باتريس بافيس: تأملات في مسرح ما بعد الدراما

  • تعريب المبارك الغروسي

ملخص

يقوم المقال  بضبط وتدقيق مفهوم ما بعد الدراما ويتأمل مسرح ما بعد الدرامي كما يعرفه هانسثيز ليهمان. فبعد بحث في مناسبات وأصول المصطلح، ابتداء من سنوات السبعين من القرن الماضي، ينتقل البحث إلى النظر في معنى المسرح ما بعد الدرامي وفي موضوعه. يستحضر المقال موضوعه بقدر تمثل أعدائه ومزعجيه، فيبحث عن أثار ذلك في الممارسة الركحية أكثر من الكتابة، ويعقد مقارنات بين بعض خصائص النص الدرامي وما بعد الدراما. وبعد إرساء اللحظة التاريخية لظهور موضوع مسرح ما بعد الدراما بين السنوات السبعين والثمانين من القرن العشرين، يتطرق المقال لمشاكل وتحديات ما بعد الدراما. فيتناول مثال الإخراج “التفكيكي” من أجل عرض بعض المميزات: إزاحة الإخراج عن المركز، التشظي، إبراز المسارات. وتسمح المقارنة بين الإخراج في مفهومه الأوربي والأداء باعتباره ينحدر من اللسانيات الانجازية بقدر ما ينحدر من دراسات الفرجة، تسمح بفهم أوسع “للتردد بين التقليد الغربي للإخراج وبين أخراج الأدائية الذي تطور في البلدان الناطقة بالانجليزية.

ما زال كتاب “مسرح ما بعد الدراما” لهانسثيز ليهمان Hans-Thies Lehmann يواصل إنعاش النقاش بخصوص المسرح المعاصر رغم مرور سنوات على صدوره عام 1999 في ألمانيا[1]؛ فلم يكن وقتها قد طٌرح للتداول مصطلح جديد، منذ تداول مصطلح “مسرح العبث” خلال خمسينيات القرن العشرين ليشمل جزءا كبيرا من النتاج المسرحي التجريبي، أو مسرح “البحث”. فهذا “المفهوم المظلة” والمصطلح العام الذي يحتوي تقريبا كل شيء، وما يشبه الطاحونة الكونية التي تطحن ما هو مركب ومعقد لتجعله مجرد أفكار بسيطة ومهضومة، هو مفهوم لا يمر دون لفت الانتباه إليه؛ إنه يثير كثيرا من الجدال بقدر ما يثير الأطروحات المضادة أو المصوَبة لأفكار ليهمان الهامة؛ لهذا سنجد هذا الأخير يعمد إلى تصحيح بعض أطروحاته في مقالات حديثة أو في كتابه “الكتابة السياسية: أبحاث حول نصوص للمسرح”[2].

  1. أصول المفهوم والمصطلح

إذا لم يكن هانسثيز ليهمان هو من نحت مصطلح مسرح ما بعد الدراما، فإن الفضل يعود إليه في فضيلة جعله نسقا أرسى أسسه على جملة ملاحظات وفرضيات. كان هانسثيز ليهمان مساعدا لأندريج ويرث Andej Wirth في الشعبة الجديدة “علم المسرح التطبيقي” في جامعة غيسن الألمانية  سنة 1980 ، وكان ويرث قبل ليهمان يحيل على “مسرح الكلام الذي يفترض أنه فقد هيمنته واحتكاره لفائدة أشكال ما بعد درامية تعتمد لصق الأصوات والأوبرا الناطقة والرقص المسرحي”[3]. وأندريج ويرث هذا الذي يورد  إلينور فاشز  Elinor Fuchs بشأنه في مجلة The Drama Review [4] أنه استعمل هذا المصطلح في نيويورك خلال سبعينيات القرن العشرين، كان يظهر دائما أنه حساس ومنتبه للمفارقات التي تعبر المسرح ما بعد الدرامي. وعندما يستعمل ريشارد شيشنر Richard Schechner هذا المصطلح، أو مصطلح ما بعد الإنسانية، فلا  يعدو أن يكون استعماله له سطحيا وصحافيا، في تصادي مع الأطروحات المضادة للإنسانية antihumanistes لميشيل فوكو التي كانت رائجة وقتها في الولايات المتحدة، بحيث إنه لا يبدل أي مجهود لتقييم الأدب الطليعي الذي كان حسب رأيه ماض في طريق الانمحاء، في ذات الوقت. أما هيلغا فيتنر Helga Fitner فمن دون أن تستعمل مصطلح مسرح ما بعد الدراما، وباستعمالها ما بعد الحداثة، قد ظهرت منذ 1985 أنها أكثر دقة وبناءً من ريشارد شيشنر ومن أندريج ويرث، لأنها ربما اقامت الربط بين ما بعد الدراما وما بعد الحداثة؛ في حين ليهمان، على غرار التفكيك عند جاك دريدا، يقيم فرقا محسوما بين ما بعد الحداثة و ما بعد الدراما (أو التفكيك).

مهما كان الحال، فإن مصطلح ما بعد الدراما يبدو  منسوخا على وزن ما بعد الحداثة، في وقت تجد فيه هذه النظرية صعوبة في تجديد نفسها وفي تقديم وتفسير ما تقوم عليه تجارب مسرحية جديدة، وفي وقت تختار فيه كذلك الحل السهل القائم على اعتماد سابقة “ما بعد” Post، أي ما يأتي بعد شيء ما في معنى يقترب من عبارة الفرنسيين:”ومن بعدي الطوفان”. وهو “تكتيك” تعمم منذ ذلك الوقت مع“ما بعد البنيوية” (بعد 1968)، و”ما بعد التاريخ” (بعد 1989)، و”ما بعد الإنسان” (بعد 1999 مع كاترين هايلس Catherine Hayles في كتابها كيف أصبحنا ما بعد إنسانيين الصادر عن منشورات جامعة شيكاغو[5]). فمبدأ “ما بعد” يقود بسرعة إلى مراكمة إردافية لممارسات يقوم هانس–ثيز ليهمان بجمعها أحيانا بسرعة وغالبا عند منعطف جملة أو عبارة، أو ضمن لائحة جرد لعناصر متنافرة لايوحدها منطق. يكاد يكون من الأسهل أن يتعرف المرء على الأمور التي  تثير حنق وغيظ هانس-ثيز ليهمان وهي: المسرح الأدبي المتمركز حول الخطاب والذي لا يمثل الإخراج بالنسبة له إلا عملية شكلية ديكورية؛ والمسرح السياسي الذي يبرز أطروحاته ولا يعدو أن يكون “طقسا تأكيد لمن هم مؤمنون سلفا بتلك الأفكار”[6]؛ ومسرح التقاء الثقافات interculturel لأنه لا ينبغي “الأمل بأن نجد في مبدأ لقاء الثقافات مجالا جديدا يكون البديل لفائدة الرأي العام السياسي”[7]

 لا تمر هذه الاستثناءات الناذرة  والجذرية واللافتة للانتباه، دون نوع من السخرية نجدها كذلك في “التسمية المضبوطة” مسرح ما بعد الدرامي. فهناك فكاهة غير مقصودة تميز هذا الثالوث الغريب:

إن “ما بعد” لا يفيدنا إن كان الاستبعاد زمنيا أم أنه نظري محض أشبه ما يكون بفترة عطلة أو إجازة أخذتها البنيوية والسيميولجيا. هانس–ثيز ليهمان يجعل منه في حقيقة الأمر مبدأ لعدم التناقض: “إن التأكيد على أن مسرح ما بعد الدراما كان يوجد منذ البداية والتأكيد على أنه يدل إلى لحظة معينة في مسار المسرح ما بعد/ ما وراء الدراما، هما بعدان لا يستبعد أحدهما الآخر، بل إنهما يتعايشان جنبا إلى جنب”[8].

بما أن “الدرامي” يكون بالضبط هو ما خلفناه وراء ظهورنا، بل استبعدناه، فأننا نتعجب من كون هانس–ثيز ليهمان يستعيده حتى في نفيه له، مما يجعلنا نعتقد انه ليس ثمة غرض من الأغراض الأخرى -الملحمي، أو الغنائي أو الفلسفي أو غيرها- يمكنه أن يخلفه ولو في أشكال مختلفة.

من المؤكد أن كلمة “مسرح” ليست كلمة فاحشة، لكن أصلها الإغريقي واستعمالها حصرا في العالم الغربي أو المتأثر بالغرب، يجعلها مشبوهة ومحدودة من الناحية العملية حينما نهتم بممارسات ثقافية خارج-أوربية، وبالخصوص التظاهرات الثقافية غير الجمالية وغير التخييلية التي تتجاوز أفق المسرح الطلائعي ومسرح البحث.

     2- مفهوم مسرح مابعد الدراما: المعنى والموضوع

يبدو أن موضوع مسرح ما بعد الدراما لا يعرف له حدودا من حيث الامتداد كما من ناحية الفهم. يعدنا هانس–ثيز ليهمان بتحديد معايير ما بعد الدراما، لكنه سرعان ما ينسى وعده في زحمة حماس اكتشافه كل مرة أشكالا جديدة: “فقط في خضم التفسير والشرح نفسه سنعمد إلى تقديم تعليل، ولو جزئيا، للمعايير التي قادت اختياراتنا”[9]. ونستنتج أن هذه الاختيارات تتجاوز كثيرا حدود الثقافة العالمة والأدبية وأنها تقوده نحو ثقافة شعبية وإعلامية، ونحو فنون بصرية وعروض من مختلف الأنواع. فالرقص والسيرك الجديد وفن الفيديو والفنون التشكيلية والإنشاءات الفنية والمسرح الموسيقي، كلها تجد لها عنده ملجأ ومأوى[10].

رغم أن ليهمان يميز مسرح ما بعد الدراما عن تجارب خمسينيات وستينيات القرن العشرين من قبيل عروض  الهابينيع (عروض الحدث) وفن الأداء، والبرفورمانص ومسرح البيئة وفن الجسد أو فن الانجاز النمساوي، فإن هذه الأشكال قد تسللت مبكرا من خلال فتحات شبكة ما بعد الحداثة الواسعة. وهنا مرة أخرى سيكون من غير اللائق أن نعاتب ليهمان على غياب تعريف يرسم الحدود، نظرا لشساعة الحقل وهجنة عناصره ومواضيعه. ونستنتج فقط أن المعايير تتحدد أولا بناء على الأمور التي يتمرد عليها مسرح ما بعد الدراما، وهو ما يفتح لنا بالتالي بعض الآفاق بخصوص القيم الجديدة والمجالات التي تمثل قيما ثمينة لما بعد الدراما.

العدو الرئيس هو التمثيل (la représentation)؛ أي تلك الرغبة القديمة للمسرح الموسوم بالمسرح الدرامي في الاعتماد على نص أو على لعب أحداث تخييلية، في تجسيد بين شخصيتين، ومكان وزمان متميزين عن زمن ومكان الحدث الركحي في فرادته. فبدل رسم وتجسيد ما يتحدث عنه النص، يفضل مسرح ما بعد الدراما أن يبرز ويستعرض أواليات الخطاب وميكانزماته، وأن يتعامل مع النص على انه موضوع صوتي دون أن يلتفت إلى مرجع الكلمات. إنه يجتهد بذلك في إعادة النظر في التوازن المسرحي الهش بين البعدين المحاكاتي le mimétique والأدائي le perfomatif، وما يسميه مارتن باشنر Martin Puchner: “الوضعية غير المريحة للمسرح بين فن المحاكاة وفن الأداء”. ويضيف باشنر  أنه”باعتباره فن أداء مثل الموسيقى أو الباليه، فالمسرح يتعلق بفن أناس يحيون على خشبة المسرح؛ وباعتباره فن محاكاة مثل الرسم أو السينما، فإنه يجب استعمال هؤلاء المؤدون البشر كأدوات محملة بالمعنى خدمة لمشروع المحاكاة”[11]

ويوثر مسرح ما بعد الدراما المبدأ الأدائي، دون أن يمضي إلى حد تطبيق هذا المبدأ في على العروض أو الفرجات الثقافية cultural performance؛ فهي تظل من منظور مسرح ما بعد الدراما أداءات رمزية تقع خارج الأجواء الجمالية للمسرح.

نستنتج من هذا أن مسرح ما بعد الداراما يفضل تفضيلا جليا وبين مسرحا ملعوبا ومؤدى performed؛ مسرح تحرر من النص المسرحي ويحث على تغييب التراتبية بين الأنساق الركحية والمشهدية والأدوات المستعملة، وبالخصوص بين الخشبة والنصوص. فهذه النصوص لن تكون ركحية (أي مفروض فيها أن تكون سهلة في أدائها واستظهارها)، بل ستكون على العكس من ذلك عنيدة ومتمردة على الركح، بل وحتى مكتوبة ضدا عليه. والمؤلفون الذين يستشهد بهم غالبا مسرح ما بعد الدراما، من أمثال مولير Müller وجيلنيك Jilinek وغوتز Goetz وبوليش Polesch وكين Kane وكرينب Crimp ودوراس Duras وبرنهارد Bernhard وفينافير Vinaver وفوص Fosse ولاغارس Lagarce، يٌعتبرون بالفعل أنهم لا يكتبون للخشبة بل ضدها، أو بالأحرى بالرغم منها: فليس دورالخشبة تجسيد أو إبراز النص، بل تقديم تركيبة أدوات وتقنيات تفتح للنصوص آفاقا جديدة؛ لا يتعلق الأمر بسياق اجتماعي ونفسي، بل بتركيبة أداء وزخم حركي وبصري تمكن من اكتشاف النص في نفس الوقت مع اكتشاف الركح، وتحث على مقارنة هذا بهذا. اشتهر بعض المؤلفين أو المخرجين بافتتانهم بالبنى الإيقاعية. نذكر من المخرجين: ويلسن Wilson وريجي Régy وكريغنبورغ Griegenburg وثالهايمر Thalheimer وإيتشل Etchells ولاورس Lawers وفابر Fabre وكاستوليشي Castellucci؛ ومن المؤلفين: كولتس koltès ولاغارس Lagarce وغابيلي Gabilly وهانذك Handke وفوريمان Foremane.

يقع الموضوع المفقود لمسرح ما بعد الدراما ضمن الممارسة الركحية أكثر من وقوعه ضمن نوع من أنواع الكتابة، وإن كان من الصعب أحيانا معرفة ما إذا كنا في إطار بحث ضمن الكتابة أو في إطار أداء ممثل. وربما كان هذا هو السبب الذي يجعل ليهمان نادرا ما يتحدث عن “الإخراج”، لأنه بالتأكيد يعتبر أن هذا المفهوم مرتبط ارتباطا وثيقا بالكتابة القديمة وبالنمط “الكلاسيكي” في بناء الإخراج، على طريقة كوبو Copeau على سبيل المثال. فالإخراج “الكلاسيكي” يختبر مرور النص، المفروض فيه أنه ثابتا، على الركح، المفروض فيه أنه غير ثابت وغير معروف سلفا؛ ويتم الادعاء أن هذا الإخراج هو عمل مخرج يكون في ذات الآن مبدعا ووفيا للنص الأول. أما بالنسبة لليهمان فإن الإخراج في المسرح الحديث “لا يكون في العموم إلا استظهارا مسموعا وإبرازا للدراما المكتوبة”، وهو الموقف الذي بدا لجان بيير سارازاك ظالما وأختزاليا[12]، وإن كانت لا تغيب عنه الحجة والمنطق. يٌفسير هذا التوجه الجذري عند ليهمان جزئيا بالممل من “مسرح المخرج” Regitheater في ألمانيا خلال ستينيات وسبعينيات (القرن العشرين)، وهو الأسلوب الذي اعتُبِر أنه يغالي في التمركز حول أنا الفنان المخرج (زادك Zadek وشتاين Stein). في حين أنه في بلدان أخرى مثل فرنسا وإيطاليا فقد تبلور مع ذلك،خلال سبعينيات القرن العشرين، تصور ينظر للإخراج كأفضل وسيلة لتفكيك مسرحية أو عرض ما: كما هو الحال مع فيتز Vitez في سلسلة من التمارين ثم العروض حول بعض ركائز المسرح الكلاسيكي (موليير وراسين)، ومع كارميلو بيني Carmelo Bene انطلاقا من إعادة كتاباته الجذرية لشكسبير بأسلوب أدائه المغالي في التمثيل والتصنع Jeu histrionique؛ وهما اللذان استطاعا -قبل ظهور ما بعد الدراما– تفكيك النص وجعل الركح سابقا للنص وفوقه، وتقديم تقنيات بسيطة لكنها تخلخل بشكل جذري الممثل كما تخلخل التلقي عند الجمهور. فقد ساهم الإثنان في استعراض وإبراز نصية النص textualité كما لو كانت عملا من أعمال الإنشاء الفني installation أو من فن التشكيل. فبدل النظر في البحث عن الجوانب التي يحاكي فيها المسرح الواقع أو يمثله، يتساءل مسرح ما بعد الدراما والإخراج التفكيكي و”ذو الفلسفة التفكيكية” السابقة لأوانها، عما يفعله الممثل بالنصوص وبالأحداث وضمن أية تقنيات يندرج هذا الممثل.

إن مقارنة الممثل مع رديفه (double) ما بعد الحداثي وما بعد الدرامي، “المؤدي” Perfomer، تساعدنا على إدراك أحسن للفروق القائمة بين المسرحين الدرامي وما بعد الدرامي[13]:

         المسرح ما بعد الدرامي         المسرح الدرامي
·        المؤديperformer  

·        طبيعة كورالية، وآلية ميكانزمات

·        مخاطبة غير مشخصنة للجمهور

·        مخاطبة ومتلقي غير محددان

·        تقديم وحضور

·        جسد معطل

·        تعطيل للتماهي

·        أداء رياضي

 

 

·        الممثل acteur 

·        حوارات

·        حوار محادثة

·        حوارات وتبادل التجاوب

·        تمثيل (محاكاة الواقع)

·        أجساد تعبر عن الانفعالات والتفاعلات

·        تماهي

·        إيهام المسرحي

الممثل في مسرحا ما بعد الدراما هو مؤدي: فهذا لا يحاول بناء شخصية أو محاكاتها، بل يتموقع عند ملتقى قوى ضمن طابع كورالي وضمن آلية ميكانزمات تضم جملة حركاته وأدائه الجسدي. إنه يكاد يكون مجرد حضور للشخص بعد أن تخلص من الشخصية، أو مجرد مسابقة تحمل صوتي وجسدي (بوليش  Polesch وكاستورف Castorf ). لم يعد مطلوبا منه النفاد إلى وجدان ومشاعر المتفرج من خلال محاكاة انفعالاته ومشاعره الخاصة أو الإيحاء بها وتقمصها (einfühlung)، بل يجب عليه الخروج من التماهي (ausfühlung)، بحسب العبارة الجميلة روزلت Roselt، ومغادرة مستنقع الانفعالات المصطنعة لكي يستعيد مشاعره الحقيقة، على غرار الرياضي والمغني الموسيقي والمرتل المرنم، والتقني الذي لا يكون في خدمة محاكاة إنسانية أو إيهام مسرحي بل في خدمة لفيف متلفظ.

      3- اللحظة التاريخية لظهور مسرح ما بعد الدراما

في باب البحث عن أصول مابعد الدراما وعن اللحظة التاريخية التي ظهر المفهوم كما الممارسة الركحية، يصعب التمييز بين المفهوم النظري وموضوعه المادي الذي يفترض أنه يقوم بتوصيفه. فتغير الانتاج يٌفسر بأسباب تاريخية، ونظرية ما بعد الدراما لم تكن إلا ردة فعل على هذه التغيرات. ومع ذلك نحتاج من أجل رصد هذه الأسباب إلى ضبط جهاز مفاهيمي دقيق قدر الإمكان.

تمكن ليهمان من ملاحظة هذا التغير في فرجات وعروض شاهدها خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وتحديدا في فرانكفورت (theater am turm) في ألمانيا، وفي هولاندا وفي بلجيكا. تلتحم هذه العروض وتشكل جسدا واحدا متحدا لأن إبداعها جاء ردة فعل ضد مسرح العبث الذي ارتبط أساسا بفلسفة أو بأدب لم تنجم عنهما ممارسة ركحية جديدة، بل إنهما أتخذا مكانهما ضمن استمرارية للدراما ولرمزية الفكر. شكل سمويل بيكيت نوعا من المرحلة الانتقالية بين الأدب الدرامي والممارسة التجريدية غير الرمزية للركح. أما بخصوص الجماليات البصرية الخالصة (مع ويلسون Wilson وكانطور  Kantor، ولاحقا  مع طانغي  Tangui وجانتي  Gentilوغيرهم) فإنها تتأسس كردة فعل بنفس القدر ضد مسرح الفن أو مسرح الإخراج كما ضد الأدب الدرامي.

وبالرغم من ذلك تحافظ هذه الدراماتورجيا في بلدان أخرى مثل فرنسا على بعض الاستقلالية مع تجدد الكتابات والمنشورات المسرحية خلال الثمانينيات(فينافير Vinaver  و كولتس koltès  ونورافينا  Noravina) أو خلال التسعينيات (غابيلي  Gabilly لاغارس Lagarce). بعض منظري الدراما من أمثال فينافير(من خلال خاناته لتحليل المسرح العالمي) وسارازاك (وتصوره للمسرح الإيقاعي الذي يروم التوليف بين الصوت والجسد Théâtre rhapsodique) لا يندرجون البتة ضمن ردة فعل ضد الدراما أو ما بعد الدراما؛ إنهم لا يزالون يتصورون الإخراج كرافعة لتفكيك ونقل وإعادة توجيه النصوص التقليدية المعيارية. وهم بذلك يفسحون المجال واسعا أمام مسرح ما بعد الدراما لعقد تحالفات مع وسائط الاتصال والفنون التشكيلية والعروض الشعبية الفرجوية ومختلف المنوعات. إنهم يحتفظون بثقتهم في عناصر قوة الإخراج في امتداد لما جرى خلال الستينيات والسبعينيات. الأمر الوحيد الذي يتقاسمونه مع مسرح ما بعد الدراما هو نوع من العمى في الالتفات، بل وحتى نوع من اللامبالاة الفاضحة تجاه تجارب التقاء الثقافات واتساع الدراسات المسرحية إلى دراسات الفرجة وإلى دراسة كل العروض  والفرجات الثقافية Cultural Performances.

صادف هذا التطور التاريخي تغيرات في المناهج، وحتى في الدراسات المعرفية، بين 1960 و 1980: انتهت التحليلات الدراماتورجية المستلهمة لبريشت، وانتهت الامبريالية السيميولوجية، وانطلقت البدايات الأولى لما بعد البنيوية. مؤلف أدورنو “النظرية الجمالية”(1970)، أو مقالته “مقال في محاولة فهم مسرحية نهاية اللعبة “، يشكلان معالم أساسية لمن يريد تتبع تطور مسرح ما بعد الدراما؛ فنجد أن فكرته التي تفيد أن الشكل ليس إلا مضمونا مترسبا، تساعدنا على فهم نظرية تطور الأشكال وكذا العلاقة بين الشكل والمضمون. فالصعوبة مع المسرح الدرامي كما يعرفه سزوندي Szondi ، ومع المسرح ما بعد الدرامي كما يعرفه ليهمان، لا تكمن في تمييز وتوصيف الأشكال النصية والركحية، بل الصعوبة تكمن في إدراك وتحليل مضامين عصرنا الاجتماعية والفلسفية التي وجدت لها بأعجوبة ملاذا وملجأ داخل هذه الأشكال المسرحية والدرامية. ويلعب مسرح ما بعد الدراما بهذه الصعوبة لكي لا يبحث عن بناء نظرية، ويتخلى عن رصد وإدراك تلك الرؤى إلى الواقع التي لم  تعد الأشكال المسرحية تستطيع تغطيتها. فهل لنا أن نعاتبه على هذا الأمر؟

هناك سبب أخر، سبب أخير وجوهري لهذا الازدهار غير المسبوق لمسرح ما بعد الدراما في ألمانيا، ومن بعدها في فرنسا ودول أخرى مع أسماء أخرى: فمسرح البحث هذا، المدعوم بقوة من قبل المدن والدول والمسنود بشكل مصطنع، لم يكن ليستمر دون هذه المساعدة. في ألمانيا سارعت المسارح البلدية stadttheater القوية والغنية إلى تبنيه وتقويته ومأسسته. فلذلك مع تراجع الدولة والمؤسسات، يلوح في الأفق خطر اختفائه، أو تحوله إلى منتوج بقابلية أكبر للتسويق والعودة إلى مسرح “في المتناول” أكثر إلى مسرحيات “حسنة البناء”، وفرجة مناسبة لذوق البورجوازية التافهة، أو إلى مسرح شارع ذكي (ريزا Reza وشميتShmith ). لعل هذا الإحياء يرتسم في عدد من العروض الجديدة.

بذلك يكون مسرح ما بعد الدراما قد دخل بالفعل ربما تحت تهديد الخطر، في الوقت الذي بالكاد بدأنا نقدر موضوعيا فضائله ومزاياه دون جهل بما له من مشاكل وتحديات.

        4- مشاكل مسرح ما بعد الدراما وتحدياته

  • بعض المشاكل

منطلق تأملنا هو مشروع بيتر سزوندي Peter Szondi غير المكتمل. ففي كتابه نظرية الدارما الحديثة (1956)، يتعرض سزوندي بالدرس لفن المسرح الاوربي بين 1880 و 1950، ويمضي في شرح تطوره بأزمة الدراما، ثم بمحاولات المحافظة على الشكل الدرامي، ثم بمحاولات البحث عن حل لأزمتها. وفي ختام تقديمه التاريخي السريع، يخمن سزوندي ما يفترض أو ما يمكن ان يكون عليه “أسلوب جديد”. ويسجل أنه في منتصف القرن العشرين، صار الشكل المسرحي مشكلا، بل وحتى التقليد المسرحي نفسه، “حتى أنه في حال البحث على إعادة إبداع شكل جديد، غدا من الضروري البحث عن حل  ليس لأزمة الشكل المسرحي فحسب، بل وكذلك لأزمة التقليد المسرحي برمته[14].  ويقصد سزوندي ب”التقليد” الأداء وطريقة التمثيل التي نقلت من خلال التراث؛ ثم ينتبه إلى أن مسرح المستقبل يجب التنظير له ليس فقط كنص مسرحي ولكن كممارسة ركحية. والحال انه لم يعد اليوم تقليد محفوظ ولا نموذج عام ولا أسلوب أداء موحد؛ لان الطريقة الجامدة في الأداء اختفت تحديدا مع ظهور الإخراج حوالي 1880، ومع ظهوره في شكل متجدد، ما بعد تقليدي، بل وحتى ما بعد حداثي، حوالي سنوات ما بين 1950 و 1960. ومن باب أولى مع ما بعد الدراما لم يعد هناك أي تقليد أداء وتمثيل الأدوار حتى تضمن أي  نوع من الثبات والاستقرار. فالإخراج ليست مجرد تقدير لباس على الطريقة الكلاسيكية، لقد صار محددا في إنتاج معنى العرض. الإخراج ما بعد الكلاسيكي، أي إخراج ما بعد كوبو Copeau، الذي لا يتردد في تحويل النصوص إلى وجهة أخرى وإزاحتها عن مركزها، يصير ممارسة محملة بالمعنى ومستقلة بذاتها متمتعة بكامل حقها في هذا الباب، وطريقة لصناعة وإداء وإفهام المسرح : لا يقول مسرح ما بعد الدراما غير هذا، إلا أنه لا يدرس بالتفصيل،إلا لماما، أنماط الإخراج أوالياته.

على كل حال فإن عامل التغير في الإخراج هو الذي يجعل المسرح يتطور، ولم تعد التغيرات في الكتابة المسرحية، أو على الـأقل لم تعد تدفع لوحدها التطور كما كان الحال حتى منتصف القرن الماضي. منذ ذلك الوقت لم تعد للكتابة المسرحية من معنى إلا في إطار ارتباطها بالركح، وبالإخراج باعتباره إنتاجا وضبطا للمعنى، وباعتباره امتحانا واستغلالا للممكنات النصية الكامنة أو للممارسات الخارجية التي ينعشها الممثل والمخرج وكل المتعاونين. 

  • تحديات عديدة

يجعلنا مسرح ما بعد الدراما امام تحديات تمثل في ذات الوقت عناصر إحباط:

التباين والاختلاف hétérogéneité : يتداخل الدرامي والركحي بشكل بارز؛ ينتج عن هذا موضوع فني، ومفهوم نطري (ما بعد الدراما) متباين التكوين إلى حد ما لكن تتم ملائمته مع الأعمال والعالم المألوف. ليس ثمة أية نظرية للأجناس المسرحية بإمكانها ضم كل هذه العروض والفرجات.

لا يتم تعريف مختلف عروض (Performances) ما بعد الدراما من خلال هوية أو مميزات وخصائص مشتركة، بل من خلال ممارسات ركحية واجتماعية مختلفة اختلافا جذريا. ليس العرض/التمثيل هو المجموع المتباين للفنون والمواد والخطابات فحسب، بل هذه العناصر نفسها متباينة وغير دقيقة ومحددة: “إن هذا التدخل للفنون الخارجية يشكل جزءا من هذا النزوع المتشطي الذي ينخر الشكل المسرحي الدرامي”[15]

الموضوع الفرجوي أو الإنجازي هو موضوع لا يمكن إدراكه ورصده: من المستحيل التمييز اليوم بين النص المسرحي والإخراج، وبين الإبداع الجماعي المشترك devised theatre ، والنشاط السياسي أو النضال، دون ذكر آلاف العروض الثقافية المنتشرة عبر أقطار المعمور.

مسرح ما بعد الدراما لا يقيم الفرق بين مسرح النص والمسرح الذي لا كلام فيه؛ بل الفرق المفترض هو بين النص الموجود سلفا من أجل إنجازه وإخراجه كما هو، والنص الذي ينتج خلال التمارين المسرحية من قبل فريق المسرحية الذي يؤطره إلى حد ما قائد فريق آو لنقل المؤلف، آو هو كلاهما معا (تقنية  مسرح الإبداع الجماعي المشترك devised theatre). يتعلق الأمر بعد ذلك بتأمل وضع النص ووظيفته في الإخراج.

النص وتحليله يحتاجان لإعادة التقييم: يجب ملائمة أدوات الكتابة المسرحية الكلاسيكية، وليس الاكتفاء بعكسها؛ كما أنه ليس من المناسب الخلط بين المستويات: فالنص المسرحي ليس هو الحكاية ولا السرد ولا المحلمة ولا الرواية. فالصعوبة القصوى والرئيسة تكمن في فهم الرابط الذي يربط الأشكال المسرحية الدرامية، أو ما بعد الدرامية، بالواقع؛ لأننا نشهد ، كما يذهب إلى استنتاجه على حق ليهمان، “هوة لا تفتأ تتسع بين الشكل المسرحي والواقع الاجتماعي”[16] . لكن هل ما زلنا قادرين على إقامة ربط بين أشكال الكتابة المسرحية أو الركحية وبين تحاليلنا للواقع؟

هذه التحديات التي طرحها ورفعها مسرح ما بعد الدراما تؤشر على كل حال على أن المشاكل التي أثارها ليهمان هي مشاكل حقيقية، وأنها تضاف إلى كل الأسئلة التي تطرح بخصوص المسرح المعاصر. ولو أقمنا الربط بين مفهوم ما بعد الدراما ومفاهيم ما بعد الحداثة والتفكيك (وهذا ما لا يمضي بالتأكيد في اتجاه ما ذهب إليه ليهمان)، سنكون قادرين على تأكيد بعد طروحاته واختباره على ضوء التفكيك.

لن نجد باقة مفاهيم تلائم التجارب الركحية وغير الركحية الجديدة لما بعد 1970 : لا البنيوية و لا السيميولوجيا ولاجمالية التلقي. فبما أن العمل ذاته متشظي ومفكك وغير مكتمل، لم يعد المتفرج والمنظر يمتلكان مفاهيم وأدوات تكون في ذات الآن شاسعة ودقيقة. فالأمر الوحيد الذي  بإمكان مفهوم ليهمان لما بعد الدراما أن يقوم به هو اللجوء بطريقة دقيقة وانتقائية إلى مفاهيم يستعيرها من فلسفات دريدا وليوطار ودولوز وبودريار ورانسيير. فهو يشتغل غالبا من خلال إقامة تقابلات بين المفاهيم : الحدث والوضعية؛ والإرداف  والتراتبية؛ العرض والحضور، وغيرها. فهذه المفاهيم المتقابلة والمتناقضة تساعده على تنظيم كتلة الملاحظات والتحقق من ثنائية الدرامي وبعد الدرامي. هذا التوزيع الثنائي يبقى مع ذلك مختزلا في تفسير ظواهر تنفلت من ثنائية محسومة.

  • نحو إخراج ما بعد درامي وتفكيكي؟

غالبا ما يشير ليهمان ويحيل إلى تفكيكية جاك دريدا دون أن يبرز الفرق بوضوح بينها وبين تصوره الخاص لما بعد الدراما. والحال أنه يظهر من الضروري إقامة التمييز بينهما، وإن كان صحيحا أيضا أن مسرح ما بعد الدراما والتفكيك، عند ليهمان كما عند دريدا، يتميزان عن فكر ما بعد الحداثة تميزا بارزا.

يمكن تعريف التفكيك على أنه الطريقة التي يتم فيها تشكيل الإخراج تارة، وتفكيكه تارة أخرى، أمام أعيننا. إنه يرصد وينتج تشظيه الخاص، ويبرز تنافر عناصره وتناقضاته وانزياحه عن المركز. تفصيل واحدمن تفاصيل العرض يمكنه أن يفكك البنية السردية الكبرى ويخرب كل إدعاء للإخراج بقدرته على تمثيل العالم وبناء الشخصيات. إن الأمر يتعلق هنا بعمليات على مستوى المعنى وليس فقط تقنيات أسلوبية سطحية. وهنا يكمن الفرق مع ما بعد الحداثة التي تتميز بميولها إلى خلط اللهجات والأجناس ومستويات الأسلوب، وإلى هجنة الأشكال وتناص يدفع به إلى أقصى الحدود.[17]

بعيدا عن النماذج التعليمية، من قبيل تمارين فيتز  Vitez، وأعمال ووستر كروب Wooter Group، وحصص كاتي ميتشل Katie  Mitchell في التصوير على الخشبة (Some Trace of Her, 2008)، وإخراج أعمال شكسبير من قبل جان ديكورت Jan Decorte خلال الثمانينيات أو من قبل جان لاوورس Jan Lauwers خلال التسعينيات أو حتى إيفو فان هوف Ivo Van HOVE  سنة 2007 (Tragédies romaines)، والإعداد المسرحي لروايات بروست Proust وماسيل Musil من قبل غي كاسييه Guy Cassiers، لا نجد إلا القليل من نماذج التفكيك في المعنى الدقيق للكلمة  التي تقدم نفسها على أنها تنخرط في هذا المنحى الفلسفي الذي ألهمه جاك دريدا. لكنه مع ذلك هناك بعض الأسس تتكرر في غالب الأحيان مما يمكن مجموع التجارب من هوية متينة:

إزاحة الإخراج عن المركز: لم يعد هناك أي خطاب شامل ولم يعد خطاب إخراج، أو على الأقل لم يعد بارزا وصريحا. لم يعد المخرج هو صاحب العمل والفاعل المركزي التي يضبط كل شيء؛ ولم يعد الممثل والفرقة بأكملها والتقنية والميديا مجبرين على الخضوع للفنان الإله خالق العمل démiurge.

انشطار الإخراج الكلاسيكي للعصور الماضية والذي يرجع إلى تشظي الموضوع، يتم تفسيره بطريقة العمل الجديدة “الإنتاج المشترك الجماعي “Collaborative production و”التلقي المشترك الجماعي” Collaborative reception ، كما يسميه باشنر[18].

إبراز السيرورة للعيان، فالتقديم الأدائي لحدث ما يحل محل كل تمثيل وكل تجسيد، وأحيانا محل كل بناء معنى.

كل إخراج، ومن باب أولي كل إخراج تفكيكي، يمثل “شعرية للازعاج” [Poetik der Störung[19، وهو ما لا يستبعد مع ذلك فكرة الضبط.  

 العودة إلى الإخراج

إذا كان تفكيكية ديريدا تزود مسرح ما بعد الدراما بعدة مفاهيمه فإنها تشجع أيضا التعويمات الفلسفية وتفارق واقع التحليل المادي للعروض. فكتاب ليهمان وأفكار تلامذته والفنانين الذي يعتبرون أنفسهم من مسرح ما بعد الدراما ستغتني لو عادت إلى توصيف العروض بدقة وتقنية أكبر، ولو أعادت التركيز على مفهوم قديم هو الآن على وشك أن ينسى أو يهمل جانبا: إنه الإخراج. ذلك أن الإخراج ما يزال المجال الوحيد الذي تتواجه فوق ساحته النظرية والممارسة؛ وهو كذلك ما يسمح باختيار أمثلة ونماذج مسرح ما بعد الدراما، وتدقيقها وتصحيحها.

إلى جانب الإخراج بمعناه الأوربي، يلزم أخذ الإنجاز مفهوما وممارسة بعين الاعتبار واستثمار المقابلة بين النموذجين[20]. فهذان النموذجان الاستبداليان يهيكلان المجال الدولي للعروض والفرجات، وبالضبط العالم الأوربي اللاتيني والعالم الانجلو امريكي الأنجلوفوني: هذان العالمان ما زالا يجهلان بعضهما بعض الشيء. ومع ذلك فالطريقتين المختلفتين، بل المتناقضتين في النظر إلى المسرح وفي تحليله، تلتقيان في إطار ممارسة هجينة: ألسنا نتجه نحو نوع من صناعة الأداء، أو إخراج الأداء؟

فمسرح ما بعد الدراما الذي يريد هجرة المحاكاة لفائدة الأداء الخالص، من خلال تركه للحكاية والقصة والأحداث والشخوص، يجد صعوبة كبيرة في فرض نفسه. فالإحالة  إلى الذات autoréference تنزف، والمحاكاة تعود والشخصية تنبعث من رمادها. بالإضافة إلى أن نظرية ما بعد الدراما لم تعمق كثيرا أفكارها بخصوص الأداء، ولم تأخذ بالحسبان الأبحاث المنجزة عن الادائية performativité  خلال السنوات ما بين 1990 و2010، وبالخصوص من النزعات النسوية المختلفة لجوديت باتلر Judith Butler وإليزابيت غروسز Elisabeth Grosz. والحال أنه من المفترض أن تسمح مسألة الهويات بكل ألوانها من حصر الطريقة التي تصنع وتجسد بها كل عناصر فرجة أو عرض ما.

من خلال تقريبنا وربطنا الجمالية العامة لمسرح ما بعد الدراما بالتاريخ الحديث للإخراج، ألسنا بصدد ترسيخ أسس نظرية إخراج تفكيكية (أو ما بعد درامية)؟ لكن بشرط السهر على المهمات التالية:

أرخنة الممارسات الركحية وربطها بسياقاتها وتنسيبها وإدراجها بوضوح ضمن مجموعات كبرى، مثل نظرية الوسائط آو الممارسات الثقافية.

تحليل استراتيجياتهما تراكيبها وقيمتها الجدالية وبعدها الثقافي. ويجب أن لا ننسى انه في كل سياق ثقافي ولساني، يكون تحديد نماذج ما بعد الدراما وتقييم مسرح ما بعد الدراما مختلفا. لذلك نجد العلاقة بالنص الكلاسيكي تختلف اختلافا كبيرا بين هولندا وفرنسا وانجلترا.

تحديث الأمثلة والنماذج التي تعود إلى 30 سنة بل وحتى 40 سنة خلت، والتي حللها ليهمان قبل 20 أو ثلاثين سنة. فالممارسة تطورت والتجارب تنوعت، رغم أن بعض الفنانين مثل ريميني بروتوكول Rimini Protokoll ينسبون أنفسهم إلى ما بعد الدراما، بينما يحتفظون آخرون  مثل  اوسترميير Ostérimeier ببعض المسافة عنها: “المسرح ما بعد الحداثي يوافق عصر انحطاط وإشباع صار اليوم في عداد الماضي. فذلك المتفرج الذي كنت في بداية التسعينيات في برلين كان قد بلغ عنده السيل الزبى مع استهتار  المسرح الذي يقام مثلا على طريقة مسرح فولكسبوهن في برلين، والتي كانت تقدمها الكتابة النقدية على أنها تفكيكية النزعة وأن كبرى المرويات لم يعد لها ما تقوله لنا.”[21]

ألا يمكن أيضا تجاوز ثنائية الدرامي وما بعد الدرامي ؟ إننا أبعد ما نكون عن مقابلة المجابهة القائمة بين الدرامي والملحمي كما ظل بيرشت ينظر إليها حتى عشرينيات القرن العشرين، في إطار المقابلة الأفلاطونية بين المحاكاة mimèsis والحكاية diégèsis. قد تتضمن ما بعد الدراما حينا عناصر درامية وحينا آخر عناصر ملحمية، واقعية آو ممسرحة. إن المقابلة بين الرفض الحديث للمسرحة théâtralité وقبول ما بعد الدراما لها لم يعد لها أي أساس: فنفس العرض يمكن أن ينتقل دون تردد من هذا إلى ذاك، اعتبارا لمبدأ الهجنة ما بعد الحداثي.

هنا نزعة ثنائية مشابهة وقابلة للتجاوز كذلك وهي تلك التي تقابل بين الأسلوب  الواقعي (الذي يخفي كل علامات التمثيل آو التصوير) والأسلوب الممسرح (الذي يشدد على إبرازها). مخرج مثل شيرو Chéreau يقوم بتداول لحظات نفسية ولحظات غاية في التمسرح، منمقة ومطردة.

خلاصات عامة: نموذج الكتابة المسرحية

مع نهاية فترة تميزت باختفاء فنانين يستحيل تعويضهم من أمثال كانينغهام Cunningham وباوش Bauche وغروبر Grüber وزاضك Zadek وغوش Gosch وشلينغنسيف Shlingensief، هل نكون قد دخلنا في عهد جديد، عهد ما بعد ما بعد الدراما؟ وهل يمكن الخروج من ما بعد الدراما؟ أوليس الأمر لا يقل صعوبة عن محاولة المرء القفز على ضله؟ هل سنخرج من ما بعد الدراما لنعود إلى الدراما؟ هذا أمر لا يرجح!

من المفيد أن نعود في الختم إلى السؤال الذي يضمره مصطلح ما بعد الدراما عندما نفهمه حرفيا: أي كتابة وأي دراماتورجيا بعد الجنس الدرامي؟

إن الحديث عن كتابة معاصرة ما بعد درامية لا يتضمن على الأرجح أي معنى كبير، أوعلى كل حال فهو لا يتضمن دقة كبرى، على اعتبار أن أغلب الكتاب قد انخرطوا وتشربوا نزعات ما بعد الدراما الكبرى المضادة للنص، مع احتفاظهم بنصوص قابلة للقراءة، لا بمعنى أنها قابلة لفك شفراتها، بل بمعنى قبولها للنشر كما هو الحال بالنسبة للأدب الدرامي. فكولتيس مثلا قد أدخل في كتابته بشكل جزئي الجمالية الركحية، ذلك الخليط بين الأصالة المحاكاتية والصنعة المسرحية لمخرجه شيرو الذي بدوره تمكن من رصد هذه الثنائية في الكتابة التي لم يدركها مخرجون آخرون بين سنوات 1980 و2000 بحيث جعلوا من نصوصه وثائق واقعية عن شباب الهوامش. هذه الدائرية في الكتابة وفي الإخراج صارت أمرا متكررا ومألوفا في الإنتاج المسرحي، ليس فقط في مسرح الإبداع الجماعي المرتجل devised theatre -وهو مسرح يتم تصوره خلال حصص الارتجال وورشات العمل بلا نص وبلا سيناريو مشاهد مسبق-، بل  في طريقة المزاوجة بين الكتابة والإخراج: فمؤلف مثل فالك ريشتر Falk Richter في اشتغاله صحبة سطانيسلاس نورداي Stanislas Nordey ، يكتب ثم يجعل نصه يٌلعب بعد ترجمة مباشرة، قبل أن يعيد كتابة بعد الفقرات وتسليمها مباشرة للمترجمة ثم للمخرج ثم للممثلين.

مثل هذا التداول يدوم طالما سمحت به شروط الإنتاج وصبر الفنانين، وهي تعيد التأكيد على التداخل التطبيقي والنظري للنص والأداء، وتحيلنا إلى التفكير في أواليات الإخراج، وتذكرنا –ثانويا- أن النص الذي كنا نسميه قبل 30 آو 40 سنة “النص المسرحي الذي لم يعد دراميا” (عنوان كتاب بوشمان المنشور 1997)  قد عاد وصار “نصا درامياّ”، حتى لا نقول نص “ما بعد ما بعد الدراما”. بعد مرحلة “انحسار تمثيل (الواقع)”[22] عادت النصوص، من دون أن تغدو مبنية بناء جيدا، تحكي قصصا وتمثل عناصر من الواقع وتحتمل أفعال شخوص. هذه العودة لا علاقة لها بإحياء رجعي للماضي، بل هي بكل بساطة الوعي بأن كل عمل أو خطاب إنساني يحكي دائما شيئا ما. المسرح، وبالتحديد المسرح  المعاصر، هو بحسب عبارة سارازاك “مسرح إيقاعي” Théâtre rhapsodique، وهذا النعت “مرتبط بالمجال الملحمي: أي بمجال أشعار وسرود هوميروس، وفي نفس الوقت بطرائق كتابة مثل المونتاج والتهجين والترقيع والكورالية” [23].. لنطبق إذن هذا المفهوم على الإخراج برمته وسنجد أنفسنا على مستوى ما بعد الدراما.

ويظل الفرق مع ذلك أن نظرية النصوص المعاصرة وخصوصا طريقة تحليلها ما تزال في حاجة إلى بناء. هذه النظرية التحليلية عليها إدراج معايير الجنس الدرامي ومعايير ما بعد الدرامي؛أما أدوات التحليل مثل الكاتب المسرحي والحبكة والحكاية والايدولوجيا فتبقى صالحة، ولو من باب استنتاج غيابها وتحولها.[24]

هل يجمد اليوم مسرح ما بعد الدراما تطور الدراماتورجيا والكتابة بسبب معاييره الجديدة وعقائده الجديدة؟ بالنسبة لسارزاك، الجمود حاصل لأن ما بعد الدراما يجهل الكتابة المسرحية وتطورها الداخلي اللازم الذي لا يخضع لإكراهات وطوارئ الركح؛ وهو يمني النفس بردة فعل ضده ويواجهه باستعادة المجال المحتل: ” فهذه اللحظة -وهي نقيض الإحياء- حيث الدراما تعيد تأسيس نفسها وتستعيد حياتها تحت تأثير مسرح صار هو الغريب بالنسبة لنفسة”[25]. هناك فعلا خطرا حقيقيا محدقا ألا وهو الانقلاب التام في علاقة النص-الركح. فهذه العلاقة التي ساد فيها في الماضي النص ومركزية الحوار، قد وجدت نفسها تحت مركزية الركح في ما بعد الدراما تخضع كاملة للخشبة والممارسة الركحية، بشكل لا يتيح للنص أي فرصة لكي يٌقرأ ولا أن يحرره كاتب مسرحي بعينه. لم يعد سيد العملية هو المخرج الذي يوصف أنه مفرط في نزعته مركزية الحوار، بل السيد الجديد هو كاتب الركح والخشبة المفروض في نفس الآن أنه مخرج ومبدع للنص والمشهد متحدين؛ هو بالتالي كائن هجين، رياضي مكتمل للخشبات والصفحات، الذي يعيد كتابة نصوصه على ضوء الخشبة وتحت أضوائها الكاشفة.

كتابة خشبة المسرح هذه التي تمضي لتصير أن معهودة ومألوفة، إن لم تكن هي المهيمنة على مسرح البحث، تشبه مسرح ما بعد الدراما كما تشبه قطرة الماء نظيرتها. فالفكرة هي أن الإبداع ينطلق من الركح وانطلاقا من اشتغال فعلي مع الممثلين في فضاء وزمان ركح حقيقيين؛ بهذا المعنى، تكون كتابة الركح هذه ( ولعل هذه التسمية ليست للأسف دقيقة كثيرا، لان الأمر لا يتعلق لا بكتابة ولا بخشبة مسرح تقليدية) موافقة للتقليد البريطاني لمسرح الإبداع الجماعي المرتجل والذي له هو كذلك ذلك الميل السيء إلى الهيمنة على الأشكال الأخرى لمسرح البحث وسلبها استقلالها، وبالذات الكتابة المسرحية ومسرح المخرج المستوحى من التقاليد الأوربية. في العمق، تلتقي التجارب الثلاث، مسرح ما بعد الدراما ومسرح الابداع الجماعي البريطاني ووكتابة الخشبة لتتجنب تقاليد الإخراج الفني، إن لم تكن لتقوم بتصفية هذا المسرح القائم أساسا إعادة قراءة النصوص المسرحية، الكلاسيكية في غالبها. بما أن المسارح البلدية الألمانية stadttheater لا يمكنها التخلي بسهولة عن الذخائر الكلاسيكية التي يطالب بها جمهور تقليدي من البورجوازية الصغيرة، فإنها تقوم بإدماج أبحاث ما بعد الدراما من خلال تطبيقها بطريقة آلية من قبل مخرجين مرتبطين بالمسرح أو مدعوين للعرض فيه.  حصل هذا في الماضي مع روبيرت ويلسن، وحاليا مع طليعيين سابقين لما بعد الدراما على غرار جان لاورس، وجان فابر، ولاك بيرسيفال أو دالهايمر. فذات تلك البنى القوية والمرسخة في المانيا كما في غيرها، التي  شجعت أشكال ما بعد الدراما في بداياتها خلا سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، هي ذاتها اليوم على وشك استعادتها وموالمتها وتسويقها والإنتهاء منها بكل معاني الإنهاء. يرجح أن يكون مستقبل المسرح كامنا في أنظمة الدعم أكثر من ابتداعه لأشكال جديدة، درامية كانت أم ما بعد درامية.

وبفضل أفكار ليهمان وتلامذته وأفكار عدد من الفنانين اليوم الذين يعتبرون أنفسهم من مذهبه عبر أرجاء العالم، تمكن مسرح ما بعد الدراما من تحقيق حسنة تشكيل تيار حي ومخلاق في المسرح العالمي، طبعا مع كل أشكال التناقض وغياب الدقة التي تميز عصرنا ومع نزعة شك بقدر ما تزدري عقائد الماضي ووعود المستقبل المستسهلة بقدر ما هي يائسة منها. إن مسرح ما بعد الدراما أبعد ما يكون من البوح لنا بسره المكنون: فلا هو أسلوب ولا هو نظرية ولا منهج؛ إنه حيلة لتحويل التناقضات التي يضيق عليها الخناق إلى وجهة أخرى. لذلك فاستمراره أو اختفائه لا يتعلقان البتة بعودة الدراما أو بكتابة كلاسيكية جديدة، بل بتعزير كتابة لم تقطع كل حبال الرسو مع الفن والأدب الدرامي. لم يدع أحد أن الدراما قد قالت كلمتها الأخيرة في معركتها ضد ما بعد الدراما.

[1]  Hans-Thies Lehmann: Postdramatisches Theater. Verlag der Autoren, Frankfurt am Main 1999

[2] Hans-Thies Lehmann ,Das Politische Schreiben. Essays zu Theatertexten, Verlag: Theater der Zeit November 2002)

[3] مذكور في:

Christel Weiler: Postdramatisches Theater. In: Erika Fischer-Lichte et.al. (Hg) Metzler Lexikon Theatertheorie. Verlag J.B: Metzler Stuttgart, Weimar 2005 : 245–248

[4]    The Drama Review, 52 :2 (T198) ;pp 178-183

[5]  How We Became Posthuman: Virtual Bodies in Cybernetics, Literature and Informatics, (Chicago: The University of Chicago Press, 1999

[6]  Hans-Thies Lehmann: 1999:451

[7]  Hans-Thies Lehmann: 1999:453

[8]  ,Hans-Thies Lehmann, Contemporary Drama in English, Volume 14, Wissenschaftlicher Verlag Trier, 2007 :44

[9]  Hans-Thies Lehmann: Postdramatisches Theater. Verlag der Autoren, Frankfurt am Main 1999 :19

[10]  بحسب جيرزي ليمون Jerzy Limon فإنه من المفترض أن يكون لمسرح ما بعد الدراما سلفا قديما، لكن سلف مؤكد يتمثل في تمثيليات القناع في بداية القرن السابع عشر، راجع:

 « Performativity of the Court: Stuart Masque as Postdramatic Theater Jerzy Limon », The Return of Theory in Early Modern English Studies (Paul Cefalu, Bryan Reynolds eds.), Palgrave,London, 2011

[11]  Martin Puchner, Modernism, Anti-Theatricality, and Drama JHU Press, 2002 – p.5

[12]  J-P. Sarrazac, Études Théâtrales, n° 38-39,2007 : 9.

[13]  اعتمادا على جون غوسيلت:

Jens Roselt,In Ausnahmezuständen – Schauspieler im postdramatischen Theater”.. Text und Kritik, 2004, pp. 166–176

[14]    Peter Szondi, Théorie du drame moderne 1880-1950, Lausanne, L’Âge d’homme, 1983 :135.

[15]  J-P. Sarrazac,Études Théâtralesn° 38-39,2007 : 16.

[16]  ,Hans-Thies Lehmann, Contemporary Drama in English, Volume 14, Wissenschaftlicher Verlag Trier, 2007 :41

[17]  Pavis, 2007 :159-160.

[18]  Martin Puchner’s Stage Fright: Modernism, Anti-Theatricality, and Drama,JHU Press, Jul 31, 2002 :176

[19]  Lehmann,1999 : 266

 [20]  Pavis,la Mise en scène contemporaine,2007 :43-71

[21]  Thomas Ostermeier  ,introduction et entretien par Sylvie ChalayeActes Sud-,. 2006 :53

 Lehmann, 1999 [22]

Lexique du drame moderne et contemporain. Editions Circé, , 2005, :183-184 [23]

 Pavis, le théâtre contemprain, Nathan, 2002[24]

[25]  J-P. Sarrazac, Études Théâtrales, n° 38-39,2007 : 17

شاهد أيضاً

مهرجان طنجة المشهدية يكرم سليمة مومني وعبد العزيز الخليلي في افتتاح دورته 18

منذ أولى دوراته، ومهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية، يحتفي برموز الفرجة وفنون الأداء، إن من …

“الجسد الفرجوي”: محور نقاش الدورة 18 لمهرجان طنجة للفنون المشهدية طنجة، 26-30 نونبر 2022

يُنهي المركز الدولي لدراسات الفرجة، أن فعاليات الدورة الثامنة عشرة من مهرجان طنجة الدولي للفنون …

التقرير الأدبي 2017-2021

  كلمة لا بد منها 1. مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية (من 2017 إلى 2021) …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *