“الكتابة المسرحة العربية وأسئلة ما بعد الكولونيالية” للباحث المغربي هشام بن الهاشمي

الكتابة المسرحة العربية وأسئلة ما بعد الكولونيالية”

مقاومة للسلطة بغية الاقتراب من قضايا التاريخ، والهوية، وثنائية الأنا والآخر

للباحث المغربي هشام بن الهاشمي

  • محمد العناز

يسعى الباحث هشام بن الهاشمي في كتابه النقدي الأخير الموسوم بـ “الكتابة المسرحة وأسئلة ما بعد الكولونيالية” (الصادر حديثا عن المركز الدولي لدراسات الفرجة) إلى المساهمة في تقديم تحليل يستثمر منجزات النقد ما بعد الكولونيالي، انطلاقا من نصوص مسرحية قاربها بوصفها خطابا معرفيا.

ويشتمل الكتاب على فصلين مركزيين. ففي الفصل الأول المعنون بـ:”ما بعد الكولونيالية: المفاهيم والخلفيات”، سلط  الباحث الضوء على المفاهيم النقدية التي تشكل لحمة النقد ما بعد الكولونيالي. ويتعلق الأمر بـ: التأويلية الدنيوية، والتمثيل الثقافي، والقراءة الطباقية، والهجنة، واستراتيجية المقاومة، كما حرص على تبيان الخلفيات النقدية والمعرفية التي أتاحت لإدوارد سعيد تأسيس هذا المنظور الجديد الذي يتعامل مع النصوص بوصفها حادثة ثقافية تشتبك مع الخطابات والأنساق الثقافية.

وهكذا خلص الباحث إلى تعدد الخلفيات النقدية والمعرفية التي أسهمت في بلورة إدوارد سعيد لمفاهيمه النقدية التي أسعفته في مقاربة النصوص والظواهر الثقافية. وهو ما جعل نظريته تشبه “ألوان قوس قزح” لمزجها بين مرجعيات تتعارض فيما بينها، كما هو الأمر في جمعه بين “جوليان بندا” و”غرامشي” في تصورهما لدور المثقف من جهة، والجمع بين “غرامشي” المنتمي إلى التيار الماركسي و”ميشيل فوكو” الذي يندرج ضمن خطاب ما بعد البنيوية من جهة ثانية. إلا أن هذا لا يشير إلى اعتماد ادوارد سعيد “التلفيق” بين المرجعيات بدل “التوفيق”؛ إذ لا تتسم نظريته بالفوضى المنهجية. فقد استطاع صهر كل تلك المرجعيات في بوثقة واحدة ترفض الانشطار، لتأسيس مشروع نقدي وازن قوامه المغايرة.

ولاحظ الدكتور هشام بن الهامشي أن الدنيوية مفهوم نقدي ناظم لكل المفاهيم النقدية الأخرى. فإذا كانت الدنيوية تهتم بشكل خاص بعلاقة القوة بالمعرفة والثقافة والهيمنة، فإن نتائجها تؤول لمقاربة الصفاء المزعوم للهوية المؤسسة للتباعد، والفرقة، والانقسام؛ ذلك أن التراتبية الحضارية تفرز عنصرية مقيتة عبر التمثيل الثقافي الذي لم يكن نزيها وبريئا وخاليا من الأنساق الثقافية المضمرة؛ لأنه مسكون برغبة كبيرة في التعرف على الآخرين من أجل إخضاعهم. وانسجاما مع نقد سعيد للمستعمر والمستعمر معا، لم ينتقد التراث الفكري الغربي الذي تبنى رؤية مركزية على قاعدة تنوير الشعوب الأخرى غير الأوربية لتسويغ الهيمنة فقط، بل انتقد أيضا المثقفين المنحدرين من العالم الثالث إما لدعمهم مواقف أوربا أو لإعادة إنتاجهم لمواقفها المتمركزة. وإزاء هذا النقد المزدوج، شدد ادوارد سعيد على التشارك الإنساني الذي تبشر به هجنة الهويات، لتجاوز الانغلاق الحضاري والتحجر الثقافي. كما أن الترابط الحميم بين القوة والمعرفة الذي تكشف عنه دنيوية النصوص، لا يستلزم تفكيكه وفضحه وكشفه فقط، عبر تعرية النصوص وتبيان ما تتضمنه من أنساق مضمرة، بل تجاوز ذلك للانخراط في سرد مضاد ومقاوم يفضح أساليب الكتابة اللاإنسانية لإعادة الاعتبار للهامشي، وهو ما تتيحه القراءة الطباقية وصيغ المقاومة التي لا ينبغي أن تتخذ طابع الانغلاق القومي الذي يضع الأسوار والحدود بين الثقافات.

انتقل الباحث بعد الإطار النظري” إلى دراسة نصوص مسرحية في الفصل الثاني المعنون بـ: “الكتابة المسرحية وأسئلة ما بعد الكولونيالية”؛ حيث قارب هذه النصوص بوصفها نصوصا تنزع إلى مقاومة السلطة بغية الاقتراب من قضايا تتصل بالتاريخ، والهوية، وثنائية الأنا والآخر…. وهي مسرحية “الاغتصاب” لسعد الله ونوس من سوريا، و”بنات النواخدة” لباسمة يونس من الإمارات، و”صمت له كلامه” لعبد الرحمن بن زيدان من المغرب، و”نساء في الحرب” لجواد الأسدي من العراق؛ فقد عدّ الباحث هذه نصوص شكلا من أشكال المقاومة الثقافية التي ترنو إلى الحرية، والعدالة، والكرامة…..

وقد أبرز الباحث في مسرحية “الاغتصاب” بنى الهيمنة التي تتحصن بها الذات الإسرائيلية بهدف تسويغ سلطتها. وفي هذا السياق كشف عن تطابق مقاربة إدوارد سعيد للاستشراق -بوصفه عملا ملموسا من أعمال التمثيل الكولونيالي- مع التصورات الموشومة في المخيلة الإسرائيلية عن الإنسان العربي. ففيها تتعمد الذات الصهيونية إلغاء كل الصور الايجابية التي تميز الذات العربية الفلسطينية، سعيا لإنتاج معرفة مشوهة وتشييد نسق ثقافي منغلق يرفض الحوار، والانفتاح، ويعلي من التفوق والتعالي. لكن رغم تمركز الذات الصهيونية حول الهوية المغلقة الرافضة للتعايش والحوار والمنتشية بالسلطة والقوة، يأمل سعد الله ونوس بنظرة جديدة تتجاوز الارتهان إلى الهوية الدينية أو القومية الضيقة، إذ أوجد في عوالم مسرحيته شخصيات ترفض التصور الأحادي والهوية المتعصبة وتعتد بالتفاعل والتبادل الثقافي المؤسس للهجنة الثقافية. كما هو الحال بالنسبة للدكتور “ابراهام منوحين” الذي مثل نموذج “المثقف الهاويّ”، حين حدد وظيفته في معارضة جنون القوة وحمق السلطة، مع تأييد المجموعات المهمشة التي تتعرض للظلم والإجحاف، أي تلك المجموعات غير الممثلة التي تحاج إلى صوت يمثلها ويعلن وضعها للعالم.

أما موندراما “صمت له كلامه” لعبد الرحمن بن زيدان، ففيها أكد الباحث أن  الصمت يشكل صوتا من نوع آخر، وهو صوت المهمشين والمقموعين الذين أسيء تمثيلهم. ويتعلق الأمر بالمرأة في مجتمع عربي أسس معادلة غير متكافئة قوامها: مركزية ذكورية وهامشية أنثوية. فقد كشفت المسرحية أن المرأة في العالم الثالث رمز فضفاض وضحية للأبوية والأصولية الدينية إلى الحد الذي خضع وجودها للتلاشي. ولذلك فالمسرح حين يقدم النساء مسرحيا باعتبارهن الشخصيات المحورية، فهو يضطلع بدور تقويضي للثقافات الذكورية.

ولأن الكتابة المسرحية النسائية أضحت ـمن جهةـ خطابا ثقافيا يسعى إلى إنجاز قطيعة مع وضعيات تقليدية همشت المرأة، وتندرج ـمن جهة ثانيةـ في إطار ما يصطلح عليه النقد ما بعد الكولونيالي بالرد بالكتابة، فقد كشف الباحث عبر مسرحية “بنات النوخذة”  لباسمة يونس أن المرأة بوعيها النقدي وحسها الجمالي لا تقف عند حدود تعرية النصوص وكشف ما تشمله من أنساق مضمرة تنشد تصنيم المرأة وكبح تحررها، بل تجاوزت ذلك إلى الانخراط الوازن لتشكيل سرد مضاد ومقاوم يعيد الاعتبار للهامشي ممثلا في الذات النسوية. وهكذا أضحى الإبداع النسوي يدرج ضمن انشغالاته الهيمنة الذكورية من جهة وعملية مقاومتها من جهة ثانية، إذ أعلنت الكتابة النسائية عن رغبة ملحة في الخلاص من القهر الاجتماعي لمعانقة الحرية وسط مجتمع تكتم أنفاسه ثقافة سلطوية.

ورام  الباحث في مسرحية “نساء في الحرب” ­استنادا إلى رؤى ادوارد سعيد حول المنفى­ الكشف عن مجابهة ضروب النفي، والشرخ، والاقتلاع، ومقاومة المجهول في ظل الاستبداد الذي يفرض على المرء تغيير بلده طوعا أو كرها في ظل سياق عربي ليس بريئا من العيوب.   فقد شغلت المنفى بال جواد الأسدي واستأثرت باهتمامه إلى الحد الذي يصعب فهم إبداعه بمعزل عن تجربة المنفى. وضمن هذا السياق كشفت المسرحية عن مزايا المنفى في امتلاك المنفي رؤية أقرب إلى العالمية، إذ يمتح من أكثر من ثقافة. وهو ما من شأنه أن يمد المنفي بطاقة تمنعه من التحجر داخل إطار وطني ضيق. لكن المنفي من زاوية أخرى يستبد به الحنين إلى وطنه الأصلي ويأمل في العودة دون جدوى لأسباب سياسية في الغالب. فالعودة لن تتحقق إلا بلورة مفهوم جديد للوطن والمواطنة، يكرس الحريات الفردية ويتبوأ فيه الإنسان المكانة التي يستحقها، وهو مطلب يبدو الشرق بعيدا عنه.

  • باحث مغربي

شاهد أيضاً

“الجسد الفرجوي”: محور نقاش الدورة 18 لمهرجان طنجة للفنون المشهدية طنجة، 26-30 نونبر 2022

يُنهي المركز الدولي لدراسات الفرجة، أن فعاليات الدورة الثامنة عشرة من مهرجان طنجة الدولي للفنون …

التقرير الأدبي 2017-2021

  كلمة لا بد منها 1. مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية (من 2017 إلى 2021) …

عَـرُوسُ الْأَسْـرَارْ… عَوْدٌ عَلَى بَدْء كلمة المبدع محمد قاوتي في افتتاح الدورة 17 من مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية

محمد قاوتي تَرَتَّبَ الصَّبْرُ على كل شيء إلا على وَقْفَة الواقِفِ فإنها تَرَتَّبَتْ عليه حين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *