- ترجمة وتعليق : خالد أمين، وسعيد كريمي
نشهد في الآن نفسه، نجاح وتشظي الدراماتورجيا، ليس فقط الدراماتورجيا بمفهوم الكتابة الدرامية، بل أيضا التحليل الدراماتورجي: أي قراءة وتحضير المنجز من طرف المستشار الأدبي، أو الفني للمخرج، المسمى في بعض الأحيان (دراماتورج) أو Dramaturg. إن تحليقا سريعا في وضعية، ومناهج الدراماتورجيا الحالية، وكذا في تحولاتها الحديثة في عدد كبير من الدراماتورجيات الخاصة، يجعلنا نقف على مشهد غني ومتنوع، بقدر ما هو ملتبس ومتوتر.
I-التحليل الدراماتورجي الكلاسيكي، استئناف وتعمق:
1-شبكة التحليل:
منذ المرحلة البريشتية، وما بعد البريشتية على الخصوص، وإجمالا منذ الخمسينيات بأوربا، بلور التحليل الدراماتورجي منهجية متطورة جدا في قراءة وتأويل النصوص المسرحية، مستفيدا من إواليات الاشتغال الناجعة، والفعالة، للعلوم الإنسانية. فالقيام بتحليل نص مسرحي ما، يقتضي تهيئ اختيارات إخراج مسرحي مستقبلي، سواء تم انجازه، أو لم يتم. وهذا يعني، أنه كان من اللازم الاستفادة من علوم التاريخ، وعلم الاجتماع، والتحليل النفسي، واللسانيات، أو من السميولوجيا. ولكن أيضا، في بعض الأحيان، فرض شبكة قراءة على المخرج المسرحي، قد تبدو مقيدة جدا بالنسبة إليه. من هنا، تظهر أزمة الدراماتورجيا، رغم أنها بدأت تتمأسس في مناح متعددة، باحثة لها باستمرار عن سبل جديدة.
2-سوء الفهم حول الدراماتورجيا
يتجلى سوء الفهم أساسا في الغاية من التحليل، وكذا في دور الدراماتورج. فسوء الفهم، الذي يمكن أن يوصف حتى بالخطيئة الأصلية، والأساسية، والثابتة، يمكن أن يختزل في السؤال الآتي: هل الدراماتورجيا هي شعرية/ إنشائية[2] العمل الدرامي والفرجوي؟ أم أنها تقنية دقيقة وبراغماتية لتحليل نص، وإخراجه عمليا على الركح؟ يبقى سوء الفهم هذا منتجا في نهاية المطاف، ما دام أنه يدفع في اتجاه أن تصير الشعرية العامة، والتحليل الملموس متكاملان. بالفعل، هل بإمكاننا إقامة شعرية، أو دراماتورجية عمل، بنحو تجريدي، دون أن نكون متجذرين في التاريخ؟ وفي المقابل، اقتراح تحليل نص دون استناده بشكل قبلي على نظرية للتأليف؟
3-مسار الدراماتورجيا:
يجب التحليق في تاريخ المسرح لتقييم وظيفة الدراماتورجيا، ومنهج التحليل الدراماتورجي، ودراسة أنماط تمثل كل حقبة للمسرح، ولطرائق تحليله. سننتقل على هذا الأساس، من الشعرية الكلاسيكية الإغريقية، إلى الكلاسيكية الجديدة الأوروبية خلال القرنين السادس عشر، والسابع عشر، ثم إلى الدراماتورجيا النصية، والعرضية، لديدرو Diderot، أو ليسينغLessing ، وبعد ذلك إلى الدراماتورجيا السياسية لبريشتBrecht ، أو بيسكاتور Piscator، لنصل إلى الدراماتورجيا المتشظية في وقتنا الحاضر. ويبقى علينا معرفة ما إذا كانت الأشكال ما بعد الحداثية، وما بعد الدرامية، لا تزال في الآن نفسه دراماتورجية، و”قابلة للدراماتورجية Dramaturgisable “، أي قابلة للتحليل بأدوات دراماتورجية.
4– أدوار الدراماتورجيا:
هل لازال من المفروض علينا التوافق حول الأدوار التي يضطلع بها النشاط الدراماتورجي، ما دام أن هذه الأدوار تختلف كثيرا من بلد إلى آخر، أو من مؤسسة إلى أخرى، حد أنه صار من حقنا أن نتساءل عما إذا كانت تنتمي للنشاط نفسه؟ يقوم دور الدراماتورج في ألمانيا وفرنسا، على التأويل التاريخي والسياسي للنص المسرحي، إلى جانب المخرج. وفي المملكة المتحدة، يساهم غالبا في تطوير الكتابة الدرامية، أو يشارك في الإعداد الجماعي للمسرح التوليفي (Devised theatre). وفي بلجيكا، وهولاندا، غالبا ما يناط به الرقص، أو الأشكال التعبيرية المرتبطة بالفن التشكيلي، إلخ. وهذا الاختلاف في التسمية، يدل كذلك على البون الشاسع الموجود في الممارسة. وفي الوقت الذي يكون فيه الدراماتورج مرتبطا بالممارسة غالبا، بتعاون مع المخرج، يكون المستشار الأدبي أو الفني هو موضح النصوص، أو الخبير في الفن المعاصر. في حين أن المنشط )المدبر”Facilator” بالانجليزية) يساعد الهواة، أو المشاركين على تنظيم أنفسهم.
وبدل ذكر المهام المنوطة بالدراماتورج، وهو ما سيقود بسرعة إلى لائحة معيارية من الأنشطة، ولو بمظهر التعدد اللامتناهي، سيكون من الأولى مساءلة وظيفة الدراماتورج عبر التاريخ، والاهتمام بالإخراج المسرحي، بدل المخرج المسرحي، وبوظيفة التفرج (المنظور، الفكر، المشاركة، إلخ) بدل المتفرج.
بغية ضبط عبارة “التحليل الدراماتورجي”، من الضروري تسجيل الاختلاف الموجود مع القراءة “البسيطة” للنصوص المسرحية، قراءة فردية، تتم دون بلوغ غاية القيام بإخراج لها مستقبلا. ويجب أن نحدد أن عبارة “التحليل الدراماتورجي”، تتصل في الآن نفسه بقراءة النص، وبالطريقة التي يتلقى بها المتفرج، أو بالأحرى المحلل، الذي يصف، ويؤول في كلمات في غالب الأحيان، العرض المسرحي، معيدا تشكيل مبادئ التأليف.
II– شبكة القراءة، والتحليل الدراماتورجي:
1- نسبية القراءة الدراماتورجية:
سواء سمينا المساعد مستشارا أدبيا، أو دراماتورجا للإنتاج (أو”الخشبة”)، فإنه يجد نفسه دائما في وقت معين في مواجهة قراءة، وتفسير النصوص. والسؤال المطروح هو نفسه معرفة ما إذا كانت لهذه القراءة تطلعات جامعية (وكونية)، أم أنها مهيأة للإخراج المسرحي المرتقب ليس إلا؟ وبحسب التحليل الكلاسيكي، فإن المساعد سيسعى إلى درماتورجيا تأملية وتحليلية. يتعلق الأمر هنا ب “قراءة جامعية لنص درامي”1، خلافا لقراءة برغماتية مرتبطة بوضعية سياسية محددة. إنها “تأويل برغماتي لنص بصفته نصا معدا للعب بغية إخراجه على الخشبة من طرف مخرج مسرحي، وسينوغراف، وممثلين محددين”.2 فالتحليل الدراماتورجي إذن، يتلاءم مع مقتضيات مشروع عملية الإخراج، ويرفض كل حقيقة عامة.
كيفما كانت المجهودات الموضوعية، فإنه سيكون من السذاجة ادعاء الحقيقة الموضوعية والثابتة للنص، ذلك أن النظرية نفسها تدخل هي الأخرى في إطار مرحلة تاريخية، نسبية، وعابرة. وهو ما يتماشى مع شبكتنا التحليلية المخصصة لتأويل النصوص الدرامية الفرنسية لسنوات التسعينيات3 من القرن العشرين. وكل هذه الأدوات المفاهيمية المنصوص عليها هنا، ليست في الآن نفسه ضرورية لتحليل الأعمال المعاصرة. إن الصعوبة، وفن التأويل، مطالبين باللجوء إلى الأدوات الأكثر نجاعة في الوقت الراهن.
تنتمي هذه الشبكة القرائية بالتأكيد إلى مقاربة دراماتورجية تم فيها بشكل منهجي تجميع أهم ثوابت الدراماتورجية النصية. وهي ليست “منطوية” على توقع إخراجي، أو لعبي. يتعلق الأمر على الأرجح ب”تحليل دراماتورجي على الورق” بعيدا عن تجربة الخشبة. سنقف عند وضع حد للإشارة إلى أن بعض عناصر هذه الشبكة تتضمن مجموعة من الأسئلة التي يطرحها بالضرورة كل تهيئ دراماتورجي.
2- التأويل والدراماتورجيا
تتوزع لائحة الأسئلة إلى خمس مستويات من الصعب التمييز بينها بسهولة. تبرز على المستوى السطحي النصية المتعلقة بمادية اللغة. وتتجسد هذه النصية في وضعية تلفظ تخرج النص للتداول. وتمكن المستويات الأربع المستترة من النص بصعوبة من التحديد العميق، والخفي لأبعاد الحبكة السطحية، والحركات العميقة، وكذا البنيات الإيديولوجية، واللاواعية.
يروم التحليل الدراماتورجي تأويل حركة، أو حكاية، أو لحظة من الحبكة، أو صياغة للنص. لن يأخذ هذا التأويل “على الورق” معناه حقيقة إلا إذا تمت ترجمته إلى حركات فوق الخشبة. يختار الدرماتورج هذه الجزئية، أو تلك دائما، دون أن تكون له القدرة أو الإرادة في تبرير فرضية قراءته، وأيضا، حسب شروط اللعب المرتبطة بعملية الإخراج. وكل عنصر في النص، أو العرض، إلا ويمكن استغلاله في مختلف مستويات التحليل، من قبيل جزئية في الحبكة في المشهد الأول، أو بسط الحكاية في المشهد الثاني، أو القدرة العاملية في عالم الأفعال في الثالث، أو الكشف عن المسكوت عنه، أو عن النص التحتي في الرابع. وتقع على عاتق الدراماتورج والمخرج مهمة إيجاد الوسائل التعبيرية والسينوغرافية الكفيلة بترجمة تحليلاتهم.
3-ما الفائدة من الدراماتورجيا؟
تكمن الفائدة من الدراماتورجيا في إيجاد أحسن الحلول السينوغرافية (أو أقلها سوءا؟) في اللحظة الراهنة، ليس في المطلق، ولكن بحسب وضعية ومنطق الإخراج المسرحي المرتقب، أو الذي هو في طور الانجاز، في الآن نفسه بحسب الفنانين، أو الآفاق الانتظارية للجمهور. لنأطر أنفسنا باستحضار الخطاطة التي ستساعد الدراماتورج على تهيئ مجال اللعب:
أ- التجزيء التدريجي للخشبة
يتعلق الأمر بالنسبة للممثل باللعب الموضح لحيثيات الحبكة، والحركات فوق الخشبة، وتغيرات الإيقاع. ولا يتوقف التجزيء على النص فقط، بل على اختيارات العرض أكثر، (وهذا ما من شأنه أن يجنبنا، ويوفر علينا التحليل النفساني للنص المسرحي من خلال الشخوص، وحوافزها المفترضة).
ب- إن البحث عن نقط الارتكاز الخاصة بالممثل، وبكل عناصر العرض، يشكل وضع علامات ترقيم دراماتورجية لقراءة الحبكة، أو ببساطة، لتلاحق أحداث الفعل المسرحي.
ج- يرتبط البناء، وبدائل النص التحتي، بتحديد مواطن الالتباس في النص (IV A ص4). يتعلق الأمر بالتوزيع الجزئي لدور الممثل الذي يساهم المخرج في تحديده، والذي هو في نهاية المطاف خاص بالممثل، كما أنه نتيجة ملموسة بقدر كبير للتهيىء الدراماتورجي.
د- إن بناء توزيع أدوار الحركات الجسدية والأدائية، هو الهدف الحتمي لكل تحليل دراماتورجي، ولكل ممارسة مسرحية. هذه الحركات الفيزيقية، “سلسة من المواقف أو الحركات الذاتية القائمة على سريرة خاصة”،4 تنخرط، وتجسد كل التحليل الدراماتورجي، إنها الأثر الحي والمتحرك، باعتبارها توقيعا جسديا للممثل.
هـ- الممثل، هذا “الدراماتورج المتحرك”: يدمج فيه برنار دورDort كل ما يساهم في إعداد الإخراج المسرحي، بما في ذلك القراءة الفردية، وأداء، وإعداد الدراماتورج، وإعداد الممثل حركيا وصوتيا. وهو ما يترتب عنه حلم البيداغوجيين بحصيلة جمعية لهذه المقاربات الموجودة في الدراماتورجيا. وهو ما عبر عنه مثلا المخرج والبيداغوجي فليب أدريان Philippe Adrien بقوله: “أتمنى وحدة أكثر، تفكيرا مشتركا بين مختلف المتدخلين، درماتورجيا منسقة للجسد، والصوت، والأداء، وكذا إجراء يمكن من خلاله لمختلف المقاربات أن تتكامل ، وتتلاحم أيضا من خلال تلاقيها”.5
4- ودراماتورجيا الفرجة (المعاد بناؤها من طرف المتفرج): وهي السفح المتناسق للتحليل الدراماتورجي للنص الذي يتم انجازه استعدادا للعرض. ويتولى المتفرج القيام بذلك عقب تلقيه للعرض. لكن كيف يمكن تحديد دراماتورجيا العرض هذه، والتي لا تدرك إلا أوج العرض، حيث يجب على المتفرج اكتشافها، وتصورها، ورسمها في الآن نفسه انطلاقا من العرض. إن المتفرج ليس متأكدا أبدا من فك رموزها، كما أن مساهمته في إعادة بناء الموضوع المجرد، والافتراضي للدراماتورجيا، ليس ملموسا.
إن الدراماتورجيا المنتمية للكلاسيكية هي هيكل الإخراج، وبنيته الخفية، فإذا “كان الممثلون دراماتورجيون متحركون”،6 فإن الإخراج دراماتوجيا متحركة، حيث يسعى الإخراج المسرحي المنتمي (للصنف الكلاسيكي) إلى ابتلاع الجهاز الدراماتورجي، وهو الهيكل الذي يسنده باطنيا. كما أن البنيات الدراماتورجية تذوب داخل الإخراج المسرحي.
III– الدراماتورجيات الجديدة
يصبح التحليل الدراماتورجي ضروريا بمجرد الاستيعاب الجيد لقوة ونجاعة العرض المسرحي، في علاقته بشكل خاص بالقراءة البسيطة. ونجاعة العرض هذه ليست اكتشافا جديدا، فقد كانت بدهية منذ زمن بعيد مع مؤلفين-رجالات مسرح، من أمثال شكسبير، أو موليير، لكنها لم تحض بالصياغة النظرية قبل النصف الثاني من القرن الثامن عشر مع ديدرو، وليسينغ. وترسخت نجاعة التحليل الدراماتورجي هذه في نهاية القرن التاسع عشر مع التأسيس للإخراج المسرحي، وإعادة قراءة الكلاسيكيات، وامتدت لتترسخ في بلدان متعددة خارج ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، لتصل إلى الأوج في الستينيات، تحت تأثير المنهج البريشتي. ومع انبلاج الأفكار النسبية، ما بعد الحداثية، وما بعد الدرامية في السبعينيات، عرفت الدراماتوجيا تراجعا، أو تحولا، حيث بدأت تبتعد أكثر فأكثر عن أصولها النقدية والسياسية، وعن ولائها البريشتي. غير أنها لم تغب نهائيا، حيث اتخذت أساليب متعددة في تجديد ذاتها، وما تلبث أن تتلاشى، وتستتر، حتى تنبعث من جديد بشكل أفضل. وسنقف عند بعض الأمثلة من الدراماتورجيا الجديدة.
1- إن “المسرح التوليفي” ليس مسرحا للإبداع الجماعي، بقدرنا ما هو مسرح للتعاون، حيث لا يحظى فيه الدراماتورج (نظريا) بمرتبة اعتبارية أكثر من زملائه، ذلك أن كل وظائف الإبداع في العرض مفتوحة أمام الجميع، خاصة التدخل الاستراتيجي للدراماتورج. وخلافا للمسرح النصي، أو الفرجوي، المبني على فكرة مركزية، صار لزاما على الدراماتورجيين باستمرار التكيف مع إبداعات المتعاونين الآخرين. وتخضع كل وسيلة جديدة للاختبار الفوري، قبل أن يتم تكييفها، ثم تبنيها فيما بعد. وليست هناك طريقة في العمل يمكنها البرهنة بشكل جلي بأن الدراماتورجيا جزء من السيرورة الإبداعية.
2- إن “الدراماتورجيا البيداغوجية” هي مدخل إلى القراءة واللعب بالنسبة للأطفال، واليافعين، والهواة. وهي تشكل جسرا بين عالم التربية، والإبداع المسرحي. وتلجأ المقاربة الدراماتورجية نفسها إلى تقديم نماذج قبلية في الإبداع. وعلى هامش عرض مسرحي، أو تكوين أساسي، يتوفر الدراماتورج على الوسائل القمينة بإفهام غير المتخصصين كيفية بناء مسرحية، أو عرض مسرحي، وإماطة اللثام عن العوالم غير المعروفة في الإبداع، واقتراح قراءات وتمارين، وتموضعات في الفضاء المسرحي. ورغم ذلك، هناك خطر يتمثل في تحول هذا النوع من التربية الفنية الضرورية إلى عروض عابرة، أو حملة تسويقية، أو أن تصبح ورشات الكتابة صناعة كتابية كما يشير إلى ذلك تورنر Turner وبيرند Behrendt. أي باختصار، تحول الدراماتورجيا إلى آلية من آليات علم التدبير. ويعد انتشار المواقع الإخبارية المتعلقة بالعروض المسرحية الجارية، والمقابلات الصحفية، وتعريف الممثلين بأنفسهم بكل تأكيد أساسية، بالنسبة للمستهلك لتحديد اختياراته، لكنها قد تتحول غالبا إلى معيرة تصير معها حتى للإبداعات الفنية صعوبة في إثبات وجودها. وفي المقابل، فإن الدراماتورجيا التربوية النقدية والمبدعة يمكن أن تكون وسيلة ناجعة لاستقطاب، أو استئناس جمهور مفتقد للتوجيه في الغالب الأعم.
3- دراماتوجيا الممثل: أبدع هذا التعبير يوجينيو باربا Eugenio Barba، وحوله يتلاءم مع نمط الاشتغال الذي يختار فيه الممثل، أو الممثلة غالبا، وسائلهما الصوتية، والحركية، والنصية، واللباسية إلخ، بغية تجميعها شيئا فشيئا خلال الارتجالات الفردية، خلال شهور عديدة.7
إن دراماتورجيا الممثل هي أساسا وسيلة عادية في عمل الممثل، تلزمه باقتراح وسائل تم الاشتغال عليها بشكل قبلي، قابلة فيما بعد، عن طواعية، التخلي عنها لفائدة اختيارات دراماتورجية، وتطبيقات على العرض المسرحي. ومع ذلك، سيكون من الأفضل تخصيص تسمية “دراماتورجيا الممثل” للعروض المبنية على الارتجالات الصوتية، أو الإيقاعية، قبل أن يتم “حشوها” بالنصوص أو السرود، وأن يتم إخراجها في الأخير من طرف مخرج لا يشعر أبدا بأي تعاقد سردي، أو بأية ضرورة سردية مختصرة في حكاية.
4- الدراماتورجيا ما بعد السردية: ينتمي إليها النموذجين الابداعيين لكل من باربا، أو بكيت Beckett بكل المقاييس، وهي صنافة أخرى من كل السرود، تشمل النصوص، والعروض الخاصة (أو المتحررة؟) من كل حكاية، ومن كل السرود البعيدة عن الدراماتورجيا الكلاسيكية. لا يتعلق الأمر فقط بتلك المرتبطة بالشكل الدرامي، بل كذلك المرتبطة بالملحمية البريشتية، أو ما بعد البريشتية. هذا النوع من ما بعد السردي، من الأكيد أنه كيس لكل شيء “fourre tout “، أكثر اتساعا من مثل نوعية ما بعد الدرامي، لكنه مدروس بشكل كبير من الزاوية النظرية، ويحيل على علم السرد ما بعد الكلاسيكي، دون أن يتموقع كرونولوجيا بالضرورة “بعد” علم السرد، ولكن على الأرجح في استمراريته، ومنازعته . “إن ما بعد الكلاسيكية المتعلقة بعلم السرد تجمع بين مختلف الجهود لتجاوز علم السرد البنيوي “الكلاسيكي”، الذي آخذنا عليه منحاه العلمي، التجسيمي، وعدم إيلائه اهتماما للسياق، والتباسه في مواجهة مسألة الجنس”.8
نحن إذن في مرحلة ما بعد السرد الدراماتوجي. وبالموازاة مع ذلك، نسجل من داخل الكتابة الدرامية المعاصرة منذ 1990 عودة إلى السرد، والحكي، ومتعة سرد القصص.9 ومع ذلك، فإن الدراماتورجيا، سواء كانت كلاسيكية، أو ما بعد كلاسيكية، لا تمتح تقريبا أبدا من النظريات ما بعد الكلاسيكية لعلم السرد، تاركة مع الأسف هذا العلم السائر في طريق التجديد في الظل.
لا يستند جوزيف دانون أبدا 10Joseph Danan مثلا، في كابته المتميز، المعنون ب: “ما هي الدراماتورجيا؟”، Qu’est-ce que la dramaturgie? على علم السرد، سواء كان كلاسيكيا، أو معاصرا.
ومن أجل تفسير تحولات المسرح ما بعد الدرامي، أو تلك المرتبطة بالفرجة، فإنه يكتفي بالاحالة على انعدام الحركة (ص 46) ، كما هو الشأن عند بيكيت، أو ضعف المحاكاة (ص47)، أوغياب العلاقة السببية بين مختلف الحوادث داخل واقعة من الوقائع. لا يتعلق الأمر على أية حال مباشرة في تفكير في السردية، وفي كل الأحوال، ليس من زاوية تقنية لعلم السرد.
5– الدراماتورجيا البصرية: هذا المفهوم الذي قام بنحته أرنتزين11 Arntzen في بداية التسعينيات، هو الشائع اليوم للإشارة إلى عرض بدون نص، والمبني على سلسلة من الصور المتلاحقة. يمكن أن يتعلق الأمر هنا ب: “مسرح الصور” Théâtre d’images عند روبير ويلسون Robert wilson في بداياته، أو في الرقص-المسرح، أو المسرح الموسيقي، أو المسرح الحركي، أو فن الفرجة، أو كل حركة فرجوية.
أ– إن معيار الدراماتورجيا البصرية لا يتمثل في غياب النص على الخشبة، بل هو شكل سينوغرافي يكون فيه المظهر البصري مهيمنا إلى الحد الذي يفرض فيه نفسه باعتباره مكونا للخصوصية الرئيسية للتجربة الجمالية. إن للتجربة البصرية قوانينها الخاصة، وهي لا تخضع للقوانين المتعلقة بالحكاية أو السرد، بل تبدو مناقضة لها بفعل المفارقة الموجودة بينهما. ويمكن النظر إلى الدراماتورجيا، والإخراج المسرحي البصري باعتبارهما كتلة بصرية، موضوعة على الخشبة دون تعليق، سواء كانت هذه الكتلة مستقلة، أو كانت مفروضة من منظور نص مسموع بشكل من الأشكال.
على هذا الأساس، تتحدث كريستين ستالبيرت Christine stalpeart عن جون لوويرس Juan Lauwers، وعن “درماتورجيا بصرية متطورة جدا تكون فيها الصور مستقلة، تبني أدواتها بموازاة مع مقاربته المادية للغة والنص، وتمنح المتفرج “قراءات” لتراجيديات شكسبير، مخالفة لنبرة السرد.” 12 (438).
ب- تقوم الدراماتورجيا البصرية باستخدام مهيمن للرؤية والمرئي، حيث كانت الهيمنة من قبل للنص، والسماع. وقد احتفظت من الدراماتورجيا الكلاسيكية بفكرة أن مبدأ التركيب يبقى صالحا لتحليل مشهد عرض بصري صرف، وأن هذا العرض البصري يتوفر على قوانينه، وقواعده التركيبية الخاصة، وانعكاسه على الجمهور، وتنظيمه للمحسوس. ويشتغل الدراماتورج البصري مثل الفنان التشكيلي، انطلاقا من الحركات، والصور، وكذا من الأصوات المرتبطة بالفضاء، والصور، وتلاحق الزمن.
عندما يتم الاحتفاظ بالنص مسموعا، يتم الاشتغال عليه بطريقة مختلفة، حيث يلعب في فضاء معين. وبحسب الصور، فإنه يتم التعاطي معه باعتباره مادة صوتية، إيقاعية، موسيقية، وليس فقط باعتباره معنى للاستهلاك. والشيء الذي تغير هو الوضع البصري، ذلك أن البصري لم يعد يواكب الاستماع إلى النص، كما لم يعد يقتصر على إشهاره، أو تفسيره، أو توضيحه. يتعلق الأمر تقريبا، في بعض الأحيان، بجعله ملتبسا، أو معقدا. فالفضاء، والبصري، يحضران باعتبارهما مادة دالة، ودعامة من العلاقات الفضائية المجردة، والشكلية، وجهازا، وليس فقط مدلولا في خدمة النص، أو المعنى.
لا تتجلى مهمة الدراماتورج فقط في التعرف على هذه البنيات الشكلية فحسب، بل في إضفاء دلالة ثقافية، وإيديولوجية. ومن ثمة، محاولة ربطها بالتاريخ. ويجب أن تأخد بعين الاعتبار تغيرالتقويم من طرف الجمهور.
ج- لقد تغير موقف المتفرج ما بعد الحديث، أو ما بعد الدرامي تغيرا جذريا، ذلك أن المتفرج لم يعد يشترط فهم كل شيىء، أو تحويل العرض البصري إلى دلالة.
إن من يتساءل في الوقت الراهن هو الكوريغراف، أو المخرج المسرحي بمعية الدراماتورج “عما سيفهمون؟” لكن الجمهور سيفكر بشكل مختلف: “نفهم كل هذا بسهولة كبيرة”. شكرا لله، ما دام وجود الدراماتورج البصري مرتبط بتعقيد الأشياء، وغالبا أيضا لإضفاء نوع من الزينة عليها.
تبحث هذه الدراماتورجيا البصرية عن نظريتها. فهي تنقب عن دراماتورج، وعن نمط للتحليل الدراماتورجي، قادرين على فهم هذا النمط البصري، وتنظيم الصورة، وخاصة السيمياء البصرية، التي قدم لنا ميك بال Mieke Bal أسسها، ومنهجية اشتغالها في الفن التشكيلي.
د- مكن مفهوم البصرية مايك بليكر Maaike Bleeker من بلور نظرية للدراماتوجيا البصرية، حيث مكنته ” مختلف تمظهرات التجربة البصرية” من اكتساب أداة ثمينة لفهم هذا “التفكير البصري”. يتعلق الأمر بالجمع بين من يَرَى، وَمَا يُرَى. والحال، أن هذا الأمر يتلاءم جيدا مع مهمة الدراماتورج الذي يواجه بشكل طبيعي عالما يجب عليه إدراكه، والعمل على جعل المتفرج المستقبلي يدركه أيضا. إن هدف بليكر هو تبيان كيف يمكن “للبصرية” أن ترتكز على الترابط الوثيق المفروض بين مَنْ يَرَى، وَمَا يُرَى. علاوة على أن من يرى هو بالضرورة “جسد”. انطلاقا من هذا الأساس النظري، تأمل الدراماتورجيا البصرية إعداد نسق شبيه في دقته بالدراماتورجيا النصية الكلاسيكية. وتتمحور منهجيتها من جهة، حول سيميائية بصرية، وما بعد علم-سردية، ومن جهة أخرى، حول فينومينولوجيا الجسد، والنظرة المجسدة، والتفخيم الحسي-الحركي. وهذا بالضبط هو برنامج “علم السرد الطبيعي”، 14 لمونيكا فلوديغنيك Monica fludernik، أي “أسلوب جديد في الحكي، وتجربة فيزيقية جديدة في التأويل. ذلك أن علم السرد المرئي يمكن الدراماتورج من اكتساب أدوات ثمينة ودقيقة لوصف الدراماتورجيا البصرية.
تقودنا الدراماتورجيا البصرية في خط مستقيم نحو دراماتورجيا الرقص، والتي تطورت كثيرا منذ بينا بوش Pina Bausch، حد أنها شكلت حيزا كاملا من الفرجات المعاصرة: أي مسرح الحركة والإيماء، أو المسرح الجسدي”Physical theatre”.
6- تشكل دراماتورجيا الرقص التحدي الأكثر جدية بالنسبة للدراماتورجيا المسرحية الكلاسيكية، ولقراءتها، وتجسيدها للنصوص. بدأ الإحساس بالحاجة إلى درماتورج الرقص منذ بدايات تانز تياتر Tanz theatre، مع دير غرون تيش Der grune Tisch ل كورت جوس Joos Kurt سنة 1932. وكان الهدف منه هو منهجة، وتوضيح الخطاب السياسي للعمل الإبداعي، وخاصة تقييم الكوريغرافيا، وتوصيف الحركات حسب قوانينها الخاصة، بحسب منهجية الدراماتورجيا البصرية. يبقى أن نميز بين الأسئلة، ووجهات النظر حول المسرح والرقص.
أ- ماهي المهمة الرئيسية للدراماتورج في الرقص؟ تتأسس رؤيته على الخصوص على ما هو خارج لغوي، و على الحركة، وليس على الحركات الدرامية والشخصيات. ويشتغل الدراماتورج على قراءة الحركة، وعلى جعلها ترى، وتحكي قصة، مع العلم أن المقروء، والمرئي، والمحكي، ليسوا مضمومنين، ولا أساسيين. وعندما تبرزهم الدراماتورجيا، فإنهم يخلقون لدى الجمهور المفترض شعورا بالأمان. عندما تصير الحركة مقروءة من لدن المتفرج، يصبح الكوريغراف أكثر نجاعة وجدارة. وعندما يتمفصل المرئي بشكل واضح، يصير المتفرج أكثر وعيا بوضعه الجسدي في الفضاء، وبجسده في مواجهة الأفكار المجسدة، ذلك أن الفكرة على الخشبة لا تتخذ لها معنى إلا إذا تمثلت أجسادا متحركة، وأصواتا مغناة، وإلقاء جسديا متموقعا. أخيرا، عندما يصبح المحكي في المتناول باعتباره مادة “لحكي” الكوريغرافيا، فإنه يتحول إلى قوة غير متوقعة، قابلة للنقل. في الحالات الثلاث – المقروء، المرئي، المحكي- يترجم الدراماتورج بعض الأفكار والفرضيات إلى أشكال محسوسة، يختبرها المخرج، أو الكوريغراف خلال التداريب.
ب- لا يتوقف عمل الدراماتورج عند هذا الحد، ذلك أنه يجب على المتفرجين ترجمة العمل الفني حسب تأويلهم، ومن خلال عالمهم الخاص. وتبقى هذه الترجمة، وهذا التحويل للحركات، والقرارات، هو الهدف من كل نشاط دراماتورجي. يستكشف دراماتورج الخشبة، والذي يعمل إلى جانب المخرج، المواد التي اشتغل عليها الكوريغراف بغية استيعاب بنياتها الواعية واللاواعية. هكذا يتصرف الدراماتورج أندري ليبيكي André Lepecki إلى جانب ميغ ستويار Meg Stuart: “تسألني- كما يصرح ليبيكي- حول ما أشاهد، يمر أمامي على الخشبة، فأتدخل بما أسميه انفجارات مجازية”، حيث أرى علاقات، وارتباطات إلخ. بعد ذلك، وفي السيرورة نفسها، نشتغل جميعا على ترجمة كل هذا إلى شيء متناسق”. (ص4) إن الجمهور، هذا “الشبح غير المرئي” يحظى دائما بالاعتبار، “لأننا نسائل أنفسنا دائما عما إذا كان الأمر واضحا، وكيف يمكننا تأويل كل هذا ؟” (ص6).
وحسب ليبيكي Lepecki، فإن دراماتورج الرقص لا يقتصر على المشاهدة، أو التقييم الثقافي، بطريقة عقلانية، بل إنه يقحم كل جسده في العملية، ويدخل في مواجهة جسدية مع مواد البناء المسرحي: “ذلك أن دراماتورجيا الرقص تعيد تشكيل بنيتنا الجسدية بكاملها، وليس العيون فحسب (…) فأنا ألج الأستوديو باعتباري دراماتورجا، محاولا الابتعاد بأقصى سرعة عن العين الخارجية. ألج للبحث عن جسد (جديد) كما هو الحال بالنسبة إلى الراقصين، والكوريغرافيين. (ص.7). فالدراماتورج لا يكتفي فقط بتركيز سمعه، وبصره حول السيرورة الابداعية، بل يتحول هو نفسه إلى راقص، حتى نتمكن من مشاهدة، وتثمين الرقص بشكل أفضل.
خارج إعادة التشكيل الصوفية للدراماتورجيا نوعا ما، كما وصفها لبيسكي في موضوع الدراماتورج، يبقى أن علينا مع ذلك، تحديد الشاكلة التي يتم بها تنظيم الكوريغرافيا، والتحليل. فالكوريغرافيا تشتغل انطلاقا من الحركات، وليس بناء على الحركات المحاكاتية للممثلين الذين يجسدون بعض الشخصيات. وترتكز الدراماتورجيا على الإنتاج، وعلى المضاعفة من التأليف الايقاعي، والتوترات، وتغيير الوضعيات، والمواقف. ولا تبحث هذه الدراماتورجيا عن مدلولات، بل إنها تؤسس لمبادئ شكلية، أي “لمنطق الإحساس”، (دولوز Deleuze)، وبنية التأليف.
7- أنماط أخرى من الدراماتورجيا: تنضاف الموسيقى إلى الرقص، والمسرح الموسيقي، وكل الفنون غير التعبيرية، وغير المحاكاتية، والفن التشكيلي التجريدي، والانجازات، والتجمعات البشرية، وكل الأنشطة الأدائية، والفرجوية المتخيلة. ويكفي لإضافتها إلى اللائحة المفتوحة للدراماتورجيا أن تكون هذه الفنون مصممة بطريقة دلالية، غير تصويرية، وغير سردية. ويبقى المبدأ هو نفسه، ذلك أنه لاستيعاب وظائف هذه الدراماتورجيات الجديدة، ليس من الضروري المرور عبر الحكاية، أو القصة، أو السرد، بل يكفي فقط استيعاب، وتجريب البنية الشكلية للعمل الفني، ولتنظيمه، ولمنطق الدلالة والإحساس.
جدد بروز هذه الأعمال الفنية غير النصية، وغير الأدبية المقاربة الدراماتورجية التقليدية، كما أنها وسعت بشكل كبير وعاء التجارب المسرحية الأدائية، وحتى الأدبية. صارت هذه الدراماتورجيات الحديثة سهلة البلوغ، لكننا نميل إلى تأويلها عن طريق تصنيفات مجردة، باعتبارها بنيات شكلية، منفصلة عن كل مرجعية، خاصة المرجعية الاجتماعية. ولا تطرح التحليلات الشكلية مشاكل عصيبة، ذلك أنها لا تفترض سوى وصفا دقيقا مجردا، منفصلا عن كل ما هو اجتماعي، على الأقل، ما دمنا لم نجد وسيلة للوصول الجمهور مع الواقع الاجتماعي الحالي.
إننا نتموضع في منعطف مسرحي، وثقافي، ومجتمعي، بل كذلك في مواجهة النظرية المبتذلة. فهل علينا التخلي عن الأنساق النظرية، كما هو الحال عند ما بعد الحداثيين، وما بعد الدراميين، وكما يدعوننا إلى ذلك، أو العكس. أي في مقابل ذلك، ينبغي مضاعفة جهودنا النظرية، ليس في مناقشة مهام الدراماتورج إلى ما لا نهاية، ولكن بحثا عن الآليات المنهجية والنظرية التي من شأنها مساعدتنا على تعميق التفكير في هذه الوضعية الجديدة.
- IV. مستقبل الدراماتورجيا وتحدياتها
إذا كانت طرق الدراماتورجيا التقليدية (المرتبطة بالإنتاج) معروفة، واختبرت بكفاية، فالأمر لا ينطبق على الدراماتورجيا الجديدة (تلك التي ترتكز بالأساس على تلقي الجمهور)، فالتأمل النظري يمتح من الممارسة التطبيقية، لذلك بات ضروريا التفكير في طرائق الاشتغال الأكثر تأقلما مع التجارب الجديدة. ما هي الأوراش التي يجب علينا فتحها –نحن الجامعيون والدراماتوجيون المهتمون بالنظرية؟ هل بإمكاننا اقتحامها دونما التحول بعض الشيء إلى فنانين؟
- نظرية الذات المبدعة والمتلقية، المؤلف و”السلطة” (وكل ما يسمح لنا بتسمية مؤلف) تربك طمأنينتنا دائما. نلاحظ ببساطة بأن الذات المتلقية أصبحت هي الأخرى في وضعية معقدة جدا، وبأن كل الظواهر المسرحية والأدائية تمت إعادة النظر فيها انطلاقا من وجهة نظر التلقى. ومع ذلك، ماذا يعني مشاهدة حدث مشهدي؟ ماذا نرى تحديدا؟ وكيف نصبح متورطين فيما نرى بخاصة؟
يدعونا مايك بليكر Maaike Bleeker15 لتجاوز الرؤية الفورية وغير النقدية، ويدفعنا للتساؤل حول ما نرى من إعداد مسبق من حيث الشكل والمعنى. في الواقع، تعيق تلك الرؤية الفورية والساذجة فهمنا، ليس فقط لكيفية تمثل الإخراج المسرحي –تلك المائدة العيدية التي أعدت لنا-؛ ولكن أيضا كيف ندرك الطريقة التي نتورط بها فيما نحن بصدد مشاهدته.” (ص 3). والحال، أن هذا التورط يتطلب من المشاهد جهدا للملاحظة، وإعادة بناء وتأويل العرض: هل من الممكن اعتبار حجة المسرح من حيث هو وسيلة لعرض شيء ما لمتفرج ملاحظ تعتيم في حد ذاته على الخاصية العلائقية لفعل المشاهدة داخل منظومة المسرح؟ إن وضع إخراج ما لحدث مسرحي يدعو إلى استيعاب كل ما نراه من أداء مقدم لنا؛ وهي حالة لا يفعل الجمهور فيها أي شيء عدا المشاهدة. إن دلالة تورطنا كملاحظين فيما نحن بصدد مشاهدته قد تبدو مثل المنتج البسيط لما “يقدمون لنا دون الأخذ بعين الاعتبار التزامنا الخاص بالطريقة التي نشاهد بها ما نشاهده.” (ص. 3)
إن التزامنا ليس اعترافا بالاستراتيجية المقصودة للإخراج المسرحي، أو الدراماتورجيا فقط، ولكنه أيضا مرتبط بسؤال معرفة كيف نتجاوب وفقا لانتظاراتنا، ولاوعينا، مع ما نرغب في مشاهدته. وبالنظر إلى الدراماتورجيا والإخراج، نستطيع القول بأنهما يتشكلان مما يقدم الفنانين من جهة، وما يصنعه الجمهور بالعرض الفرجوي من خلال طريقته للتفاعل معه. وهنا تحديدا يجب التدقيق في شيئين، أو بالأحرى اختلافين: الاختلاف الأول بين ما ينوي الفنانون فعله، وماتم إنجازه بالفعل؛ والاختلاف الثاني بين ما نحن بصدد مشاهدته من حيث هو منتوج نهائي، وما كنا نتوق لمشاهدته.
بقدرما نبتعد عن الدراماتورجيا المكتوبة من طرف المؤلف (وفقا للقواعد الكلاسيكية)، أو الدراماتورجيا المعدة والمنجزة من لدن الدراماتورج (في الحقبة الحديثة من ليسين إلى برشت) بقدر ما نصبح مضطرين لإنجاز دراماتورجيا خاصة بنا (ما بعد حداثية، أو ما بعد درامية)، وذلك بناء على نتيجة غالبا ما تكون غير مقروءة، وبالتالي، نصبح إزاء دراماتورجيا المتفرج. وكلما كانت دراماتورجيا الإنتاج غير مقروءة، مثل دراماتورجيا الممثل لدى أوجينيو باربا، نصبح ملزمين بإعادة كتابتها بأنفسنا. وهكذا نضطر للتصرف كمتفرجين دراماتورجيين.
- الدعوة الظاهراتية:
إن ما نستوعبه نحن المشاهدون من الإخراج والطبقات المتعاقبة للدراماتورجيا التطبيقية، حسب دعوة ظاهراتية ماAppellstruktur ، بالنسبة لكل من باهلر وياكوبسون،16 مجرد صور فينومينولوجية مختلفة لما نتمكن من استخلاصه من تراكم الطبقات/ الآثار/ وإعادة الكتابة الدراماتورجيا.
ويمكن توصيف هذا الاستخلاص الفينومينولوجي بطرق مختلفة:
(1)- ينصح كل من تورنر Turner وبيرند Behrendt بإيجاد “بنية بارزة” من خلال استخراج “الافتراض المسرحي من النص.”
(2)- يقترح بيتر بروك على المخرج إيجاد شكل أو جدول قبلي ناتج عن المؤسسات والأسئلة الخارجية التي يطرحها المخرج بخاصة (بالإضافة إلى الدراماتورج). وهذا الحل أفضل من فكرة الاحتمال المسرحي، وهو مفهوم أقل إقناعا بالنظر إلى طبيعة المسرحة théâtralité وممكنات النص.
(3) – يرى Martin Seel عمل الإخراج من حيث هو (erscheinen lassen) إبراز لأجل الظهور. وينبغي لهذا الظهور، مهما كان، أن يعرض علنا ما يلي: “لا يمكن اختزال عمليات الإخراج فقط من حيث هي ظواهر للظهور، إنها تبرز شيئا ما في حالة ظهور وتحدده بكيفية يصبح فيها حساسا لمدة زمنية ما في فضاء عمومي.17”
(4)- يضطلع مفهوم التجسيد أو الأداء الوظيفة نفسها: نوع من التمظهر المجسد، وشبح يصبح إنسانا، وفيما يخصنا نحن، بنية صلبة ومرتبة بشكل كاف، تلك المتعلقة بترسانة الدراماتورجيا. ونشعر في المسرح أكثر منه في عالمنا الحقيقي بالجسد، والإيماءة، والحركة بناء على التعاطف الحركي 18kinesthetic empathy.
3- التعاطف الحركي:
وفقا لآخر اكتشافات علم النفس الإدراكي، نحن لا نعين، ولا نتماهى مع حركة ما إلا إذا كنا قادرين على إعادتها “داخليا”، ليس عن طريق تخيلها فكريا، ولكن عن طريق تطبيقها دون التحرك ظاهريا، وذلك وفقا لنظرية “مرآة الخلايا العصبية” الغامضة. وبما أننا نستطيع ليس فقط تصور الحركة، بل أيضا تجسيدها، فإن الدراماتورج في الرقص يحاول تصور ردود الفعل الفيزيقية، وجماليات التعاطف لدى الجمهور المفترض. وهو في ذلك غير مضطر لشرح هذا الشيء أو ذاك فكريا، أو بث رسالة ما، بل عليه ببساطة أن يسعى لإثارة الإحساس بتوتر الجسد، وتغير الإيقاع، وتمفصل الانسداد blocking، والترتيب arrangement، وتموضع المؤدين فوق الخشبة. ليس هذا التأثير الحركي بعيدا عما يدعوه أوجينيو باربا ب “أداء في طور الإنجاز “، أي كل العناصر التي “تعمل مباشرة على إثارة انتباه الجمهور، واستيعابه، و طبيعة انفعالاته 19 .. “
لا تمتد جمالية التعاطف لتشمل فقط الدراماتورج، بل أيضا الجمهور بمجرد قبوله التحليق رفقة العرض. وتلامس أيضا الناقد أثناء كتابته عن العرض، مستثمرا طاقته ونبضه. إنها تمثل أيضا طريقة ل “إعادة تأكيد الإمكانات الأدائية للكتابة ذاتها20. وإذا ما احتفظنا استعارة الإخراج الحركي نفسها، أو الطاقة المخزنة، فإننا نستطيع أن نتخيل بأن الدراماتورج يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى الاندماج ضمن ما تسميه إيريكا فيشر ليشته ب “الحلقة المرتدة لتبادل الأثر21”[3] la boucle autopoetique. لذلك لا ينبغي نبد الأفق الإدراكي/ التعرفي Cognitivism أحيانا بدعوى أنه لا سياسي22. تساعدنا التعرفيات هنا (علوم التعرف) على فهم التفكير، والإدراك، والإحساس في علاقتها بالسيرورات الذهنية23.
4- من السرديات الكلاسيكية إلى السرديات الطبيعية:
تشكل السرديات الكلاسيكية، أو بالأحرى، ما بعد الكلاسيكية الطبيعية ابتداء من 1950 إلى 1970 حسب Fludernik، الحلقة الضعيفة ضمن سلسلة النظريات المفيدة للدراماتورجيا. ويمكننا إدراج التفسير الوحيد المحتمل في هذا السياق، وهو كون السرديات لا تهتم بالمسرح الذي يعرض، ولا يروي، مثل ما تفعل الرواية، أو السرد إجمالا. فقد اعتمدت السرديات في المرحلة السيميائية الأولى لتحليل المسرحيات الكلاسيكية؛ غير أنه بعد ذلك، تم تعويضها بسيميولوجيا التمثيل. والحال، أننا سنرتكب خطأ قاتلا إذا ما لم نعد مجددا للسرديات. وذلك راجع، ليس فقط، لكون الأشكال المسرحية ما بعد الحداثية، وما بعد الدرامية تلجأ باستمرار لكل أنواع السرد، ولكن تحديدا لكون السرديات الجديدة تقتحم نصوصا غير سردية ما بعد حداثية يصعب مقاربتها بمعزل عن إعادة النظر بشكل جدري في الأدوات الإجرائية لتحليل الحكاية، والشخصية، والحدث المسرحي، والتمثيل برمته.
ينطبق الشيء نفسه على النصوص المستعصية عن القراءة مثل نصوص بيكيت الموغلة في الاقتضاب 24، أو حتى عروضها، حيث نتخلى بسرعة عن أمل سرد قصة ما، أو اعتماد الأدوات الدراماتورجية الكلاسيكية. والواقع أنه بمجرد ما نستدعي التجربة الفردية، ومعها “التزامنا بكيفية مشاهدة ما نحن بصدد مشاهدته،25” وبمجرد أن نتبع نصيحة فلودرنك Fludernik، والعودة إلى السرود الطبيعية والعفوية، وبالتالي إلى الطريقة العفوية لحكاية المرويات بشكل طبيعي، حينها قد نأمل في استنطاق النص البيكيتي الذي يبدو وكأنه مجرد، وغير خاضع لمنطق التاريخ. وحسب فلودرنك دائما، فإن “السرود الطبيعية، بما فيها تلك المحكيات العفوية، هي أشد ارتباطا بالحسابات الإدراكية للتجربة الإنسانية ضمن عملية السرد، أي أنها إستراتيجية قرائية تجنس النصوص انطلاقا من مقوماتها السردية.26”
هكذا تصبح السرديات الجديدة حليفة مهمة للدراماتورج المكلف –من ضمن مهام أخرى- بحكاية شيئ ما لجمهوره الحائر. بالإضافة إلى هذه المساعدة الخيرية، يضيف فلودرنك مفهوم “التجربة” حيث : يجب على القارئ والمتفرج التدخل بشكل فيزيقي، سواء من خلال خيالهم، وتجربتهم، ومعرفتهم للعالم. كل هذا يؤدي بنا إلى دراماتورجيا حسية (ليست فقط دراماتورجيا بصرية، أو موسيقية صوتية). إننا إذن، مدعوون لاستعادة مفهوم العاطفة، والأثر، والأثر المنتج؛ إننا مدعوون للعودة إلى مجال التعرفيات للحسم في العلاقة بين الإدراك/التعرف والتصور27 داخل المسرح.
5- يتيح مفهوم الترسانة الدراماتورجية 28ملاحظة كيفية تنقل الطاقة داخل المتن وفوق الخشبة، وبأي اتجاه تتموقع وتفرز معاني.
6- دراماتورجيا ما بعد الدراما؟
إذا تواجد القارئ أو المتفرج في المرتبة نفسها التي كان يشغلها الدراماتورج السلطوي لوحده، يحق لنا أن نتساءل هل لا زالت الدراماتورجيا تضطلع بمهمة التحكم في النصوص والعروض المعاصرة؟ حينما تتخلى الدراماتورجيا المعاصرة على الحكاية، والفعل، والشخصية، والشكل الدرامي، ما هي الآليات المتبقية لديها يا ترى؟ لقد تبين لنا بأن الأشكال الجديدة تستوعب الأدوات الجديدة للسرديات الحديثة، وهي بذلك قادرة على وصف العمل التجريدي. لذلك يؤجل جزء من الأسئلة الجمالية والسياسية التي طرحت على الدراماتورجيا الكلاسيكية، تلك المرتبطة بمشاكل الإنتاج. هل بات من الضروري تقديم مفهوم ما بعد الدراماتورجيا؟ هل أدت أزمة الدرامي وانبعات ما بعد الدرامي إلى تأزيم نظرية الدراماتورجيا؟ هل ستتمكن نظرية ما بعد الدراما من فهم طرائق اشتغال المتون الموسومة ب “‘ما بعد درامية”؟ يمكن أن نشكك في ذلك، سيما أن تلك الأعمال تتطور في الغالب عبر تحدي الأنماط الدرامية الكلاسيكية. وفي الحقيقة، فإن ما بعد الدراما، ترفض التفسير السيميائي والعبر ثقافي، والتاريخي؛ إنها تستشكل كل نظرة موضوعية، وكل مرجعية نقدية في العالم.
سيكون من الخطأ استسلام الدراماتورجيا، وتخليها عن التأثير في المسرح والعالم. هل توجد إذن دراماتورجيا منقذة، طريقة قادرة على الاحتفاظ ببعض مبادئ الدراماتورجيا القديمة، وتكييفها مع الوضع الراهن لفنون الفرجة؟ هل يمكن اعتبار الأدائية[4] performativity ترياقا ومعجزة؟
7- الدراماتورجيا الأدائية:
يتم الاستغاثة بالأدائية في كل مكان لأجل تبيان كيفية بناء الحقائق الاجتماعية وطريقة أداء عمل ما في العالم.
أ- ما يدعوه بيتر ستامير Peter Stamer بالدراماتورجيا التواقة لعدم إخضاع العرض أو العمل الفني لتصميم مسبق. كما تقترح الأدائية تحليلا دراماتورجيا من خلال العمل الإبداعي للدراماتورج، والذي لا يقل أهمية عن إبداعية المخرج. من هنا يصعب أحيانا التمييز بين وظيفة كل من الدراماتورج، والمخرج (أو الكوريغراف).
ب- ليست الفكرة جديدة، تلك التي تعنى بالعمل على التطبيق النصي لاستخراج الأفكار حول النص، قصد التحليل والإخراج. باعتماده هذه الخطة وظف أنطوان فيتس Antoine Vitéz ارتجال الممثلين انطلاقا من نص ما في طور الإخراج بهدف تحسيسهم ب “علاقة الأجساد مع بعضها فوق الخشبة”،29 وكذلك لإيجاد طرائق مختلفة لتأويل تلك العلاقة. ويمكن تطبيق مبدأ فيتس نفسه لاكتشاف دراماتورجيا المسرحية. في ذات السياق، يذكر تورنير Turner و بيهرنت Behrnelt، حالة لوك بيسوفا Luck Pecevat الذي يعبر عن دراماتورجيا المسرحية من خلال اختبار حلول مختلفة: “يهتم بيسوفا باكتشاف دراماتورجيا المسرحية وفق سيرورة العمل، ولم يكن بحاجة إلى تطوير، أو تعيين إطار مفاهيمي محدد سلفا للمشروع.” 30.
ج- إن الملاحظات العشرة حول الدراماتورجيا ل Peter Stamer تروج بطريقة مقنعة لفكرة الدراماتورجيا الأدائية. 31 يتعلق الأمر هنا بخلق الدراماتورجيا عوض تطبيقها أو فرضها من الخارج، “ذلك أن الدراماتورجيا لا تهيكل معنى مسبقا يجب تطبيقه على العمل، ولكنها بالأحرى تخلق معنى لم يتم الكشف عنه حتى الآن.” (257)
تستعيد الدراماتورجيا الأدائية، سواء كانت مرئية أو حركية أو موسيقية، فكرة التدخل الإبداعي الذي يتشكل بالتدريج مثل المسرح التوليفي le devised theatre، وليس كبرنامج للإنجاز. فقد تحررت من النظرية الوصفية والتوجيهية؛ كما أنها تقدم نفسها باعتبارها نشاطا فنيا: “لأن عمل الدراماتورجيا هو في الواقع تطبيق للنظرية، عكس النظرية التحليلية المتمثلة في كتابة النقاد، أو تحليل الفرجات.” (ص. 257) “لا تدير الدراماتورجيا الأدائية المعنى الذي يجب تطبيقه من خارج السيرورة الفنية، فهي مبتكرة بتحقيق الشكل من الداخل.” (ص. 258)
د- تشمل المرحلة التالية (والتي قد نحتفظ بها فيما بعد) ابتكار تمارين دراماتورجية قابلة لإفراز المعنى. ونعلم بأن بعضا من ارتجالات الممثلين، كدراسات المعنى لدى ستانيسلافسكي، أو فاسيليو Vassilieu قادرة على إنتاج المعنى، واختبار إمكانيات معينة. لم نعد نرضى بالأفكار والأطاريح الدراماتورجية، لأننا ننتج بنية مرئية، حساسة، وقابلة للاختبار: “إنه التحليق بفكرة على الورق، ووضعها في الزمان والفضاء، ومنحها جسدا.” (ص. 259)
استنتاجات:
1) نحو دراماتورجيا أدائية:
لقد أثبتت الطرق الجديدة للتحليل الدراماتورجي بأنها في مستوى التحولات الكبرى التي عرفتها الكتابات، والتجارب المشهدية، والأدائية. تمنحنا تأملات بيتر ستامرPeter Stamer تركيبا فريدا للإمكانات المتاحة من طرف الدراماتورجيا الأدائية، ذلك المفهوم المرادف للمبتكر، والعملي، والتجريبي.
2) ينبغي الأخذ بالثورة الكوبرنيكية للدراماتورجيا والإخراج. بالعودة إلى محور المركزية التي طبعت النظرية الأدبية في عقد الستينيات، والمسرح في السبعينيات، حيث تماثل هذه الثورة إعلان موت المؤلف، سواء بالنسبة لفوكو، أو دريدا، أو بارت… وإذا ما اختفى المؤلف سيتبعه الدراماتورج لا محالة. ولكن يبدو أن إعادة انبعاثه من جديد، وتحوله أكثر إثارة. وتظهر في الواقع أنواع أخرى من الدراماتورجيا المتاحة، وذلك بحسب المناهج الإبداعية للمؤلفين، والمخرجين، والجمهور. قد يفقد الدراماتورج سلطته العلمية، ولكنه يربح متعة إنتاج المعنى حقيقة، وباعتباره فنانا كباقي الفنانين، فإن دراماتورج الإنتاج لم يعد موثقا مكتئبا. وحتى المتفرج، من حيث هو دراماتورج التلقي، لم يعد في مأمن، بما أنه ملزم بإنتاج المعنى.
3) يتعلق الأمر إذن باستعادة، وانقلاب، ومحو للمركزية. ورغم قوة مصدريها الرئيسيين المتمثلين في تجربتي كل من برشت وليسينغ، لم تعد الدراماتورجيا تشكل معرفة صلبة، وجسدا من الخبرات، أو حتى طريقة منهجية. تبني وتفكك الدراماتورجيا الجديدة بدون هوادة؛ إنها مشرعة على رحابة الجرأة الفنية التي تجد مبرراتها فقط في إنتاجية التلقي، وانفتاح دراماتورجيا المتلقي.
4) في نهاية الأمر، وحين نتأمل في المنعطفات الكبرى للدراماتورجيا عبر التاريخ ، نلاحظ بروز الوظيفة الدراماتورجية، وربما أيضا عودتها إلى الأصول:
- تعتبر الدراماتورجيا الكلاسيكية، بالمعنى الإغريقي الأصلي للكلمة، نصية بشكل قطعي. ولم تكن فكرة خلخلة قوانين بنائها الداخلي متاحة، ولا حتى إمكانية مواجهتها مع منجزها المشهدي.
- بدأ المؤلفون الأوروبيون إلى حدود القرن السابع عشر على الأقل في خرق القواعد التي بدت لهم غير ملائمة لزمنهم.
- تخرج الدراماتورجيا الكلاسيكية الجديدة من حصن النصية، وتأخد بعين الاعتبار الحقيقة المشهدية لفهم النصوص وعرضها (Diderot, Lessing, Goethe).
- ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبح الإخراج يوكل للمخرج سلطة ابتكار قراءة شديدة الالتصاق بإعادة القراءة الدراماتورجية. والأفق المثالي المتضمن هنا، هو مصادفة التحليل الدراماتورجي للإخراج المنجز.
- لا تهتم دراماتورجيا بريشت النقدية والسياسية بالإخراج إلا إذا عبر هذا الأخير عن قراءة دراماتورجية نقدية بشكل مثالي بالنسبة للبريشتيين، تتلاءم فيها الدراماتورجيا مع الإخراج.
- إبان سنوات الستينيات من القرن العشرين، ومع أزمة الإخراج داخل نسق مغلق، ونهاية الكتابة الدرامية، أو الملحمية، بدأت مرحلة ما بعد الدراما، والتي لم تعد منسجمة مع التحليل الدراماتورجي التفسيري، أو حتى الصدامي، واللا دراماتورجي: هكذا تعلن الدراماتورجيا تخليها عن الإنشائية la poétique، والدراماتورجيا المعيارية.
- لقد أفاد هذا التخلي المتفرج، والذي لم يتبق له سوى إعادة ترتيب الفوضى الدرامية والمشهدية. ويطور هذا المتفرج من حيث هو دراماتورج آخر نظاما ضمن سلسلة طويلة، يساعده على التفكير، وترتيب مدركاته المتشظية. وبذلك يجعل من نفسه دراماتورجا، ليس فقط بمعنى المستشار الفني، ولكن أيضا، بالمعنى الكلاسيكي للمؤلف والمخرج.
- بالنظر إلى الدراماتورجيا البصرية، والفيزيقية، وابتداء من السبعينيات، أصبح يتحدد هذا المتفرج انطلاقا من البنيات الشكلية والمجردة، وفي أحيان أخرى استنادا إلى بنيات مفاهيمية، وحساسة. وتتحول تلك البنيات بسرعة إلى معايير جديدة للكتابة، أو البناء؛ وهذا ما يؤدي بنا إلى دراماتورجيا شكلانية إلى حد كبير (أنظر الشكلانية).
- تصبح هذه الدراماتورجيا البصرية إذن جنسا جديدا، بقواعد ومعايير تستوعب الدراماتورجيا النصية الكلاسيكية للماضي. ولعل الفرق البسيط هو كون الدراماتورجيا البصرية الجديدة تكتفي بذاتها، ولا تهتم بالإحالة على العالم الخارجي أو النصوص، سواء على مستوى التطبيق، أو النظرية. وبهذا فقد أضحت معيارية، والشكل الأمثل للأدائية، كما نلمس ذلك في الحركة والصوت والإضاءة لدى روبرت، ويلسن. ولا شيء يوحي بأنه مرجعي، لا الأجساد، ولا أشكال السينوغرافيا، ولا العالم الخيالي.
- لقد ألغت الدراماتورجيا الجديدة، سواء كانت بصرية، أو جسدية، أو موسيقية، أو إيقاعية، الدراماتورجيا الكلاسيكية والتي غالبا ما تختزل في نص ومعنى مسبق تقريبا، غير خاضع للمناقشة من لدن التحليل الدراماتورجي. ومع ذلك، تبدو وكأنها تعود إلى نقطة البدء: نظام مغلق على ذاته، مكتف، يحيل على ذاته؛ ولكنه غير قادر على الانفتاح على العالم الخارجي، وعالم المفسرين، والعلاقة بين النظام والعالم. فهل سنتمكن من فتحها على العالم، حتى يتسنى لنا رؤيتها بشكل أفضل، والحكم عليها انطلاقا من وجهة نظرنا نحن؟
يبقى علينا نحن، معشر القراء والمتفرجين، أن نختار العودة إلى دراماتورجيا غير مستعصية على مستوى التحليل، والتحليل الدراماتورجي بخاصة. فهل يجب علينا أن نأمل، أو بالأحرى، نترقب ظهور ليسينغ جديد بيننا كي نخرج من جبة الدراماتورجيا الوظيفية، المتقنة بكل تأكيد، ولكنها أيضا المنغلقة على ذاتها؟ ما هو السبيل لمساعدة النصوص على الخروج من دواتها كي تخلق تناسجا بين عالم التمثيل، وعالمنا نحن؟ هل بإمكاننا استعادة تلك اللحظة الإنسانية حيث بدأ المسرح يدرك قدراته فاخترع الدراماتورجيا؟
الهوامش
1- Gad Kaynar: “Pragmatic dramaturgy: Texts as contexts as contexts”, Theatre Research International, vol.31, n3; p: 246. Cité par Cathy Turner and Synne k. Behrndt. Dramaturgy and performance, London, Palgrave, p: 35.
2- Ibid.
3- Patrice Pavis: Le theatre contemporain. Paris. Armand Collin, 2012. Edition augmentée, 2011. p13.
4- Euginio Barba. « Une amulette », Texte inédit, p 1.
5-Philippe Adrien. Paris. Actes sud paiers, pp.19- 20.
6-Bernard Dord. « Dramaturgie », Theatre/Public, n 67, 1986, p. 10.
7-Patrice Pavis (ed.), Degrés, 1999. (Dramaturgie de l’actrice)
8- Luc Herman and Bart Vervaeck, «Postclassical Dramaturgy” Routledge Encyclopedia of Narrative Theory. Edited by David Herman, Manfred Jahn and Marie-Laure Ryan, London, 2008, p.450.
9-Patrice Pavis. « L’écriture à Avignon (2010). Vers un retour de la narration » ?, Arielle Meyer Macleod, Michèle Pralong (edits), Raconter des histoires. Quelle narration au théâtre aujourd’hui ? Genève, Métis Presses, 2012, pp.113-133.
10- Joseph Danan. Qu’est ce que la dramaturgie ? Actes sud, 2011.
11- Knut Ove Arntzen. « A visual Kind of dramaturgy », Theatreschft, n5-6,pp.274-276.
12- Christel stalpaert. COMPl2TER “Performace research paris”.
13- Dans: Visuality in the theatre. The locus of looking. London, Palgrave, 2008.
14- Towards a “ Natural” Narratology. London, Routedge, 1996.
15- Maaike Bleeker. Visuality in the Theatre. The Locus of Looking. London, Palgrave, 2008.
16- Roman Jakobson. Linguistics and Poetics, 1960. Jakobson se réfère aux travaux de Karl Bühler : « Die Axiomatik der Sprachwissenschaft », Kant-Studien, n° 38, 1933.
17- Martin Seel. “Inszenieren als erscheinen lassen”, Aesthetik der Inszenierung. Frankfurt, Suhrkamp p.57.
18- Voir Dee Reynolds, Matthew Reason (Eds.). Kinesthetic Empathy in Creative and Cultural Practices. Intellect, Bristol, 2012.
19- “The nature of dramaturgy: describing actions at Work”, New Theatre Quarterly, 1. 1., p.75), 1985, p. 75.
20- Peggy Phelan. Unmarked: the Politics of Performance. London, Routledge, p.148.
21- Erika Fischer-Lichte. « Autopoiesis und Emergenz », Asthetik der Inszenierung. Suhrkamp, 2004, pp.284-294.
22- Voir Christel Stalpaert, Performance research, p. 124.
23- George Lakoff and Mark Johnson. Philosophy in the Flesh. The embodied Mind and its Challenge to Western Thought. New York, Basic Books, 1999, pp. 45-59.
24- Samuel Beckett, ‘Lessness’, in Texts for Nothing and Other Shorter Prose, 1950-1976, ed. by Mark Nixon (London: Faber & Faber, 2010), pp. 127-32.
25- Maaike Bleeker, op. cit., p. 3.
26- Jan Alber, http://findarticles.com/p/articles/mi_m2342/is_1_36/ai_89985876
27- Lakoff and Johnson, op.cit. , voir en particulier, pp 37-38, 574-575.
28- Des Dispositifs pulsionnels, Paris ; U.G.F., 1973.
29- Antoine Vitez. Ecrits sur le théâtre. Paris, P.O.L., Vol. 1, pp.238-239.
30-Turner et Behrndt, op.cit., p.158.
31- Peter Stamer. « Ten notes on dramaturgy », Denkfiguren. Nicole Haitzinger , Karin Fenböck (eds.)
[1] پاتريس پاڨيس Patris Pavis:
أستاذ الدراسات المسرحية بجامعة باريس ما بين سنتي 1976-2007، ومن أهم الأصوات النقدية التي أثرت في مجال البحث المسرحي المعاصر. يشتغل حاليا أستاذا بكلية الفنون بجامعة كينت Kent بمدينة كانتربري الانجليزية. عمل أستاذا زائرا في قسم الدراسات المسرحية بالجامعة الوطنية الكورية للفنون في سيول ما بين عامي 2011 و 2012. من أهم منشوراته قاموس المسرح الذي تمت ترجمته إلى حوالي 30 لغة، وكتب أخرى عديدة حول تحليل الفرجات، والمسرحيين الفرنسيين المعاصرين، والمسرح الحديث. من بين آخر إصداراته كتاب La Mise en scène contemporaine، عن مطبعة Armand Colin (2007)، وقد ترجم إلى الإنكليزية من طرف جويل أندرسون Joel Anderson (مطبعة روتليدج، 2012). وباقي مجالات بحثه الحالية تشمل: نظرية الأداء؛ نظريات الإخراج؛ المسرح الما-بين-ثقافي والمسرح المُعولم؛ الكتابة الدرامية المعاصرة؛ الكتابة الإبداعية وفن العرض؛ نظرية الفرجة والمسرح المعاصر.
[2] غالبا ما يلتبس مفهوم الإنشائية Poétique/Poetics لدى الكثير منا بالشعرية. ويعود “ظهور مفهوم الإنشائية ومصطلحاتها إلى أرسطو في كتابه “فن الشعر”… والإنشائية نظرية من نظريات الأدب، تقتطع من الحقل الأدبي موضوع دراسة مخصوص هو ، حسب عبارة أرسطو، الفن الأدبي بوصفه إبداعا قوليا، أو الخطاب الأدبي في منظور البنيويين الإنشائيين… وقد بسط “تودوروف” القول في هذا المفهوم، مبينا أن الإنشائية، خلافا لتأويل الآثار الخاصة، لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل تهدف إلى معرفة القوانين العامة التي تتحكم في ولادة كل أثر.” (محمد القاضي وآخرون، معجم السرديات، تونس: دار محمد علي للنشر، 2010، ص. 43).
[3] حسب فيشر ليشته، يكمن جوهر مفهوم الفرجوية/ الأدائية في الوجود الجسدي بين المؤدين والجمهور باعتباره شرطا مسبقا لإنجاز فرجة ما. وحينما تشدد فيشر ليشته على البعد الاجتماعي للقاء المسرحي، فذلك لكونها تريد إبراز دور المتفرج في تحقيق الفرجة من حيث هي حدث استثنائي بيني؛ فالتفاعل المتساوي بين الفاعلين يصبح علامة كل الأحداث الفرجوية: “تنجز الفرجة داخل ومن خلال الحضور الجسدي لكل من الممثلين والجمهور، ذلك أن كل فرجة تستدعي مجموعتين من الناس: “الفاعلون” و”المتفرجون”، يوجدون في زمن محدد ومكان معين لأجل تقاسم موقف ما… تنبعث الفرجة من لقائهم وتفاعلهم”. وهكذا، تصبح الحلقة المرتدة لتبادل الأثر لا مفر منها نتيجة حضور الجمهور، ومهما كان رد فعل الجمهور، فإنها لا محالة تؤثر على المؤدين. من هنا، فالقوة المتضمنة في مشاركة جمهور الفرجة قد وجدت أحسن تفسير لها في نظرية فيشر ليشته تحت عنوان autopoetishe feedback-schleife “الحلقة المرتدة لتبادل الأثر”. فالتجربة الجمالية لعرض ما، حسب فيشر ليشته، لا تعتمد فقط على العمل الفني من حيث هو أداء لفاعلين فوق الخشبة؛ “بل، أيضا، ردود فعل المشاركين الموجودين في الطرف المقابل للمؤدين”.
Fischer-Lichte, The Transformative Power of Performance, p. 36.
[4] مفيد جدا في هذا المقام التذكير بأن أوستين قد استثنى الخطاب المسرحي في نقاشه، لأن هذا الخطاب لا يعبر حقيقة عن نوايا المؤدي أثناء فعل التلفظ، وهو يتقمص دورا ما… ومع ذلك، يستوعب مفهوم ‘الأدائي’Performative مفاهيم أخرى، من قبيل تنفيذ، وتحقيق فعل ما. وهذا الفهم بدوره استيعاب للخلاصات التركيبية التي وصلت إليها الفيلسوفة الأمريكية جوديث باتلر Judith Butler، والتي تقول في هذا السياق: “تفعل أفعال الكلام الإنجازية performative utterances ما تقوله في لحظة النطق بها. فهي لا تعد أفعالا عُرفية فحسب، بل تعد أفعالا ‘شعائرية’ أيضا كما عبر عن ذلك أوستين. إنها تفعل فعلها بمقتضى الصورة الشعائرية التي تكتسيها. كما أن تَكرارها في الزمان يجعلها تحتفظ لنفسها بفسحة عمل لا تقتصر على لحظة النطق بها في حد ذاتها. صحيح أن فعل الكلام الإنجازي يفعل فعله في لحظة النطق به، لكن أيضا، بما أن لحظة النطق هذه تندرج ضمن شعيرة، فإنها لا تكون لهذا السبب لحظةً غفلاً معزولة أو متفردة. حين تكون اللحظة مدرجة في طقس، أو جزءا من شعيرة، تكون عبارة عن تاريخية مكثفة condensed historicity. إنها تتخطى نفسها في اتجاهيْ الماضي والمستقبل؛ وأثر استدعاء السابق والآتي هو الذي يشكل لحظة النطق، وينفلت منها في الآن ذاته”.
Judith Butler (1997) Excitable Speech: A Politics of the Performative. New York: Routledge, p. 3.