاكَها: تعرضت لصدمة حداثية جديدة في التعامل مع المسرح جعلتني أصل إلى طرح السؤال التالي: لا يكمن المشكل فيما نقول، ولكنه يكمن في كيف وقول، وما نقول، ولمن نقول، وأين نقول، ومع من نقول؟ هذا هو المشكل. وقد حاولت أن أتعامل مع هذا المشكل، فيما بعد، بالطرق التي أتيحت لي. لا يمكن أن تجيب بدقة على أسئلة كبيرة من هذا الحجم، ربما أمضت البشرية زمنها كله في محاولة الإجابة على جزء من هذه الأسئلة، ولم تتوفق في الإجابة عليها كاملة. لكن يجب أن يكون لديك الوعي بهذه الأسئلة حيث أن البشرية لا تستطيع أن تجد الأجوبة إلا للأسئلة التي تستطيع هي أن تطرحها. وقد حاولت أن أطرح هذه الأسئلة، وهي كانت خلاصة من الخلاصات الأساسية لهذه التجربة..

– وكانت التجربة الثانية نظمتها الجهة ذاتها، تقريبا..

– بالفعل، وبإيعاز ودعم من البعثة الثقافية الفرنسية بالرباط بأن أشارك في تكوين عن “المسرح والجسد” بمؤسسة “الثقافة الشعبية” التابعة لوزارة الخارجية الفرنسية. وهي مؤسسة تنظم سنويا تكاوين وتربصات وندوات في منتجع للصيد، كان في ملك الملك لويس الرابع عشر، في “ماغلي لو روا”. وهي مدينة جميلة، هادئة، تبعد بنصف الساعة عن باريس على متن القطار، وفيها مركز ايواء واستقبال، وقاعات الاشتغال… وقد دام هذا التكوين أيضا (21) يوما… أراك تلح على الخلاصة.. والخلاصة أن الجسد وقولُ المسرح في المغرب برزخان لا يبغيان..

وفي العالم أخوان توأمان لا ينفصلان..

من سيربح القالب!.. 

– تماما. نقطة.. [وحدثني الفقيه، خارج الهواء!! عن تجارب ممثلين لا يحفظون شيئا ويعتمدون على مساعدة المُلقن..] ثم سألته عن كيفية سير الأمر مع تجربة الفرقة التي ارتبط بها، وارتبطت به تجربة، “السلام البرنوصي:..

– في فرقة “السلام البرنوصي”، عندما كنا نتفق على عمل ما، ونوزع الأدوار، لا يمكن أن يقف الممثل أمامنا إلا عندما يحفظ دوره حفظا تاما. لا يمكن أن يقف أمامنا وهو يبحث عن الحوار، أو عن التمثيل، أو عن الحالة.. كان هذا هو القانون الأساسي.. حين يتلعثم فيقول اعطوني الحوار، يقال له: عد إلى مكانك. ويجب أن تعلم أن لم يكن لنا خلال تجربة فرقة “السلام البرنوصي” “شيء” يسمى “السوفلور”. وكانت لنا نكتة ترددها قبل العرض، كنا نقول فيما بيننا: “شْكُونْ غَادي يربحْ القاَلَبْ دْيَالْ السُّكَرْ؟” من سيربح قالب السكر هو من سيتلف النص. كل واحد يعول على نفسه، وذاكرته، وحفظه. ولن يرحمك أحد من زملائك بكلمة واحدة! أعود لتأكيد الخلاصة، المسرح والجسد بينهما برزخ لا يبغيان حسب ما عايشته في تلك المرحلة. وأنا أتحدث الآن عن فترة (1982).

[حدثت الفقيه عما حدثني عنه ممثلون مغاربة عن نموذج السكيرج، فلم يكن يحفظ النص، في المسرح كما السوليما.. وكانت توضع أمامه شاشة، فيقرأ بصعوبة وهو يتهجى، ولا ينظر جهة محاوره ليظل بصره عالقا بالشاشة..]

النص نواة الدراما

– السكيرج لا يفقه شيئا في التمثيل، هو وما جاوره من معظم جيله في مجال المسرح. وفي هذا الجانب، أقول وأؤكد: عوزري رجل، وثريا امرأة.. عوزري كان ينفجر غضبا في وجه ثريا بعظمة قدرها وجلالها، ويصرخ في وجهها: “ثريا، گُولِي النص دْيَالْ الكاتب”. وأنا أتابع التداريب.

وحضرت أيضا على شخص آخر، رحمه الله، وهو رجل سينمائي، قضى وقتا طويلا بفرنسا، وعاد إلى المغرب، وعاش المتاهة، بقي يخربق، مادار والو، أنجز فيلم (Amour sans visa) وموضوعه داء السيدا، وطلب مني أن أكتب له الحوار. قال لي: “قاوتي، ما عنديش الفلوس”. قلت له: “أشنو هو هاد الفلوس؟” قال: “ما عندي حتى فلوس”. قلت له: “را خاصك من حيث المبدأ، خاصك تخلصني. خاصك تعطيني شي حاجة ديال الفلوس. شحال الفلوس اللي تقدر تعطي أنت؟” قال لي: “نعطيك خمسة آلاف درهم؟” قلت له: “وهي لك. لا مشكل. ولكن أخلاقيا يمنع علي أن أخدم معك فابور. اعطيني درهم آخذه منك”. في أمريكا، مثلا تطردك النقابة من بين المنتمين إليها لأنك اشتغلت مجانا، فأنت تكسر القانون وتخرقه.. عليك بالحصول على دولار رمزي. أما صفر دولار فممنوع، ممنوع، ممنوع. أدى واجب الحوار.. وكان لهذا الرجل صديق يبيع الكاسيت. اقترح عليه ممثلة متواضعة وقال له: هي ممثلة مقتدرة ستؤدي الدور بطريقة جيدة. وأنا أعرفها جيدا. أعطيتها الحوار.. وكانت تقول لي: خويا قاوتي، حبيبي قاوتي، وايلي وايلي على حوار.. جاءت لتقيم بالفندق، وقبل بداية التصوير، في اليوم الأول، كان هناك الاجتماع الأول: “البريفينغ”..

وحكاية أخرى عن النص أولا..

قال لها المخرج أن نقرأ الآن بعض الحوار لنعرف أين نحن..

قالت له: السي فلان، أنا أعدت كتابة الحوار ليصبح مناسبا!!.. قال لها، وأنا جالس معهما، وأنا رجل قبيح، مْقَوَّد، ولكني رجل حياء، حْشَمْتْ. قال لها، وهو يشير نحوي: “شَفْتِي هاد السيد هادا، أنا مْخَلْصُو بالزْبَابَلْ دْ لَمْلاَيْنْ بَاشْ يكتب هَادَاكْ الحوار”. ثم أضاف: “الله يرضي عليك، جَمْعِي حْوَايْجَكْ، واخْوِي اللُوطِيل دابا، دابا”. وغادرت الفندق، وذهبت إلى حال سبيلها. ثم بحث عن ممثلة أخرى.

– الحقيقة، العمل المسرحي كالسينما، عمل جماعي: لكل ما وُجد له، ويعرفه أو يتقنه..

– أحست بأن الحوار مَخْدُومْ. جَاهَا وَاعَرْ. وحواري، أنت تعرفه، بكل تواضع مخدومْ. وقد يسمح المستقبل بلقاء “الدْرَارِي دْيَالْ” “السلام البرنوصي”، ونلتقي بنشيخ، والدراري القدامى، وكان المخرج يقول للممثلين: “آهْيَا، لا تصدعوا روسكم، غِيرْ حفظوا دَاكْ الشِّي بْحَال القرآن”. ثم يشرح لهم: “دَاكْ الشِّي مَلِّي تَيْكَتْبُو قاوتي تَيْبْنِيهْ، إِلاَ حَيْدْتِ كلمة    وبْغِيتِ تْعَوَّضْهَا بكلمة َرَا غَادِي يِتْرَاجَلْ لك الكلام، گُولو كما هوَ. صافِي، مَا عنْدَكْ حتى حل آخر. صافي. إِلاَ بَدَّلْتِ كلمة بكلمة وَلَّى تْخَرْبِيقْ. لأن الكْلاَمْ تَيْتْرَاجَلْ. وإياكم! مَا كَايْنْ غَا حْفَظْ. اللّي ما حْفَظْ، يمشِي حتى يحْفَظْ”..

حلاق واشنطن لشنب اصطناعي

– علاقتك بالسي صامويل بيكيت، واضحة بينة، وها نحن نحط الرحال عند “سيدنا قدر” والاستنبات مجددا، حدثنا عن هذه العلاقة قارئا، أولا..

– آه، بيكيت. علاقتي به محدثة. [ثم قال]: أبعد عنك الكرسي، لسنا في مقهى حتى أقدم لك معلومة ما، واتبعني.. [توجهنا نحو المكتبة ثانية. ملفات تستريح على ثلاثة كراسي، وأخرى على جزء من المكتب. بحث للحظة، وعثر على نسخة من مسرحية “في انتظار گودو” باللغة الفرنسية، من نشر دار سُويْ. واستطرد]: لا يجب أن ندعي الأشياء. لا يجب على المرء أن يقول إن علاقتي ببيكيت تعود إلى كذا سنة. علاقتي به محدثة. لهذه النسخة قصة: كنت ذات يوم “تَنْتْلاَوَطْ” بالرباط، واشتريتها. اقرأ التاريخ: [(13 يوليوز، 1989، الرباط)] وكأن توقيعي هذا لم يستقر على نفسية قاوتي. ليس هذا توقيعي. توقيعي عربي. [التقطت صورة لتاريخ اقتناء النسخة والتوقيع ثم استطرد]. وانتظر أن أملأ كأسي ماء، فقد جف حلقي.. وسألني، بم يذكر هذا التاريخ في تاريخ المغرب؟

– كانت نقابة الكونفدرالية للشغل قد قررت اضرابا.. المغرب يتابع اصلاح وضع الأغنياء بتفقير الفقراء وإغناء الأغنياء! ومفاوضات نقابة التعليم يقودها الحزبيون من السياسيين مع أم الوزارات على عهد الراحل الكبير إدريس البصري!

– كان المغرب قدم عنقه للحجامة لفائدة صندوق النقد الدولي. وكان الصندوق يفعل بنا ما يشاء. لما قرأت هذا الكتاب، قلت بيني وبين نفسي: “والله العظيم لقد كتب هذا الكتاب لنا”. لأن أوضاعنا، كما كنا نعيشها، أوضاع بدون آفاق. بل إن تدخلنا نحن في تلك الأوضاع كان تدخلا لا يجدي، ولا يفضي لأي شيء. هل تعلم بأننا حين حصلنا على انتصارات جماهيرية ساحقة، وتوصلنا بزيادات في الأجور، حصلت شخصيا على ثلاثين درهما زيادة في الشهر. وحين بدأت أقرأ هذه المسرحية كنت أقول إن هذه المسرحية تحكي أوضاعنا. [لا يتوقف الفقيه عن تصفح النص المسرحي] هي مسرحية تحكي بؤس أوضاع المجتمع الفرنسي بعيد الحرب العالمية الثانية. ورأيت فيها أنها تحكي أوضاع مغربنا، قبيل وأثناء وبعيد موسى حلاقة صندوق النقد الدولي. وقررت أن أشتغل عليها بالمنطق الذي اشتغلت عليها به.

– مسرحية السي بيكيت تقوم على فصلين طويلين ينتهيان بالنهاية ذاتها: لن يجيئ “گودو”، لا محرر ولا مخلص، ولا منقذ من ضلال الاستغلال. في الفصل الثاني أورقت تلك الشجرة. غطت أعضاءها أو بعض أغصانها بعض الوريقات. وفي نصك، أضيف فصل ثالث..

– في العرض، حينما أكتب نصا للقارئ، فأنا لا أعتبر نفسي كتبت ذلك النص في اللحظة التي انتهيت فيها من كتابته.     أكتبه في لحظة جديدة. تلك اللحظة الجديدة تملي علي أشياء أخرى. فقاوتي الذي أنهى نصه في تاريخ ما، أو عرض نص “سيدنا قدر” في تاريخ ما، ليس هو قاوتي الذي يعد نصه للنشر في تاريخ جديد. فأثناء إعداد قاوتي للنص في تاريخ جديد، تبين له ما تبين. تبين لي بأن ذلك الموقف المعلق هو ليس موقفا معلقا، لأن بيكيت نفسه لم يدر أن الموقف ليس معلقا. أنا أحاور بيكيت، أنا أعود بك ومعك إلى أول كلام قلناه..

وتزهر شجرة السؤال

– للرائد ابن المقفع: “من أخذ كلاما حسنا عن غيره فتكلم به في موضعه وعلى وجهه فلا ترينّ عليه في ذلك ضؤولة. فإن من أُعين على حفظ كلام المصيبين، وهُدي للاقتداء بالصالحين، ووفق للأخذ عن الحكماء، ولا عليه أن لا يزداد، فقد بلغ الغاية…”

– تماما، تماما.. وبيكيت نفسه لم ينتبه إلى أن النهاية ليست نهاية معلقة. أن النهاية هي موت فلاديمير واستراگون؛ “زْعِيط وكُرِّيط”، وأن هذا الموت هو موت مجازي، لأنك عندما تقول لي لا مناص، لا خلاص، لا مناص، لا خلاص.. أعتقد أن المسرحية أن تنتهي بموت رمزي.. وهذا الموت الرمزي علي أن أكتبه أنا شخصيا بطريقتي، وأن أكتبه بطريقة الشُّهُدْ السبع التي تقول نفس الكلام ولا تقوله، تردد نفس الكلام ولا تردده، وتقول نفس الكلام وتردد نفس الكلام على مدار سبعة أيام.. وهي سبعة أَشْهُد.. وقد أضفت هذا الفصل الذي سميته “واحد النهار” كما سميت الفصل الأول “داك النهار”، والفصل الثاني “هاد النهار”.. والجميل في هذه الجلسة أن كل شيء في مرمى اليد، أما جلساتنا في المقهى فلا يكون شيء تحت اليد.. ويكون حديثنا ضربا من “رْوِينَة”..

– يبدو أن الفصل الثالث يحاول أن يقول بعض المحتمل..

– ما عْرَفْتْشْ.. نْجِيبْوهْ؟ يا الله.. كما قال صاحبنا عن تادلة..

– “إلا غابت تادلة ها سبْعْ حمير واحدة”…

– تماما، تماما.. الفصل الثالث كان نتيجة تخميمة.. [سألته ما هي، وما طبيعتها؟ رد قائلا: تخميمة بالفرنساوية. قلت: أمَا هي؟] رغبت في كتابة (Postface) موضوعه هذين الأخوين [“زْعِيط وكُرِّيط”]. ولكن باللغة الفرنسية. وإذا رغبت في ذلك، أقرأ عليك هذا النص بالفرنسية، وهو يحكي حكاية صاحبينا، ونهاية حكايتهما.. [وترجمة له، تقريبية للمحاوِر]:”وبينما هما ينتظران، ليلا ونهارا.. [طبعا، حين يقرأ “البوستفاص” يفهم معنى النص أكثر.. أرى أنك تريد أن أنتقل إلى الموضوع الذي ولد لي المشهد].. “وبالرغم من أنهما يعرفان الآن أن “قْدَرْ” لن يأتي إلى الموعد، فإنهما سيظلان ينتظران. ولكن انتظارهما سيكون انتظارا بلا أمل. انتظار ملؤه اليأس. انتظار في الليلة التي قضيا خلالها نحبهما، كانا حزينين، أو يمكن أن يقول ما يلي: الليلة التي قضيا نحبهما خلالها كانا قد جاءا، كما العادة، إلى الموعد بالقرب من شجرة غريبة الأطوار، استثنائية، وحيدين أكثر من أي وقت مضى. كانت الريح خلال الليلة التي قضيا فيها نحبهما تهب دافئة، ولم يأت أحد للموعد للقاء بهما. لم يكن لهما مكان آخر لينتظرا به ويمكن أن يعني ما يلي: الليلة التي جاءا فيها وهما ميتان، ولا يمكن أن يرتقيا إلى درجة من مستوى الوعي بتواطئهما في الوضعية التي يوجدان بها أو يعرفان أنهما عبدان للقانون الذي يمكن أن يغيراه، ولكنهما عبدان.. وأن هذه القوانين لا توجد.. أو يمكن أن يقول ما يلي: أنهما في تلك الليلة التي ماتا فيها كانا متواطئين وقدرهما بشكل كامل ولا يطالبان بأن يتم تحريرهما.. وقد يمكن أن يعني أن الليلة التي ماتا فيها لم يبذلا جهدا من أجل أن يحررا نفسيهما من مصيرهما. كانا قد تأقلما مع نمط عيشهما الذي أصبح دراميا أو يمكن أن يعني ما يلي: أنهما علما خلال الليلة التي قضيا فيها نحبهما أنهما كانا ينبتان ويزهران حقيقة، وأنهما كانا متأكدين أن صعود هذا القدر كان لا يطاق… وقد انتظرا الملاك “قدر” الذي كان بالامكان أن يبين لهما الطريق، لكن هذا الأخير لم يأت أبدا. وقد يمكن أن يعني ذلك أنه في تلك الليلة التي ماتا فيها قد ذبلا وتعرضا للتفتت.. وقد تبادلا النظر لحظة، وبكيا لحظة من الحزن، وبنوع من الأسى هو خلاصة وجودهما.. ويمكن أن يعني ما يلي: الليلة التي ماتا فيها وانفصلا عن بعضهما البعض إلى الأبد. مات كل منهما بطريقته الخاصة، جراء التخلي عنهما واليأس، ويمكن أن يعني ما يلي: في الليلة التي قضيا فيها نحبهما صرخا قبل أن يسلما الروح، وإذن، ماذا يعني ذلك، هل العالم وحيد؟ الدار البيضاء (6) نونبر (2010)..” وهذا هو النص الذي ولد الفصل الثالث..

– بمعنى أن التساؤلات التي تؤثثه هي التي ولد من رحمها الفصل الثالث..

– بالفعل، ظللت أتساءل: لم لَم يأت سيدنا “قدر”؟ الفكرة الأولى: هو جالس ببيته، وحضر الطلاؤون وهم يطلون البيت، وصبغوا “المْرَحْ” والأرض، ولما رغب في الخروج لم يستطع لأن الصباغة لا تزال طرية..

– هي احتمالات سوريالية..

– احتمالات سريالية، وشرعت أشتغل على نظير هذه الاحتمالات السوريالية.. والموعد هو الموعد ولو كان ينتابهما شك فيه، أحيانا. والشجرة علامة.. والنصوص السبعة توضح الموضوع..

متى يطيح التابع بالسيد؟

– من اللا تواصل الذي أطاح بالمجتمع الغربي الحديث لما بعد حربه الثانية وهو جزء من تيمات السي بيكيت، إلى مبدع المسرح الملحمي وصاحب “الأورغانون الصغير” السي بريخت وهو يعالج ضربا من اللاتواصل بين الطبقات؟ “السيد بانتيلا وتابعه ماتي”. متى قرأت النص وقررت شق أرض المسرح واستنباته في هموم أهل الركح؟ وأعرف أن علاقتك ببريشت تعود إلى بعض يفاعتك، أذكر اشتغالك على استنبات نصه “الذي يقول لا، والذي يقول نعم”..

– بالفعل من زمن قديم، وقد اشتريت الأعمال الكاملة لبريشت سنة (1973).. بشراكة مع گويندي، طلبناها من مكتبة “فارير” واقتسمناها كل واحد احتاز نصف الأعمال، وظللت أشتري ما لم يكن بحوزتي..

المتمرد الخوري يدخل “الرينگ”، ويخرج..

– هل أعدت قراءة “السيد بانتيلا..”، وهل أنت من اقترح النص على الفرقة؟

– لا، كان طلبية (commande)..

– آه، طلب منك “مسرح اليوم” الاشتغال على النص..

– عوزري كان صاحب فكرة كتابة النص.. […].. هو أول من طلب ذلك. فقد أسسا معي الفرقة لما كانا يشتغلان على نص “حكاية بلا حدود”: اتفقنا على موعد، والتقينا على وجبة غذاء، وتحدثنا. قال عوزري: نريد أن تكتب لنا النص القادم، ونريد أن يكون نصا للاشتراك في المهرجانات. ونريد أن يكون موضوعه إدريس الخوري. كان جوابي سريعا وبديهيا. قلت لعوزري أنت تتقن فن الكولاج، الدليل أنك أنجحت كولاج الماغوط. قم بكولاج آخر من دون الحاجة إلى قاوتي. ونحن أصدقاء. وبالسرعة ذاتها، ونحن لا نزال على مائدة الغذاء قلت له: نصوص إدريس الخوري واضحة. أولا: لن أشتغل إلا على النصوص الواردة في المجاميع القصصية. لن أعنى أو أشتغل على نص نشر في جورنال أو غيره. ثانيا: لن يكون إدريس الخوري إلا عنصرا من العناصر المسرحية. إذن، سأشتغل على إدريس الخوري [كشخصية]، وعوالم الخوري بناء على نصوصه، واجتهاداتي كمبدع. قال: فكرة “واعرة”، “مزيانة”.. وفرحت ثريا، وقالا لي اشتغل. وأوقفنا الكلام.. عدت إلى خزانتي.. لا يصدر نص مغربي إلا وأقوم باقتنائه.. ولو كان بالجيب ثمنه فقط، أشتريه أولا..  ولست بمستبق أخا لا تلومه على شعت فأي الناس المؤدب.. “كُلْشِي بْنَادَمْ مْغَوْفَلْ”..

وحشك الغابة..

وبعد ثلاثة أشهر، القتينا. قال لي عوزي: “نْدِيرُو شِي مسرحية نْدِيرُو بها السِّيكْسِي بُّوبِّيلِيرْ”: نجاح شعبي. قلت له: “بْحَالْحَاشْ؟” قال لي: “أَشْنُو رأيَكْ في (Maître Puntila et son valet Mati).. قلت له: ونعم الاختيار. كنت على علم باتجاه النص، وأين سأسير به. قال لي: “دِيرْ بها (un bon succès populaire)”.. قلت له: “صافي، ولاَ عليك.” ثم قلت له: “وَاشْ مْتَافَقْ أنت وثريا؟” قال: متفقان. قلت له: “شْكُونْ اللِّي غَادِي يلعب ميتر بانتيلا؟ وشكون غادي يلعب ماتي؟” هذا ما أحتاج معرفته، فقط. قال: السيد بانتيلا سيلعبه مطاع [وسعت دائرة عيني متسائلا، وقد نسيت الرجل واعتقدت أنه شرقي، والاسم لا يخلو من نكهة شرقية. فانبرى قاوتي مؤكدا]: الممثل الكبير عبد القادر مطاع. وماتي سيلعبه عبد اللطيف خمولي. قلت له الله يهنِّيك.

– كم أمضيت من الوقت في استنبات النص؟

– فترة قصيرة.. وكان عوزري لطيفا إذ أتاح لي ظروف عمل، فقد انتقل للسكن مع ثريا في الدار البيضاء، ووضع تحت تصرفي الاستوديو الذي يملكه بالرباط. وشرعت أشتغل في الرباط في هدوء تام، كان ايقاع اشتغالي جهنميا: أستيقظ صباحا باكرا، وناذرا ما استيقظت على الساعة الثامنة، أخرج وأشتري “الكرواسان” وأعود لتهييء فطوري بالبيت، ثم أشرع في العمل حتى الواحدة أو الثانية زوالا، أهيئ ما آكله مما أكون اشتريته طريا، أشوي “كْبِيدَة” أو ما شابه ذلك. وأخلد إلى الراحة نصف ساعة أو ساعة، ثم أستأنف العمل حتى الثامنة مساء. وأستمع للأخبار، وكانت يومها قناة واحدة بالتلفزيون المغربي. أقرأ بعض الشيء إذ كنت حملت معي بعض كتبي، ثم أخرج للتجول و”أُطَيِّبَ نْعاسي” ثم أعود إلى بيتي. وأستيقظ في الصباح محترما البرنامج ذاته. ويوم السبت أتوقف عن العمل على الساعة السابعة والنصف، وأخرج لألتقي بإدريس الخوري بــمقهى وحان “لاَمَارَنْ”، ويوجد بالقرب من بيت إدريس، وقريب من المكان الذي أسكن به. “نْقَرْقْبُو النَّابْ”، ونشرب زجاجة لبن!. هي ما أشربه طيلة الأسبوع. ولا ألتقي أحدا غير إدريس الخوري، وفي المكان ذاته طيلة إقامتي بالرباط. وكنت أستيقظ يوم الأحد على خاطري وأفطر خارج البيت، وأهيم على وجهي: أذهب إلى سلا، وإلى الولجة، والواد، وأبي رقراق.. أطوف طيلة النهار، وأتناول طعامي خارج البيت. ولا عمل يوم الأحد.

[أعدت طرح سؤال المدة التي قضاها الفقيه قاوتي في استنبات نص بريخت، فلجأ إلى ملفاته.. وعثر على وثيقة تحمل المعلومة التالية فقرأها]:

“كتبت مسرحية “بوغابة” ما بين أبريل وغشت (1988)”، [ثم عقب ضاحكا]: “أنا عفريت، أؤرخ، وتمت القراءة الأولى للنص في أوائل شهر أكتوبر”. وقد نشر الخبر في “الاتحاد الاشتراكي” ومجلة “كلمة”. ويشيران إلى يوم القراءة. قدمت فرقة “مسرح اليوم” عرضها الأول بمسرح “المعاريف” بالدار البيضاء يوم الاثنين (6) مارس (1989) وفق البطاقة التقنية التالية..

مطاع يطاوع.. ثريا تسمو

– يلاحظ من خلال البطاقة التقنية، والعروض أن الفنان مطاع لم يؤد الدور الذي كتب له..

– الخطأ يعود إلى مطاع. فقد أعطى الموافقة المبدئية، وأخفى علينا أنه ستجرى له عملية جراحية على العين في فرنسا. لم يكن بالامكان إجراء العملية بالمغرب، يومها. وقد أنجز معنا القراءة الايطالية طيلة يوم كامل بالبيت. وكان رائعا، كأن الدور كتب له، “دَاخَلْ في فُمُّو”. وبيني وبينك، عوزري “إما كان طُولاَنْطِي أو كان ذكي” فقد أخبرني لمن أكتب الحوار، وكتبته لفم مطاع. والمثير في الأمر كيف سمت ثريا واحتازت حوارا كتب لفم مطاع وقدرت على أدائه. فقد قامت بانجاز خطير، خطير، خطير جدا.

– وفي الحقيقة، فقد اعتقدت على الدوام أن دور ثريا في “بوغابة” أحسن دور أنيط بها، وأحسنت أداءه..

– هي نفسها تقول هذا الكلام، وتعترف به، وقالت الكلام ذاته في الكتاب [يقصد كتاب “سلسبيل تَامَغْرَبيتْ”، شهادات ودراسات، وهو كتاب تكريم للفقيه].. تقول أحسن شيء أنجزته في حياتي، وأحسن دور كتب لي.. لو قال لي إن ثريا من ستلعب “بوغابة” كنت كتبت لها مسرحية مختلفة، ونصا مغايراً.. لا تنس ما قلته لك في مرة سابقة، جوابا على سؤالك، ماذا تعلمت من “لاَسِّينْ”: تعلمت أن لا أكتب للممثل إلا الحوار الذي يقدر على قوله هو. وإذا لم أستطع أن أقول شخصيا ذلك الحوار، لا أكتبه لأحد. داكوغْ.

– داكوغ! إذن سافر مطاع وأنيط بثريا الدور..

– لا، لا زلت أتذكر ذلك اليوم، التقيت بعوزري، وكنا نتجول أمام حديقة الولاية. كان بيت ثريا وعوزري يوجد هناك. فقال لي هناك مشكل. قلت له: ماهو؟ قال لي: مطاع سيسافر لاجراء عملية جراحية على عينيه، إلى فرنسا. قلت له: “دَخَلْنَا عليك بالله؟”، قال: أخبرني هو نفسه بذلك. قلت له: ما العمل؟ قال: ما رأيك في أن نسند الدور لثريا؟ قلت له: وكيف سيكون تصرف الطيب الصديقي؟ لأن الصديقي دخل معنا باعتباره عراب الفرقة والعملية بكاملها. وقد سألتني من قبل هل حضر معنا اللقاء، وقلت لك: لا. هو انضم إلينا فيما بعد. ها هي الصور تؤرخ للأحداث التي حكيت لك تفاصيلها..

– السي الفقيه، يمكن القول إن الاستنبات يعني زرع النص في التربة المغربية حتى تصبح نسبة السبعين في المائة من النص الأصلي مغربية.. وهو أيضا الاستيعاب..

– هو استيعاب النص الأصلي.. ولولا ذلك لمات بين يديك. مثل نبتة لا تصلح للغرس بالتراب الرملي، حين تزرعها لن تظل على قيد الحياة ولو ظللت تسقيها ليل نهار..

نور الصديقي على نور قاوتي..

– لنص “نور على نور” قصة غير واضحة المعالم، لو تسلط عليها بعض الضوء.. فقد قرأت مرة أنها نص جماعي..

– بالفعل، هي قصة لم يتحدث عنها أحد، وقصة النص غير معروفة كما يجب. وأمر النص معقد. وللآن لم يتحدث عنه أحد، بالفعل. ها أنت ترى أني وضعت ملفها بالقرب من المكتب.. “يهدي الله لنوره من يشاء”. ما يقف خلف هذا النص؟ في الذكرى الخمسينية للحسن الثاني.. انظر هذا التاريخ على هذه الورقة، [يعرض علي ورقة تحمل اسم فندق بالرباط، وثمن استهلاك منتوج] كنت إذا أديت ثمن شيء “إكسترا”/إضافي للفندق حيث كنت أقيم، أطلب ما يشير إلى أني أديت ثمن ذلك. حتى لا يقال ذات يوم فلان لم يؤد ثمن الشيء الفلاني. ذات يوم وأنا مضطجع في بيتي، بالبرنوصي، وكنت أكتب نص “الدق والتشنديق”، وهو عنوان “الرينگ”، والعنوان الأول أفضل من الثاني بيني وبينك. لما انتهينا من مسرحية “بوغابة” وشرعت الفرقة تقدم العروض عبر المغرب، قال عوزري والآن فلنعد إلى مشروع إدريس الخوري.

– هل هناك صداقة تربط بين عوزري والخوري أم هناك شيئا آخر وراء المشروع؟

– يريد أن يشتغل بكاتب في المهرجانات الدولية أو يوظفه. ويومها كان العالم العربي كله ينعم بالاستقرار. كان لكل بلد عربي مهرجانه المسرحي. داكوغْ. كنا أنجزنا رضا شعبيا، جماهيريا حظي برضا النخب، وحظي برضا الشعب. بدأت المسرحية تدور، وبدأت اشتغالي.. كان لي صديق يشتغل ضمن ما يسمى “TAMCA”/لي طامكا. طبعا، سأشرح لك الأمر: هو مادون مهندس يشتغل بالمكتب الشريف للفوسفاط بمدينة بن گرير، في الحضيرة الفوسفاطية. ويسكن فيلا “لِي طَامْكَا” وهو أعزب، ويسكن بمفرده. وكان يطلب مني دائما بإلحاح أن أقدم عنده: “أنا مْزاوْگْ فيك، آجي عندي، واكتب على راحتك…” قررت أن أذهب إلى هناك لأقوم بتحضير النص. ركبت القطار، فالتقيت الصديقي رحمه الله ذاهبا إلى مراكش للقاء بجاك لانغ. ويومها كان مكبا على مشروع انجاز مسرحه الخاص. وأعطاني ورقة..

– ما طبيعتها؟

– هي دعوة للاشتراك في مشروع. والطيب لبيب يطلب منك الشيء دون أن يطلبه منك. نزلت بابن گرير واتجهت نحو الحاضرة الفوسفاطية. قضيت شهرين كاملين بفيلا صديقي أشتغل. نستيقظ صباحا، نتناول الفطور معا، يتجه هو صوب عمله، والعمل هناك وفق التوقيت المستمر، إذن فلا يعود إلا على الساعة الخامسة مساء. وأنقض على العمل طيلة النهار من التاسعة حتى الخامسة، مع التوقف لتهييء وجبة الغذاء وتناولها. وحين يعود في المساء، أتوقف عن العمل. نتبادل الذكريات، والنكت، وكان كيميائيا، فكان يقطر العطر أحيانا… وحين يعود بعد انتهائنا معا من العمل، نشرب فناجيل ونطوف في أرجاء الذاكرة والحاضر، ثم نتوجه صوب “الكْلوب”/النادي حيث نتناول وجبة العشاء، ونشرب كأسا، ونعود إلى البيت للنوم.

أنت تعرف أني أشتغل على نصوص الخوري، ولكن لي مبحثا عن إدريس الخوري، أستطيع معه أن أقول لك ماذا يقول إدريس عن الخراء، في المجموعة الفلانية، في القصة الفلانية، وبالصفحة الفلانية.. قمت بهذا المسح الكامل بابن گرير وأخذ مني شهرين كاملين. وعدت إلى بيتي وكتبت المسرحية، “الرينگ”، خلال شهر ونصف الشهر. وأنت حين تقرأ مواقف الخوري من بعض الأشياء تجدها مشارا إلى مصادرها، ذلك أنني أثبتها على الجذاذات، بعد أخذ المادة من مكانها من النصوص. وتذكر طبعا أن “الرينگ” هو النص المسرحي الوحيد، في المغرب، الذي يضم بين ثناياه إحالات. أحيل القارئ على القصة الفلانية، في المجموعة الفلانية الصادرة عن دار النشر الفلانية، في السنة الفلانية.. كما يرد ذلك في البحوث الجامعية. وهذا جانب من الأمانة العلمية، ولا يعفيك الاشتغال الأدبي من احترام الأمانة العلمية…

– لعل هناك صعوبة ما في الكتابة عن شخص وعالمه وفكره وتشخيصه فيستوي لحما وحياة..

– نسبيا، ولكني كتبت مسرحية “الرينگ” بحرية الكاتب. وارتأت حرية الكاتب أن مسرحية “الرينگ” يجب أن تقوم على أربعة أدوار متكافئة. دور لثريا جبران وثلاث أدوار لثلاث “قْشَيْشْبِيِّينْ” ينادى على ثلاثة دراري من “الجُوطِيَّة”. لما انتهيت من الكتابة، قمنا بالقراءة.. وكان فيها  بعض اللغط… كنت يومها قد بدأت الاشتغال مع القناة الثانية (دوزيم)..

والابداع تكسير قيد وحرية  

– كيف أتيت إلى العمل مع التلفزة، وهي مرحلة مهمة من حياتك على مستويات عدة..

– وهي تجربة صدف، وليست تجربة اختيار. بعد أن أديت واجب التعاقد مع وزارة التعليم، ومدته ثماني سنوات، بدأت أطلب كل سنة الايداع الاداري من دون أجرة لمدة سنة. وكان الطلب ظل يرفض دائما، كل سنة. كنت أستاذ اللغة الفرنسية، وكان يومها عدد أساتذة اللغة الفرنسية قليل. فقد كان الفرنسيون رحلوا إذ عادوا إلى بلدهم، وبقي المغاربة فقط يدرسون، وكان عددهم قليلا جدا. وكنت أتوصل بالجواب من الوزارة، ويكون معللا بالشكل التالي: “ليس هناك أساتذة للتعويض”.. ولا أحصل على الجواب إلا مع بداية السنة الدراسية الموالية. أي لحظة الدخول المدرسي. تقدمت بالطلب في السنة التاسعة، ورفض، والعاشرة ورفض، والحادية عشرة، ثم الثانية عشرة فرفضا أيضا. ما الذي يجب فعله؟ بدأ الموسم الدراسي للسنة الثانية بعد العاشرة، وكنت كتبت نص “بوغابة”، بدأت كتابته خلال شهر أبريل، والكتابة الحقيقية القوية خلال شهر يوليوز في الصيف. غَيَّزْتُ النص. ومع شهر أكتوبر بدأت قراءته، القراءة الأولى. داكوغ. ثم قررت الانقطاع عن الالتحاق بالمؤسسة. خلال شهر يناير توقفت عن التدريس. كتبت رسالة الاستقالة وبعثت بها إلى الوزارة ولسان حالي يقول: لم تريدوا منحي الايداع الاداري، ها هو جوابي على تصرفكم. رسالة الاستقالة موجزة جدا، لا تتعدى السطر الواحد: السيد الوزير، أستقيل. وتقبلوا السيد الوزير عبارات التقدير. وعلى رأس الصفحة الاسم والعنوان ورقم التأجير. وكتبتها بعد أن وضعت تحتها ورق الكربون وورقة بيضاء تحتها لأحتفظ بنسخة منها، وذهبت إلى مصلحة البريد، يومها، وبعد بعث الرسالة توجهت نحو مقهى، أرحت عظامي، وقلت بيني وبين نفسي كم هو سهل نيل الحرية، والتخلص من هذا العمل. سَاهْلَا، مَاهْلَا، ما أن ألقيت بالرسالة داخل الصندوق حتى نزلت علي شآبيب الحرية، والتخلص من الثقل والضيم. فقد كنت رابطت بالبيت طيلة ثلاثة أيام لأتخذ القرار، ظللت أقلبه على كافة الجوانب. واتخذت القرار في الأخير. ما شجعني على اتخاذه، والحسم فيه هو أنني اخترت التعليم لأكون معلما، مربيا، لكن مرحلة الاجهاز على التعليم التي ابتدأت منذ سنة (1975)، وترسخت خاصة سنة (1979)، وأنا أدرس آنذاك بالتعليم العمومي، تبين لي أنني لن أكون مربيا لأنني لم يبق أمامي جيل لأربيه. أصبح أمامي جيل يائس، جيل محبط. وأصبحت أحصل أجر التدريس بالرغم من أنه ضامر، وكنت أقول للأصدقاء: من يريد تحصيل المال الكثير فليهاجر التعليم، التعليم ليس مهنة من يريد جمع المال. هذا اختيار.. وأنا قمت بهذا الاختيار لأشتغل بقطاع التعليم. كان أمامي باب مفتوح لأمارس عملا آخر يذر علي الكثير من المال ولم أرد ذلك بل اخترت التعليم عن قناعة واختيار. وتبين لي أنني لا أستطيع أن أؤدي مهمتي ضمن هذا الاختيار الذي قمت به. وأنني أموت ببطء فيما أقوم به، أموت وأنا أمارس التعليم، لا أقوم بما رغبت في القيام به في البداية. وقد استعملت مع نفسي هذا التركيب، ولم أقله لأحد من قبل: علي أن أنقذ حياتي. (Je dois me sauver, sauver ma vie)، أبحث عن خلاصي.. إذا ظللت أمارس التعليم ضمن الأوضاع التي أصبح عليها فقد أصاب بالجنون أو ما هو أخطر من الجنون. واتخذت القرار، وانصرفت.

مبادئ ترعى الخطى

وبدأت أشتغل. آمنت بشيء معين، وهناك أشياء معينة تسيرني وتقود خطواتي في حداثتي وعتاقتي، وفي لائكيتي وتديني.. إذا أغلق الله بابا فتح أبوابا.. وإذا أردت فتح باب يجب أن تكون مهيئا ومستعدا.. وكنت مستعدا. قدمت استقالتي خلال شهر يناير وقد كنت مستعدا، وخلال شهر أبريل قدم العرض الأول لمسرحية “بوغابة”. وبدأنا العمل، وفي شهر يوليوز قدمت “نور على نور” مع الطيب الصديقي. نادى علي الطيب الصديقي الذي لم يكن يعرفني. تصور هذا الأمر ينادي علي ويقول لي: آجي، غادي تكتب معي! أكتب معه، بمعنى أشاركه الكتابة (co-auteur)! بل أكثر من ذلك، أكون منسق النصوص كلها على تنوعها.. وليس المشرف على الكتاب فقط، (گْرَايْدِي دْيَالْ لِي زُوتور).. وفي السنة ذاتها، تنادي علي القناة الثانية لإعداد برنامج ثقافي.

أم الفرجات: السينما

– من كان المنادي عليك بالضبط؟

– نور الدين السايل. وهذه حسنة قام بها السايل.

– كانت تربطك به علاقة من قبل في مجال السينما..

– طبعا، من خلال النادي السينمائي. كنا نشتغل جميعا، بل تمتد معرفتي له حتى بيته. وأعرف أبناءه، وأعرف زوجته قبل أن يتزوجها.. فقد كنت وراء تأسيس ناديين سينمائيين اثنين. “نادي العمل السينمائي” الشهير جدا بالدار البيضاء، أنا وگويندي وزريقة وجريد وحيتوم.. وكنت أمين مال هذا النادي خلال سنتين، وبعد سنتين قررنا أن نقدم استقالتنا كمكتب وكنا قررنا أن نكوّن خلال السنة الثانية شباب الحي لأن النادي كان في عين الشق، على أن يتحمل هؤلاء الشباب المسئولية ويتمموا العمل في النادي السينمائي. ثم انتقلت إلى عين السبع وشكلت النادي السينمائي الثاني، “نادي السينما الجديدة”/(Club du cinéma nouveau). وقد قلت للزملاء لن أتحمل المسئولية، سأشتغل معكم، وأساهم في التأطير.. إلى أن وصل الأعضاء في تجربتهم التدبيرية للنادي إلى الحائط، وبعد سنة جاؤوا بوفد مبايع إلى البيت: قد يقلق هذا القول بعض الناس، جاؤوا مبايعين وقالوا لي نحن نريد منك أن تتحمل المسئولية بالنادي، ففي عنقنا كذا وكذا من الديون، والنادي سيلفظ أنفاسه. قلت لهم: كيف أتحمل مسئولية النادي؟  قالوا: أن تكون الرئيس. قلت لهم: أحتاج مع من أسير النادي. وإذا كان علي أن أسير النادي فإنني سأسيره وفق شروطي. قالوا: طبعا وفق شروطك. قلت لهم: سأضع لكم مشروع مكتب، ثم ننتقل إلى مرحلة الجمع العام، ثم التصويت عليه في حال الموافقة. وسنؤسس لجان العمل، وهي لجان التنشيط هدف أعضائها العمل.. وما أن انقضت الثلاثة أشهر الأولى حتى استطعت أداء كل الديون التي كانت في عنق المكتب السابق.

– حسن التدبير المستفاد من فرنسا، بطريقة غير مباشرة (والذي سنعرج عليه فيما بعد). ما كان سقف ديون المكتب السابق؟

– ثلاثة ألف درهم، وهي يومها زَبَّالة مال. ولم يكن بقي معهم أي منخرط تقريبا. وخلال ثلاثة أشهر الأولى فقط جلبت للنادي (370) منخرطا معظمهم من المؤسسات التعليمية. فقد اتصلت بكل المؤسسات وشرحت الهدف من النادي والمنافع. كان ثمن الانخراط يومها (20) درهما. التدبير يحتاج البحث عن شراكات تساعد على تنشيط النادي. لما كان الانتاج الفني المصري محاصرا في المغرب، ذهبت إلى المركز الثقافي بالرباط واستطعت الحصول على أفلام يوسف شاهين، وتوفيق صالح، وكلها من نوع (16) ملم فيما سميته أسبوع السينما المصرية. واحتج فريق من الزملاء والمعارف وقالوا نحن نقاطع، وأنت.. فنبه نور الدين السايل المحتجين وقال لهم: يوسف شاهين هو رئيس لجنة مقاطعة اسرائيل. ماذا تخربقون؟ ما قام به قاوتي عمل جيد. بل قال أكثر من هذا، إذ كنا يومها نحضر مؤتمرا، وقد قام بكل ذلك وهو يشاورني في الأمر. وكان يتحمل المسئولية كرئيس الأندية السينمائية. وقد كان الزملاء قد قالوا قاوتي خرج عن الاجماع ويجب أن يطرد. وبالرغم من ذلك جاء بعضهم يطلب مني عرض تلك الأفلام، فكنت أرد عليهم لا أستطيع أن أعطيكم هذه الأفلام، فقد حصلت عليها بصفة شخصية وهي تحت مسئوليتي، يجب عليكم أن تتصلوا بأصحابها وتفاوضوا من أجل الحصول عليها. كنت أنظم مثلا أسابيع لأفلام عدد من الدول منها أسبوع الفيلم الألماني، (أما الفيلم الروسي فهو قْشَاشْبِي، ومتوفر لدى الفيدرالية)، بل كنت أبحث عن الأفلام والشراكات التي لا نتوفر عليها. أختار الأفلام المميزة التي صنعها المخرجون المميزون: مثلا فيم فيندرس وما جاوره إبداعا.. وأنظم الأسبوع خلال خمسة أيام. عموما كنت أتصل بالمراكز الثقافية الأجنبية للحصول على الأفلام، أما بالنسبة لأسبوع الفيلم الألماني فقد حصلت على الأفلام بالاتصال بالسفارة. وكنت أشترط أن تؤدي تلك الجهة ثمن كراء القاعة. أحصل على الأفلام وثمن كراء القاعة. وكان المنخرطون يستمتعون بالعرض الرسمي يوم الأحد، والعروض الأخرى على الساعة السادسة مساء طيلة خمسة أيام. ثم انتقلت إلى أسبوع الفيلم البولوني، والألماني الشرقي، بالمركز الثقافي، وليس السفارة.

جرعة حرية.. 

أوقفنا تلك التجربة في شهر مارس، وقد كان هناك بعض الشنآن، وحدثت أشياء لا تستحق الاهتمام. المهم، أنني كنت مؤسس أندية سينمائية، وكنت أنشطها. وكانت هذه من مهامي، وكان صديق خلصني من هذا الاهتمام، واسمه عمر بن بادة، وهو أستاذ تاريخ وجغرافية، ومفتش عام للمادة، وأعتقد أنه تقاعد الآن، وهو مناضل في نقابة الكنفدرالية الديمقراطية للشغل. ومن هواة السينما. كان عضوا في نادي سينما “مرس السلطان” وقال لي ذات يوم: قاوتي، أريد أن أقول لك أمرا ما، ولكن لا تعتبر ذلك تطاولا.. قلت له: تفضل. قال: شوفْ، يجب أن تختار بين المسرح، والأندية السينمائية، وأنشطة أخرى.. اختر شيئا واحدا وتميز فيه. استمعت له بجد، وفكرت في الأمر جليا، ثم تخلصت من النادي السينمائي، ثم تخلصت من التمثيل ضمن الفرقة، ثم تخلصت من تسيير الفرقة.. قلت للزملاء: أنا كاتب، أكتب.       لن أمثل بعد الآن، ولن أسير معكم الفرقة، ولا تختاروني عضوا في المكتب المسير. وهكذا أصبحوا يضعونني ضمن أعضاء المكتب لتكملة النصاب، ويسندون إلي مهمة مستشار. يضعون اسمي في آخر اللائحة، وأخبرتهم أنني لن أحضر أي اجتماع، وأصبحوا يرشحونني، ثم يصوتون في غيابي.

ممثل بالصدفة والسليقة..

– لما توقفت عن التمثيل، هل بقي شيء من حتى في أحشائك، أم قتلت رأس الأفعى، بل رأس إلهة الابداع، وأسماؤها شتى في أساطير الشعوب القديمة؟

– [لحظة صمت طويل للتأمل؟]

في الحقيقة، لم أفكر في الأمر أبدا من قبل. سؤال لم أفكر فيه حقيقة. كما دخلت إلى المسرح بالصدفة، فقد دخلت التمثيل بالصدفة. عندما كنا نوزع أدوار التجربة الأولى “علاش، وكيفاش”، بقيت بعض الأدوار وليس لها أصحابها. وكنت جالسا إلى أولئك الشباب، فقلت لهم أنا أؤدي تلك الأدوار. بكل بساطة. وأصبحت ممثلا..

– وهل وجدت بعض ذاتك في التمثيل خلال هذه التجربة الأولى؟

– كنت ممثلا بالسليقة. وكل من شاهد “اندحار الأوثان” يقول لك قاوتي ممثل، ومن شاهد “نزهة الدم” يقول لك قاوتي ممثل. أنا ممثل بالسليقة. ومن شاهد مسرحية “رحلة موح” يقول الكلام ذاته أيضا. وقد مثلت الفكاهي والدرامي أيضا. ولكن يعجبني الدرامي أكثر من غيره. وقد مثلت في “الحلاج يصلب مرتين” وقدمناها في مونتاجين، مثلت في الأول، ولم أمثل في الثاني لأنني كنت قد انتقلت للسكن في الرباط. لأن عرض المسرحية قد امتد على سنتين. وقد كنت أقمت بالرباط خلال سنة، ولذلك تخليت عن دوري وأداه شخص آخر. وهكذا فقد مثلت في عدة مسرحيات هي “علاش وكيفاش”، و”رحلة موح”، و”الگفة”، و”القرامطة”، و”الحلاج”، و”اندحار الأوثان”، و”نزهة الدم” وهي الأخيرة.. وهي مسرحية جبران.. ثم قررت التوقف عن التمثيل. وما بقي شيء في الأحشاء، فقد جئت إلى التمثيل بالضرورة، كأنه ضرورة، نوع من الاضطرار.. كان يجب أن يقوم به أحد ما، فكنت أنا.. تطوعت وقمت بالدور أو الأدوار، كنت مهيأً لذلك.. ثم انتهى الأمر. لم أبحث يوما عن أن أكون ممثلا، أو أبحث عن دور في التلفزيون أو للسينما.. لا أعتبر ذلك عالمي… ولا أنا خلقت من أجله..

سحر هوليود..

– للسينما سحرها الخاص، ثم هي كانت سبيلا للمتعة وبعض المعرفة. إلى أي مدى أحببتها، واستلكتها؟ وقد تكون وراء حب التشخيص، والكتابة للمسرح..

– كنت أحب السينما وأنا صغير مثل كل أترابي: من “منگالة البدوية” إلى “أمنا الأرض”..

– و”الصداقة”، “دوستي”..

– فيلم “الصداقة” جاء في وقت متأخر. بينما تنتمي “منگالة البدوية” إلى مرحلة الصغر، لا أزال أتذكر وكنا نسكن في “الكاريان”، كريان عيد العرش، أذكر الصبيحات التي كانت تنظمها سينما “السعادة”، وكانت الوالدة تأخذنا لنتفرج في فيلم هندي، وأتذكر أنه كان فيلم “منگالة البدوية”، وقد شاهدتها في سينما السعادة، بالحي المحمدي. وعمري أقل من خمس سنوات. وكان الثمن ما بين أربعة وعشرة ريالات، وكان حب السينما قويا وشديدا. ثم بعد ذلك أصبحت لنا سينما في حي البرنوصي، سينما “السلام”. كنت أذهب إلى المدرسة في الصباح، وكانت الملصقات الصغرى تتبدل كل أسبوع، إذ يتم الاعلان عن فيلم الأسبوع المقبل. وكانت تلك العبارة “الأسبوع المقبل” تسحرني. وكنت كل صباح، وأنا ذاهب إلى المدرسة على الساعة السابعة والنصف، أمر من أمام السينما، ألصق وجهي “بالگرياج” لأرى الفيلم الذي ستقدمه السينما خلال الأسبوع القادم قبل أن أتابع طريقي إلى المدرسة. لكني كنت أذهب كل أسبوع لمشاهدة الفيلم أيا كان نوعه، وطبيعته. الشيء الوحيد الذي كنت لا أقبل بشأنه اعتذارا أو تسويفا هو أن يعطونني الــ(27)  ريالا ثمن تذكرة السينما.

قوالب “طُونْ وَحْرُورْ” ومقالبه..

وأذكر أن حدث مرة واحدة فقط أن لم يكن بحوزتي هذا القدر المالي لأشتري التذكرة لوحدي، واشتريتها بالاشتراك مع أخ من الحومة، كان الفيلم “طُونْ وَحْرُورْ”، أي فيلمان، ويفصل بينهما وقت الاستراحة. كان الفيلمان هما: الأول هو “فيرا كروز”، والثاني هو “لي فيكينغ”. اقترح الأخ أن نشتري بالاشتراك تذكرة واحدة، ويشاهد هو الفيلم الأول “فيرا كروز”، ثم يغادر القاعة مع لحظة الاستراحة، ويعطيني تذكرة الاستراحة لألج القاعة بعده وأشاهد الفيلم الثاني.. ولما دخل إلى السينما، لم يرد أن يغادرها ليستمتع بشاهدة الفيلمين معا. وسخر مني، وتركني أنتظر كما انتظر الصديقان “غودو”.. وغبنني الأخ في الفرجة غبنا، غبنني وشعرت بالخديعة، والحرمان من المتعة، وحرماني من حق أستحقه بقوة المساهمة في شراء التذكرة. لم يكن أخي بل أخا، وهو ابن الحومة.

كان حبي للسينما حبا عارما، أشاهد كل أسبوع فيلمين اثنين. وكان للسينما دور كبير في مخيلتنا، في تحديث مخيلتنا، كانت مخيلتنا في الأصل عتيقة جدا، بدوية، وتراثية بالأساس. وهكذا لعبت السينما دورا كبيرا في تحديث مخيلتنا جميعا، كنا نرى الرقة، ونرى القبلات التي تنقص الأفلام العربية، ونرى الفساتين، ثم الأفلام باللونين الأبيض والأسود التي كان ينتجها المصريون وهي تبهر المشاهد وتهز كيانه، وترى ليالي الأنس في فيينا. وكان أول فيلم دشنت به “سينما السلام” بحي البرنوصي عهد عرض الأفلام هو “رابعة العدوية”. وكانت تذكرتي تحمل الرقم ثلاثة. يوم افتتاح السينما. افتتحت أبوابها بعرض فيلم كبير، ومهم، هو “رابعة العدوية”..

– أذكر أن سينما موريطانيا ظلت تعرض الفيلم ذاته، “رابعة العدوية” طيلة شهر رمضان، وطيلة شهر رمضان كانت تمتلئ عن آخرها.. ولكن سحرها لن يعدم المنافس في القراءة..

خصومة الفرجات

– سينما حينا دشنت به افتتاح عروضها.. شاهدت عددا لا نهائيا من الأفلام، لكن أمرها يشبه ما يكتب على اللوحة، اللاحق يمحو السابق. كل أسبوع يمثل تجربة معينة، أي أن التجربة الأسبوعية الجديدة، وهي عبارة عن فيلمين جديدين، تمحو تجربة الأسبوع الماضي. فيلمان جديدان يمحوان فيلمين سابقين عليهما؛ فرجة تمحو فرجة. تظل صور الأسبوع حاضرة طيلة الأسبوع، تؤثث الذاكرة لحظات النوم، ولحظات الارتخاء خلال النهار، لم يكن التلفزيون ينافس السينما.. ثم تأتي الصور الموالية فتبتلعها، تمحوها. كيفما كان الحال، لم يكن لدينا اختيار، السينما تبرمج، ونحن نتفرج. كل أسبوع مهما كانت البرمجة. ولما بدأت أترجل، أدخل مرحلة بعض الاستقلالية بدأت أشتري تذكرة البالكون، وثمنها (37) ريال وليس (27) ريال، وأتفرج ليلا، بل ليلة السبت.. ولما ولجت مرحلة القراءة، تراجع الاهتمام بالسينما وأصبحت لا أذهب إليها إلا حين تكون الأفلام رائعة، قوية، ويتحدث عنها الجميع أو المتعلمون خاصة. ومنها “غاتسبي العظيم”، وما شابهه.. فتلك الأفلام كنا نشد إليها الرحال بالقاعات السينمائية التي توجد بالمدينة. وتراجع التقليد الأسبوعي للتردد على القاعات السينمائية، بل غاب إلا إذا كان الفيلم قويا.. ويستحق المشاهدة.. ثم احتلت التلفزة زاوية من البيت، وأصبحت تمكنك من استهلاك الصورة، وتلبي تلك الحاجة إلى الصورة. والتلفزيون منافس خطير للسينما، فهو يحقق لك بعض الاشباع، ويقلل من اللهفة.. يسمح بحشو الذاكرة، وملء العين.. وأنت أصبحت أكثر انشغالا فقد أصبحت تقرأ، ومتعة القراءة أكبر، وتغذي الخيال، وتقوم على الاختيار، والانتقاء، والاكتشاف..

– تنافس لعبة كرة القدم كل المتع، هل تعلق قلبك بها..

– لم يمتلك حب ممارسة كرة القدم قلبي أبدا. كنت ألعب خلال أوقات معينة من دون حب أو شغف. عرف عني في الدرب، حيث نلعب، أن أحد الاثنين يمكن أن يمر من أمامي، يتجاوزني: اللاعب أو الكرة، ولن يتمكن هو وهي معا من تجاوزي.. كان اللعب مع الأصدقاء يمثل نوعا من تجزية الوقت، أو المشاركة الوجدانية في أدنى مراقيها.. وكنا نحن أبناء حينا اللاعبين الذين يمثلون الخطر، بل الخَطرين لأن ملعبنا ملعب الحي يوجد في قلب غابة، وسط الأشجار.. في البرنوصي، كنا نلعب وسط غابة أشجار الكاليبتوس. تراوغ صديقك الخصم وتصطدم بشجرة. هناك كثرة الأعداء أو الخصوم، الفريق المنافس والأشجار المحيطة بك بل المؤثثة للملعب. ثم لأن اللعب لم يكن يخلو من مسرحية المشهد الواحد: يقول صاحب الكرة، ممون فريق أبناء الدرب، لاعب أو مبيخرة.. إما أن أكون ضمن من يلعب أو أحرم الجميع من اللعب.

– شيء شبيه بما تروي صداه الآن، ولم يحرم من تفاصيله أحد، فيما أعتقد. سمعت قبل أسابيع حوارا مع كاتب إفريقي يقدم سيرته الذاتية التي نشرها مؤخرا.. وتحدث عن الموضوع ذاته، قال كنت دائما أختار أن ألعب ضمن فريق صاحب الكرة، وإذا ثقب الفريق الخصم شباكنا كان صاحبنا يحمل الكرة وينصرف، وهكذا لم نهزم بأكثر من إصابة واحدة أبدا..

ومن أسمائه الزعيم..

– أذكر أنك قلت لي مرة أنك كنت زعيما الحي، اكتسبت الاسم رمزيا أم بممارسة الفتوة..

– كان أبناء الدرب يحبونني لأنهم يرون في الزعيم. يعرفون جرأتي وخبروها. كنت جريئا. وكان يطلق علي الزعيم، هل تعرف هذا الأمر؟ كان الكل ينادي علي الزعيم، حتى اعتقدت أنه اسمي الزعيم، ولم أعرف أن اسمي محمد حتى دخلت المدرسة. كانت الوالدة قد سمتني الزعيم، والوالد سماني محمد وسجل الاسم بالحالة المدنية، وكتم الأمر، وكان كل أفراد الأسرة ينادونني الزعيم، الزعيم.. والوالد نفسه كان ينادي علي في المنزل بالزعيم.. ولما سجلت في المدرسة وكنت على وشك الدخول للدراسة، أخذت الوالدة دفتر الحالة المدنية لتسجيلي بالمدرسة. ولما مدت الدفتر للموظف، سألها مَن مِن الأبناء تريد تسجيله، فقالت ابني الزعيم، قلب كل الأوراق، ورفع رأسه نحوها وقال لها: الوالدة، لا يوجد عندك ابن اسمه الزعيم.. فأسقط في يدها. لا يوجد ابن اسمه الزعيم.. لم يرد الوالد تسجيل اسم الزعيم..

تقول الوالدة وقف عليها ليلا المصلح مولاي أمْحَمَّد بن ادريس في المنام، قبل أن أولد، قال لها ستلدين ولدا، وستسمينه الزعيم. وكانت السنة سنة (1952)، ولم يرد الوالد أن يسميني بالزعيم، فقد خاف أن يسجن، يوضع رهن السجن.. وكان الوالد عضوا في خلية من خلايا النضال الوطني، وخاف أن تقوده التسمية إلى السجن.. ففضل اسما أكثر سلامة. ولما لم يسميني الزعيم فقد كانت له مبرراته، وهذا نقاش لم نثره فيما بيننا أبدا. فقد كان له مبرر، ما أن ينطق بالاسم الذي اختاره لابنه أو اختارته زوجته لابنه حتى يلقى به في السجن. فقد كان يومها علال الفاسي رهن المنفى بالغابون، وكان يسمى الزعيم..

وقد ظل اسم الزعيم هو الغالب في الحومة بين الأصدقاء والأتراب.. واستمر معي، يناديني به الأصدقاء حتى كبرنا وأصبحنا رجالا. وأصبح الأصدقاء يخجلون من مناداتي الزعيم، وشرعوا ينادون علي قاوتي. ولا أحد منهم ينادي علي محمد. لما شرع الأصدقاء يتحاشون الزعيم، كان كلما جاء أحدهم وطرق الباب، وأُجيب نعم يُسأل هل يوجد السي محمد، فيرد عليه أي واحد من الأهل تحدث إليه: شكون السي محمد؟ الزعيم؟ وذلك لأن الوالد يحمل اسم محمد أيضا.. فأنا محمد بن محمد. نحن مثنى.. كل من سأل يقال له: آه، محمد الزعيم؟

ملح الحياة

– في الحي، من كان أصدقاؤك، من اقترب منك.. ومن اقتربت منه؟

– مرت المسألة بمراحل. خلال مرحلة الطفولة الأولى، لا يكون أصدقاء بل أتراب. أبناء الدرب، وكفى. نلعب، نمرح، نتحدث، قد نتعارك.. نختار من يلعب معنا ضمن فريق كرة القدم أو غيره، ويكون الآخرون في مواجهتنا، وانتهى الأمر.. نقوم بممارسة قدم للعب “حابة”، أو قدم للعب “دنيفري”… وكنا نلعب هيه أيضا لما كبرنا واشتد عودنا. كنا يومها ندرس بالاعدادي، الكوليج. ثم انقطعت عن اللعب. لما انتقلت إلى الثانوي أي الليسي لم أعد ألعب مع الأصدقاء. وكان أصدقائي بالليسي أكبر مني سنا جميعهم. وكانوا كلهم، باستثناء واحد منهم، هو رضوان الطويل في أقسام أعلى من القسم الذي كنت أدرس به. لما كنت في الخامسة ثانوي، كان بعضهم في السادسة والبعض الآخر في السابعة أي قسم الباكلوريا. رضوان وحده كان بالقسم ذاته مثلي، أي في مستواي الدراسي ذاته.. وهو الآن رجل اقتصاد، يدرس بجامعة گرونوبل بفرنسا، ويكتب شعرا جميلا باللغة الفرنسية، وقد كنا معا نعيش تجربة مراهقة الكتابة..

حين كنت تلميذا بأقسام التعليم الابتدائي لم تكن هناك صداقات، وفي السلك الأول كان الأصدقاء قلة. وفي الواقع، لم يصبح لي أصدقاء إلا لما انتقلت إلى الليسي. أصدقاء بمعنى الأصدقاء، نلتقي ونتحدث، ونناقش بعضنا البعض، ولك ما تتبادله معه، (عدا اللعب مثل “دنيفري” وغيره).. التبادل هو مقياس الصداقة، وبهذا المعنى فلم يصبح لي أصدقاء إلا لما ذهبت إلى الليسي. أصبحت أتبادل مع الأصدقاء الآراء، والأفكار، بل أكثر من هذا كنت ورضوان الطويل مشاءين؛ كنا نطوف بكل أرجاء حي البرنوصي. نبدأ السير من نقطة محددة وننهي المشي عند نقطة أخرى محددة. كنا نقوم بدورة دائرية، ننطلق من مكان ونعود إليه بعد الطواف عبر كامل الحي. دائرة كاملة ومكتملة. سأخذك معي لنقوم بالدورة ذاتها، لأن حي البرنوصي كبر الآن وتعملقَ. ننطلق من نقطة محددة، نقوم بالدورة، نذهب حتى “الشاريج”، ونهبط ونعود إلى نقطة الانطلاق. وهناك يذهب كل إلى حال بيته، ذلك أن بيت رضوان يوجد حيث توجد العمالة، وكنت أقطع الغْوِيبَة ذاهبا إلى بيتنا.

مشاءٌ وكتبيٌ!

لما كنا نحضر امتحانات الباكلوريا، لم نكن نلتقي طيلة النهار؛ فكل واحد يقوم بما لديه من عمل، ونلتقي بعد ذلك.. كنا نتفق بالتناوب مثلا، أقول له ستحضر عرضا في مادة التاريخ عن موضوع ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى. كنا ندرس مادة التاريخ والجغرافية باللغة الفرنسية يومها. وخلال الدورة يقدم العرض كما يجب أن يكتب في الامتحان: مقدمة، عرض وخاتمة.. وبلغة فرنسية سليمة وليست فرنسية أولاد الألبة المنكسرة الأجنحة. اللغة الفرنسية المكتوبة، وليست الشفاهية. وإذا انتهى من تقديم العرض، وبقي لنا ما يكفي من الوقت، كنت أقدم شيئا آخر اتفقنا عليه. وهكذا كنا نراجع معا بالدقة المطلوبة كل مواد مقرر سنة وامتحان الباكلوريا.. وبهذه الطريقة، كان كل منا يمتحن ذاته وصديقه، ثم يفيد أحدنا الآخر بعد أن يتابع العرض إذ قد يبدي ملاحظات في نهاية العرض. وقد يقف كل منا على ما قد يكون يعتري معرفته وتهييئه من ثغرات أو نواقص في الموضوع ليعود إليه والتدقيق في تلك الجوانب بالذات.. وكنا نعتبر هذا الضرب من العمل عمل المشائين عندما كان أتباع أرسطو يتبعون أستاذهم وهو يلقي عليهم الدروس وهو يتمشى بهم في الحديقة… وكنت بنيت صداقات مع أصدقاء منهم هذا الذي كان يقرضني ويعيرني كتبا حين كنت أسافر إلى البادية، ولا يزال اسمه لابدا بزاوية من الذاكرة لا يريد أن يستسلم، وأنا أحاصره وأنت معي.. تذكرت الآن اسمه الشخصي وهو عبد الله… [بعد أسبوعين من هذا اللقاء بعث لي الفقيه رسالة أشار فيها إلى الاسم العائلي لصديقه الذي كان يُقرضه! ويعيره الكتب نسلي]. الطويل هو الوحيد الذي بقي صديقي منذ تلك الفترة. يراسلني، ويحن إلي حين يزور المغرب، إذ هو يقيم بفرنسا، ونلتقي بالحومة بمرس السلطان بالمحل الذي أرتاده، ويرتاده هو أيضا، نقتسم قهوة باردة. وندير الأحاديث في مواضيع تثير شهيتنا أو اهتمامنا. وحين يكتب نصا يبعث به إلي لأقدم رأيي فيه.. ولما كنت أكتب بالبيان، كان يقرأ ما أكتب أسبوعيا، ويبعث إلي بتعاليقه.. أذكر أنه لما عاد من فرنسا لأول مرة، بعد أن قضى بها سنته الأولى، عاد في فصل الصيف وقال لي: بي حاجة ماسة لمعجم ثنائي اللغة عربي/فرنسي. وذهبنا إلى الحبوس واشترينا “المنهل”.

شقشقة على شقائق.. النعمان

أما الأصدقاء الحقيقيون فهم الذين التقيتهم وصادقتهم داخل فرقة “السلام البرنوصي”. هي الصداقة اليومية، التي تقوم على المعايشة اليومية، بالتفاصيل التي لا تطرأ على بال، ونعيش مع بعضنا المعاناة الفنية، والهواجس المرتبطة بكل نص جديد، وعرض مسرحي جديد.. وكنا ندخل بيوت بعضنا بعضا، ونتناول الطعام بييوت بعضنا بعضا.. هي صداقة من طينة مغايرة. ثم أضيف إلينا أصدقاء آخرون لما بدأنا نشتغل، وزملاء العمل الذين أصبحوا أصدقاء أيضا. ومنهم بدوي جميل، اسمه الجيلالي بوطرف، وهو رجل استثنائي، يحب الضحك، وهو أستاذ اللغة الفرنسية. تكوينه باللغة الفرنسية تكوين صلب، ولكن نطقه لها مرعب ومضحك. نزلنا ضيوفا عليه ذات مرة، والزمن فصل ربيع، وقال لابني وهو ما يزال صغير السن يومها: آ ياسين، “viens voir coq licots/coque licots!?/فيان فوار كوكو ليكو”. وهو يتقن اللغة الفرنسية.. قالت له إكرام: “الله يرضي عليك آجيلالي، ابتعد من ابني، ستتلف لغته الفرنسية!!” ثم كان هناك أصدقاء مخذلين، تافهين، من الذين صعدوا بسرعة عجيبة. وتبين أنهم لا يستحقون أن يكونوا أصدقاء.. لا داعي إلى ذكرهم..

شاشة صغرى

– لو عدنا إلى تجربة الشاشة الصغرى، وقد أقمت بها ردحا من الدهر! في أي ظرف نادى عليك نور الدين السايل؟

– هو بدأ العمل مع القناة الثانية مستشارا، وهو لا يزال يشتغل مع الاذاعة والتلفزة المغربية. ولما جاءت الداخلية وأصبحت تدير شؤون الاذاعة والاعلام أبقت تحت تصرفه أو سمحت له بأن يظل تحت تصرفه مكتب، وكاتبة، والسيارة والسائق.. وحين انطلقت القناة الثانية أصبح يقوم بأداء وظيفتين. ثم أصبح مستشار فؤاد الفيلالي الرئيس المدير العام، في مجال السمعي البصري أي في شأن الدوزيم. ولحظتها شرعوا جيمعا في نسج شبكة برامج، وكانوا في حاجة ماسة إلى أن تشتمل الشبكة على نصيب من البرامج الثقافية. وطرح هو فكرة أن يكون للقناة برنامجان ثقافيان، واحد باللغة العربية، والثاني باللغة الفرنسية. برنامجان مدتهما قصيرة لا تتعدى مساحة كل منهما (26) دقيقة. فنادى علي لحظتها، وكنت في ابن گرير يومها. كنت أهيئ مسرحية “الرينگ”. اتصل أحدهم من القناة بإدراة الفوسفاط بابن گرير. لم يكن هناك سبيل للاتصال بي مباشرة، فلم يكن بحوزتي هاتف. قالت إدارة القناة لإدراة ابن گرير أن تقول لقاوتي أن يتصل بالسايل لشان يخصه عبر هذا الرقم الهاتفي. ويوم الغد، ذهبت إلى ابن گرير، ووضعت ما تيسر من دراهم في فم الهاتف القابع بمخدع الهاتف بأحد الشوارع، واتصلت به. فقال لي إني طرحت فكرة على دوزيم لبرنامج أدبي، فهل يمكن أن تزورني للحديث في التفاصيل. قلت له متى يجب أن أزورك. قال من الغد، سيكون أحسن. قلت له: بعد غد سيكون من الممكن، فأنا كما تعلم بنواحي ابن گرير وعلي العودة إلى الدار البيضاء، ثم الانتقال إلى الرباط.

وكما وعدت زرته خلال اليوم الثاني، دخلت عليه بمكتبه. كان الزمن شهر رمضان. قال لي: يا الله نغادر المكتب. ذهبنا إلى بيته، وأكملنا كلامنا. قال الفكرة كالتالي: نحتاج برنامجا أدبيا.. عليك بتهيئة تصور، وضع به الفكرة.. ورغب في أن أنجز البرنامج باللغتين العربية، والفرنسية. قلت له: في هذه الحالة، القضية فيها الهوية، أريد أن أنجز البرنامج باللغة العربية. قال: في هذه الحالة، دعني أفكر في من ينجز البرنامج باللغة الفرنسية. وفكر في عادل حجي. واتفقنا على برنامج يتناول الكتب والاصدارات. ووفق تصوري كنت رغبت في الحديث عن الاصدار، ثم أتحدث إلى الشخصية، وأقدم أخبارا عن الاصدارات التي نزلت إلى السوق. إذن هناك إصدار محوري، وشخصية محورية، ثم هناك الاصدارات عامة، فهناك إذن ثلاثة محاور. ثم اجتمعنا ثلاثتنا.. وأسميت البرنامج “مقامات”. وهكذا بدأت التجربة.. قال لي: أتريد أن تتوظف مع القناة؟. قلت له: لا أريد وظيفة، أريد التعاقد معي.. كنت غادرت للتو العبودية، ولا أريد أن أعود إلى نيرها.. وتعاقدنا، وبدأ العمل..

 الفصل الثالث: واحدْ النهارْ…

النصب على “الگفة”

[أمد يدي وأسحب ملفا قديما كتب على وجهه مسرحية “الگفة”. أسأل الفقيه]: لو نعود إلى هذه الباكورة، وهي أول فاكهة وصلت منك إلى سوق الفرجة..

– “الگفة” ألفتها كلها في مكتبي بمؤسسة “لاراد”. لم أكتب منها حرفا واحدا خارج المكتب. كتبتها خلال شهر واحد، فقد كان أمامنا رهان المشاركة في الاقصائيات. لم يكن لأي فرد من مجموعة “السلام البرنوصي” فكرة عن مسرحية. كنت بعد أن أنجز عملي وأنتهي منه بالمكتب، بين الساعة والساعتين، أخرج الملف وأبدأ في الكتابة. وحين أنتهي من العمل مع نهاية الدوام أضع المسرحية بالدرج، أغلقه ثم أغادر مقر العمل. وكذلك الأمر صباح الغد، حين أنتهي من العمل أخرج المسرحية وأشرع في الكتابة.

– من أين نبعت فكرة الموضوع، وكيف تشكلت..

–  انطلقت “الگفة” من محكي ذاتي حول أبي، وهجرة أبي من البادية، ومحاولة انخراطه في سلك العسكر بالمغرب، ثم انزاح الموضوع على ما يمكن أن يحدث للآخرين. هؤلاء الذين هاجروا من البادية إلى المدينة، وما يحدث لهم: بعضهم يريد قطع الحدود، وهناك من يريد شراء عقد العمل في الخارج، وكيف يشتريه.. وبعد أن يشتري العقد، ويخضع لأنواع الفحص الطبي، وتردده على بناية بابن جدية للخضوع للفحص الطبي، ويصبح مجازا للهجرة بشكل رسمي لأن بحوزته عقد العمل. وقد أدى ثمن تذكرة السفر على متن طائرة. ثم يركب الطائرة، وهو فرح لأنه ذاهب أخيرا إلى فرنسا. ثم يسمع المضيفة تقول للركاب هنيئا لكم فقد وصلت الطائرة إلى مطار انزگان/أگادير! 

هكذا تنتهي المسرحية فالمهاجر ضحية على الدوام. ومسرحية “الگفة” هي ذاتها التي أعدت كتابتها بشكل جذري، وسميتها “رحلة موحَ”. وقد تغيرت المسرحية ودخلت عليها تعقيدات.. وهي التي سأنشرها فيما يستقبل من أيام.

– درست التدبير، وأفدت منه كما الإدارة خلال ممارستك العمل بشركة الكهرباء..

– نعم، لما اشتغلت بشركة “لاراد”، شركة الكهرباء. كنت التحقت سنة (1972) بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، وسجلت نفسي بشعبة التاريخ والجغرافية. وكانت السنة بيضاء، إذ أغلقت الكلية أبوابها. وخلال شهر جوان من سنة (1973) التحقت بعالم الشغل. اجتزت امتحانا اتخذ شكل موضوع كتابي باللغة الفرنسية. موضوعه “المجازفة”، وهو موضوع فلسفي. وتم توظيفي ضمن مرتبة عالية، وهي السلم الحادي عشر. وهي رتبة يحتلها الموظف بتلك الشركة بعد خمس عشرة سنة من العمل والأقدمية. كان الأجر ألفا ومائتي درهم صافية، تضاف إليها علاوات على رأس كل ثلاثة أشهر. وكنت حين أحصل الأجر، أحتفظ منه بمائتي درهم، وأعطي ما تبقى للوالدة رحمها الله لتتكفل بشئون البيت والأسرة والعائلة ولم يكن الوالد يشتغل يومها، بل كان أخ واحد هو من يعمل. وكانت المائتا درهم تلك تمكنني من شراء الكتب، وكنت من أكبر زبناء مكتبة “فارير”. زبون مهم. ويبقى لي ما به أشرب قهوة يوميا بالمقهى طيلة الشهر، وما به أركب التاكسي أو الحافلة وأشتري قميصا أو سروالا أو حذاء.. ولم أكن أدخن أو غير ذلك يومها. كم من الخير والبركة كان في المائتي درهم. اشتغلت يومها واحتللت مركز مساعد الرجل الثاني بالمؤسسة. وكان هو الملحق الإداري المدير المكلف بالشئون المالية والإدارية السي عبد الرحمان بن منصور رحمه الله، فقد توفي منذ أقل من سنة. وهو من علمني كل ما أعلمه في شئون التدبير والإدارة.

لما التحقت بالعمل معه، كان الرجل قد راكم أحد عشر عاما من التجربة والأقدمية، وهو خريج المدرسة العليا للتجارة بفرنسا، وقد علمني ما لم أكن أعلم. فقد قال لي يومها: إني سأقوم بتكوينك.. وقد وفى بوعده..

شاهد أيضاً

“الجسد الفرجوي”: محور نقاش الدورة 18 لمهرجان طنجة للفنون المشهدية طنجة، 26-30 نونبر 2022

يُنهي المركز الدولي لدراسات الفرجة، أن فعاليات الدورة الثامنة عشرة من مهرجان طنجة الدولي للفنون …

التقرير الأدبي 2017-2021

  كلمة لا بد منها 1. مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية (من 2017 إلى 2021) …

عَـرُوسُ الْأَسْـرَارْ… عَوْدٌ عَلَى بَدْء كلمة المبدع محمد قاوتي في افتتاح الدورة 17 من مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية

محمد قاوتي تَرَتَّبَ الصَّبْرُ على كل شيء إلا على وَقْفَة الواقِفِ فإنها تَرَتَّبَتْ عليه حين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *