الفرجة هنا والأن، عنوان المحاضرة الافتتاحية الأخيرة التي قدمها المفكر الهندي روستوم باروشا في دورة فرجات الشارع والأمكنة الأخرى (الدورة 16 من مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية). ففي الوقت الذي سدت المسارح أبوابها، وعندما تم توقيف كل الإنتاجات والخشبات بشكل غير محدد، يقول باروشا: “إلا أن هذا لم يوقف نوعا آخر من الأداءات على أن تتحقق في الشارع والساحات العمومية، هذه الأداءات العمومية يمكن عدها تجمعات؛ إذ أنها تَلُمُّ الناس ما وراء الحدود الفضائية، حيث طوبوغرافية الامتدادات الحضرية يجب تمييزها عن جمهور آخر يجتمع لكي يقوم بفعل المشاهدة لمنتوج على خشبة المسرح”. ويضيف قائلا: “فعلى مستوى التجمعات السياسية من البدهي أن لا نحتاج إلى أي تذكرة للمشاركة في الحدث، الناس من مرجعيات متعددة يلتئمون مع فجائية لحظية لحركية ذات طبيعة قطيعية، من دون أي اتجاهات يوفرها حزب سياسي معين، من دون إعداد لأي نبس بالكلمة أو إرسال أي رسالة قصيرة، للجهر جماعيا باحتجاجاتهم السياسية أمام أي جريمة أو فعل شنيع، أو ظلم، والتي تتطلب اهتماما على الهواء والآن”.
باروشا في محاضرته هذه، قارن بين المنتوج المسرحي الذي يتم التدرب عليه وإنتاجه فوق خشبة المسرح، ومنتوج الاحتجاج هنا، الذي يتم إنتاجه في الحين وفي عين المكان، معتبرا أن العدالة عندما تظهر بشكل سريع حين يجتمع الناس في مكان ما بعدد ما بين 5000 و10000 فإن المجموعة أيضا لها القدرة على الاختفاء، ولكنها دائما تعيش على آثاراها وعلى محفزات الذاكرة، التي يمكن أن تلتقي قي المستقبل الذي يمكن أن يكون غدا أو الأشهر القادمة بعد ذلك موضحا أنه من خلال الالتئام مع هذه التجمعات في الربيع العربي، مثلا، والتي تشغل الاهتمام في شارع وول ستريت والإدماج المبكر لحيوات السود التي تعني الشيء الكثير فإن جوديت باتلر تقوم في كتاب “ملاحظات نحو نظرية أدائية في التجمع” بتحليل يفترض[….] أن هناك عوامل متعددة تؤشر على مجموعة من الاختلافات، في مواجهة العنف الذي يحتجون ضده والافتراض المساوق للحق في التجمع الحر، حتى عندما تكون هذه التجمعات مهددة بتدخل الشرطة، فبالإضافة إلى إثارة الانتباه إلى الطابع المؤقت لهذه الاحتجاجات فإنها باتلر تؤشر أيضا حول مفهوم السيادة الشعبية في مواجهة الديمقراطية السياسية التي تحددها الدولة، من خلال الاستدعاء الرسمي للسؤال: ما الذي يشكل الديمقراطية الحقيقية والجوهرية؟
وفي معرض حديثه، أشار باروشا إلى أن هذه هي الأسئلة الحقيقية للديمقراطية، وإلى أننا بتنا نلاحظ أن الديمقراطيات يتم اختطافها. وأن الناس عبر العالم فهموا ما تعنيه الديمقراطية الحقيقة، كما يؤطر ذلك تنظيرها الفلسفي لمفهوم التجمعات في فهمها اللغوي لمفهوم الأدائية حسب جودت باتلر التي تعترف بأن تنزيلات الاحتجاجات تتجاوز الأطروحات التي تؤكد عليها، وعلى حد تعبيرها فهي أدائية سياسية تشمل وتتجاوز الملفوظات الشفهية والمكتوبة للاحتجاجات.
إن هذا التدخل حسب باروشا هو عموما ما يأخذه الدارسون في مجال المسرح على أنه بدهي لا يحتاج إلى حجة، وخصوصا الحق في الظهور وفي الحضور الكلي على نحو فيزيقي في فضاء يكون فيه حق المطالبة بالحق في العدالة ليس فقط مسموعا لكن مجسدا ليس فقط قبل إسماع الصوت، ولكن مجسدا أيضا في فعل إسماع الصوت أو ربما مجسدا بشكل مستبصر، تؤكد باتلر على نقطة هامة على أن الجسد ليس كيانا مميزا بشكل فريد، بل ينبغي فهمه في إطار شبكته الداعمة من العلاقات، حتى وإن كانت الشعارات التي تحيط بحركات الاحتجاج التي عادة ما يتم بنينتها على أساس ضمير الأنا، ف”أنا” ليست بناء ذريا ما دامت أن العلائقية الاجتماعية مضمرة بشكل أكثر نقدية، باتلر تثير انتباهنا إلى شعار متكرر ومضمر، وإلى حد ما موحِّد لأشكال التباين التي تسم تلك التجمعات والتي تتمظهر في تعبير “نحن الشعب”. وقد كانت هذه هي الصرخة المهيمنة لحركات الربيع العربي التي كانت تظهر في حجم الناس المشاركين في هذه الاحتجاجات في الساحات العمومية والتي رفعت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”.
هذا وقد استحضر المحاضر أمثلة أخرى، من قبيل حركة العصيان المدني السلمية بنيودلهي (101 يوما) والتي جعلت من مرجعيتها التعبير الحماسي والشعبي الذي تجلى ي شعار “نحن الشعب”، عارضا على سبيل الاشتهاد، شريطا قصيرا للناشط والمؤدي مايا كريشنا راو الذي يرتجل عرضه على أرض حي شاهينباغ بنيوديلهي، حيث يوجد على الشريط بعض الترجمات التي تشير إلى الحماسة الوطنية للعرض الذي يرتكز على ما أطلق عليه رائحة التربة. التربة التي تحتوي على عظام أسلاف المسلمين الهنود جنبا إلى جنب مع الملح الذي رماه المهاتما غاندي على ضفاف النهر خلال احتفال الملح الشهير .
أمثلة أخرى قدمها باروشا خلال هذا العرض، منها ما هو في زمن كورونا أيضا، ليختم محاضرته برجوعه إلى نقطة البداية، وهي أن إغلاق المسارح لم يمنع فرجات مشحونة بشكل خاص ومثيرة من أن تقام على الفضاءات العمومية. مشيرا في السياق ذاته إلى أن المسرح كفعل وجودي يعيش في فورية زمن وفضاء مقتسمين بين الممثلين والجماهير قد يكون اختفى من على الركح أو الخشبة حيث خطاب المسرح يمكن أن يستمر في العيش بنشاط وفورية في المجال العام.
باروشا وهو ينهي هذه المحاضرة قال على سبيل الختم أنه سيبتعد كثيرا عن الحركات الاجتماعية والسياسية وسأذهب مباشرة إلى المسرح الأكثر هيمنة والأكثر رسوخا، مشيرا إلى إن الفورية في المجال العام كانت انفجارا مفاجئا للتناظر والنقاش حول الشبكات الاجتماعية بوصفها نجاحا عظيما لشركة معقل المسارح لهاملتون للإنتاج ، فعندما كانت تشتغل في معقل المسارح بنيويورك سأتخيل أن نزرا قليلا من الأمريكيين ذوي الأصول الافريقية الذين يعيشون في حاضرة نيويورك سيكونون قادرين على شراء تذكرة بأي ثمن بين أربع مائة و ألف دولار الذي قد يكون دخلا شهريا لبعض العائلات. في هذه الوضعية من الخفاء الشامل لمعظم فئات الساكنة، فإن رأسمال شركة هاملتون للإنتاج الرمزي والثقافي والمالي نما باعتباره الأكثر تطورا في مجال المسرحيات الغنائية في تاريخ معقل المسارح بنيويورك بطاقم مختلط الأعراق وهم يمثلون الآباء المؤسسين البيض للأمة الامريكية وبعد ذلك الحتمي الذي لا يمكن اجتنابه هو الذي وقع مع الجائحة، شركة هاملتون وجدت نفسها مرغمة على إقفال أبوابها. ولم تكن مختلفة في هذا الصدد عن هاري بوتر . وبكثير من السخرية كانت في هذه اللحظة الحالكة شركة ديزني تتيح تسجيل مسرحية غنائية من أجل التوزيع على نطاق واسع . بهذا التسجيل يمكن للمرء أن يقول بصدى لويس لخامس عشر بعد فرجة الغرق انس واقع كون التسجيل في حد ذاته كان سطحيا وروتينيا.