عبد اللطيف الخمولي: مُمثّلٌ شامِلٌ يُفْتِي للرّهْبَنةِ في المَسرح

حوار – عبد العزيز جدير*

جسم يذكر بالعملاق، وملامح فلاح صاغتها تربة البلد. قمحي البشرة بدون ملامح لأنه يستقيها من النص ليجسدها والمشاعر. يتقدم نحو العقد الخامس من الحضور على الركح، وتشرب التجارب المتنوعة، يمتص رحيق التجربة تلو الأخرى، ثم يحوله عسلا على كل الركوح.. سطح هادئ، وباطن تعتمل داخله حمم فتحكم الحركة، تصوغ العبارة.. امتص لحظات ممتدة من تاريخ المسرح المغربي، ها هو يعيد لحظات منه كما نضحت مع العرق..

 

شوكة تنغرس وابتلاء.. 

– كيف شرع المسرح يسكن شخصك واهتمامك ليطوح بك العمر كله ولا توبة في الأفق؟
– كانت البداية من دار الشباب، لكن دار الشباب لم تكن هي البداية الأساسية، بل البداية الأساسية كانت عفوية تماما. هذه هي الحقيقة التي يشهد بها الواقع. تذكر أن الاحتفاء بعيد العرش خلال الستينيات والسبعينيات كان يخضع لطقوس محددة. كانت كل حومة تضرب قيطونها، وتقيم حفلتها كما تشاء. وكان أبناء الدرب يحضرون هذه الاحتفالات. دربنا؟ كان هو درب عرصة مسلامة، ويقع مقابل معرض الدار البيضاء. وتعرف أيضا أن يوم عيد العرش يستباح فيه الممنوع.

– هو يوم مسرحي بامتياز يجمع بين الحلقة، والعرض الكلاسيكي، والارتجال…
– بالفعل، ولذلك كان بالإمكان ضرب القيطون بمحاذاة المقاطعة، ما دمنا نحتفل، ونغني، ونعبر عن فرحنا وابتهاجنا فلا أحد من رجال السلطة يستطيع منعنا أو منع أي فعل تقريبا.. وهكذا بنينا قيطونا صغيرا على جدار المعرض الدولي. وكان القيمون على المعرض الدولي قد نظموا بمناسبة عيد العرش مباراة دولية في فن المصارعة. قد تكون السنة (1969) أو (1970) أو السنة التي تليها مباشرة. وكان الدخول لمشاهدة أطوار المصارعة بين الأبطال بالمجان. لم يكن لنا علم بما يدور داخل المعرض. كنا، نحن أبناء الدرب، نحتفي بدورنا بالمناسبة. فهذا جلب مخدة، وهذا قطعة خبز، وذلك قطعة لحم، والآخر حفنة فحم… وكنا قد قمنا، قبل يومين من يوم العيد، بحملة لتقطيع الجريد. فقد كان شارع مولاي يوسف كله مزدانا بأشجار النخيل. كنا طيلة اليومين نقطع جريد النخل أمام أنظار مخزني. فيوم العيد يستباح فيه الممنوع، تلك قاعدة حفظها المغاربة، وهي عرف. كنت يومها ابن الثالثة عشرة من عمري. كنا في قمة الاحتفاء والنشوة فسمعنا، ذات لحظة، ما يشبه الارتطام. وهو ارتطام الأجساد بالأرضية المغطاة بالخشب. فقد كانت وقائع المباريات قد انطلقت. كنت المشاغب الرقم واحد بالحومة. لم أكن عنيفا ولا محدث فتن، بل كثير الحركة و»نْقَايْمِي»، و»تَنْدِيرْ نْبَاصاتْ للدراري».. وكنت أريد أن أوقع بالدراري أولاد الدرب. فقلت لهم:
– ما رأيكُمْ أدْرَارِي، واش نقدروا ندخلوا لِلاَفْوَارْ؟ طبعا، كنت أعرف أنه يمنع على الأطفال الصغار دخول المعرض بمفردهم، ولكن يسمح لهم دخوله رفقة آبائهم أو أمهاتهم.. كان جواب الدراري: ندخل إلى المعرض. قلت بيني وبين نفسي فلأُعَقّد الأمر بعض الشيء، وهكذا قلت لهم:
– ولكن لا يجب أن ندخل كما نحن بل يجب أن ننتحل شخصيات معينة
فلا أحد يسمح لك أن تدخل وأنت متنكر: أطلقتَ لحية، أو «زرعت» شاربا، أو نفخت بطنك لتشبه أحد بطون الحرام.. والغاية أن لا يسمح لنا المخزني الواقف بالباب بالدخول فنرى من سيتوفق في الدخول بالرغم من ذلك.. وأربح الرهان.. اتفق الجميع على دخول المعرض. وكنت من بين الأطفال الذين تنكروا. كنت أرتدي جلباب جدي، ورُزَّتَهُ وعكازته، ووضعت على بطني وسادة.. وأذكر أن حانة كانت توجد بالقرب من الحي، فذهبنا إليها وجمعنا سدادات زجاجات الرُّوجْ (النبيذ الأحمر)، وأحرقناها ورسمنا بها اللحى والشوارب… واتجهنا نحو باب المعرض. ولما بلغنا الباب الرئيسي المؤدي إلى الحلبة أو المنصة تراءى لنا عدد من المخازنية. لحظتها، كنت أول من تراجع خائفا ولسان حالي يقول إن تعرضوا للضرب فلا ضرر في ذلك، المهم أن أنجو أنا.. كنا يومها نسمي المخازنية المْرُودْ. لما رآنا المْرُودْ متنكرين غرقوا في الضحك: كاخ، كاخ، كاخ.. وقالوا لنا مرحبا، «زِيدُوا دُخْلوا». وتعرف أن المخزني يمثل بالنسبة للأطفال سلطة قاهرة، فهو يضرب بل يسلخ. ولما تطوعت هذه السلطة القاهرة واستدعتنا للدخول وسمحت لنا بولوج مكان محترم وخاص بالكبار فقد شعرنا بالزهو. بل وشعرنا بأن بإمكاننا فعل كل شيء. فقد مُنحنا (اللِيسِّي بَّاسِي)، لذلك لم نتجه صوب المتفرجين للجلوس بينهم، بل اتجهنا نحو المنصة حيث تدور وقائع المباراة، الرِينْگْ، حيث تدور المعركة. كان بالحلبة مصارعان، هما»طاوا» الهندي الجنسية، و»السوسي لاَمَارَانْ»، والحكم طبعا. وكان هناك مصارع عراقي شهير جدا يدعى «مصطفى شيخان». وقد كنا نحن الأطفال الثلاثة، الذين تنكروا في لباس وركبوا رهان الجرأة والهبال. وهكذا اتجه واحد منا نحو المصارع «السوسي»، والثاني نحو «طاوا»، وقصد الثالث الحكم. وهكذا أصبحنا جزءا من طقس الرينگ…

مرتجلة من يركب البحر..

– وطقس الفرجة أيضا، يرتدي رداء مرتجلة في هذه الحالة… مصارعون محترفون وآخرون هواة بالصدفة..
– تماما، الله يحفظك. والتصق كل منا بخصمه وبدأ يناوشه بعفوية. وبعد لحظة، لاحظ الحكم أننا تجاوزنا الحد، فقال لنا آمرا: «يا الله نَزْلُوا فْحَلاَتْكُمْ». فنزلنا وغادرنا الرينگ. وتعالى تصفيق الناس وصفير بعضهم، فقد كانوا اعتقدوا أن المشهد جزء من اللعبة. لكن كل ما قمنا به جزء من «تْبَرْهِيشْ» أملته علينا طفولتنا ونزقها، والمناسبة الاستثنائية. وقد تبعنا أحد الإخوان، رحمه الله، وهو إطار بوزارة الشبيبة والرياضة، ويسمى الحاج مختار الحمداوي. رأى ما سميتَهُ المرتجلة على ركح الرينگ، تبعنا لما غادرنا المكان وتجاوزنا باب المعرض. نادى علينا، فخاف الاثنان اللذان كانا معي وأطلقا ساقيهما للريح، لأن شعر الحاج كان أبيض، ولون عينيه أزرق فاعتقدا أنه كوميسير.. وفوق كل ذي سلطة تسليط. لم أهرب من هول المفاجأة وخيانة رجلي. والتزمت مكاني. تقدم نحوي الرجل وقال لي: «آجي أوَلْدِي، تَدِّيرُوا المسرح؟» ومن شدة الخوف، قلت له: «أَشْنُو هو المسرح؟» قال كل ما مارستموه على الرينگ، أين تعلمتموه؟ في أي مكان تمارسون المسرح؟ قلت له: «والله ما تَنْدِيرُوا المسرح. والله ما تَنَعْرَفْ المسرح». وأكثرت من القسم خوفا. فقد كنت أرى في الرجل كوميسيرا. ولا ينفع أمامه إلا الإنكار، والسباحة ضد الاعتراف. ولم نكن نعرف المسرح ولا نمارسه بالفعل. قال لي: «وَالُو ما تَدِّيروا المسرح؟» كررت مرات ليطمئن قلبه: «والو». ثم قال: «آجي، تعرفْ أين توجد «كازا بْلاَنْكِيزْ»؟» قلت له: أعرفها. أخرج من جيبه ورقة، ثم قلما وكتب عليها: المختار الحمداوي. سلمني إياها. قال لي: غدا على الساعة العاشرة، أنتظرك وأصدقاءك.

ركح السياسي والثقافي

وسأعرف فيما بعد أنه خلال الوقت الذي أمضيته رفقة الحاج المختار كان صديقاي الهاربان من رجل السلطة المفترض قد ذهبا إلى بيتنا وقالا للوالدة إن ابنك قد اعتقلته الشرطة. ولما ودعني الحاج المختار وسرت خطوات صوب بيتنا التقيت والدتي، وجدتي، وأختيّ يجرين في اتجاه مركز الشرطة.

– وهو كوميسير بالفعل، لكن يشتغل بالمسرح. ألم يستمر الاعتقال حتى الآن؟
– بالفعل.. بالفعل. ولأطمئن طاقم الأسرة المرتعب قلت لهن إن الرجل ليس ضابط شرطة بل هو مدير «دار الشباب». وعرضت الورقة على أنظار الطاقم وبقية زملائي من هاربين وغير ملتحقين بالمعرض من غير المقنعين. ولما عدنا، نحن الأطفال إلى متابعة فقرات الحفل بقيطوننا، حدثت أترابي عن الوقائع بالتفصيل قالوا: «هادا باغي يِقَوْلَبْنا، غدا نَمْشِيوْا غَدينْ البوليس يِشَدُّونا ويِدِّيوْنَا للكوميسيرية».
والسبب؟ فقد أحدثنا فوضى داخل مكان محترم. احتفظت بتلك الورقة في جيبي، وقد طردت النوم من جفني طيلة تلك الليلة. قضيت الليلة أصوغ السيناريو عقب الآخر: هنا استقبلني باحترام وأيقنت أن حديثه صادق، وهنا أمر بعض الرجال فسلخوني، وهنا وضعوني داخل غرفة مظلمة بقسم الشرطة، هنا عرضوني على المحكمة..

شخصيات تبحث عن دور..

– كأنك تعيش في طفولتك لحظة تكريمك، فتقدم أمامك مشاهد من ريبرتوارك الخاص بكامله…
– تلك لحظة أحن إليها: لحظة تكريم حقيقية، والله. على أي.. لما أطلت تباشير الصباح قررت أن أذهب إلى الحاج المختار، وكنت على يقين أن بقية «الدراري» لن يذهبوا إليه خوفا منه لا لبطولة تسكن قلوبهم. وأذكر أني كنت بالموعد ساعة قبل الوقت المحدد، فقد اتخذت مكانا بحديقة «الكازا بلانكيز» على الساعة التاسعة. وظللت أحرس الباب لمعرفة نوعية المترددين على المكان. فإذا رأيت الرجل يدخل المكان فهو موظف بالشبيبة والرياضة، وإذا لم أره فهناك لعبة ما قد يكون بصدد تدبيرها.. وذات لحظة رأيت الحاج المختار يقترب من باب الإدارة ويسلم عليه الشاويش فيدخلان معا.. تبخر بعض الشك. وبعد مرور الوقت، سألت شخصا عن الساعة، فقال لي: «العاشرة»، فقررت الدخول. ولما سلمت على الحاج سألني: «فِينْ أصحابكْ؟» قلت له لقد خافوا وظنوا أن في الأمر دسيسة. وأنا غامرت بالمجيء، لأكون صريحا». قال جئت لتُعْتقل بدلا عنهم؟ ضحك، ثم رفع سماعة التليفون، ونادى على مدير دار الشباب الزرقطوني، وقد كانت دشنت سنة (1971)، وقال له بالحرف: «يجب أن تخلق نواة «نادي المسرح»». إذ كانت دار الشباب تلك حديثة العهد ولم تنشئ بعد نوادي. وأضاف قائلا: «ويجب عليك أن تعثر على أستاذ لتلقين المسرح، فقد التقيت بالأمس مجموعة من «الوْلِيدَاتْ، وأعجبني لعبهم، ولا أريد أن يأكلهم الضياع، وسأبعث لك بهؤلاء الوليدات غدا على الساعة العاشرة». التقط ورقة من فوق المكتب، وكتب عليها ما تيسر من كلمات، ناولني إياها، وانصرفت.
لما اقتربت من الحديقة فوجئت بكل أصدقائي وقد أخفى كل واحد منهم نفسه خلف شجرة ويطل برأسه بين الفينة والأخرى. كانوا ينتظرون أن تأتي الشرطة لإلقاء القبض علي. ولما أيقنوا بسلامتي جروا نحوي. «آ مصطفى، آ بَّا صَطُّوف ماذا حدث. احك لنا». فقد كان الأطفال ينادونني في الدرب مصطفى وليس عبد اللطيف. عرضت عليهم الورقة التي كتبها الحاج المختار، وقلت لهم سنُؤسس فرقة، وسنمثل أدوارا.. وقد كان يعبر حومتنا ممثلون منهم «سعاد صابر»، و»نعيمة إلياس» وكانت جارتنا، و»مصطفى سلمات» وكان ابن الحومة، كما كان «مصطفى مستعد»، الذي كان يشتغل مع عبد الرؤوف يومها، ابن الحومة، أيضا. فقد كنا ألفنا أن نرى مجموعة من الممثلين يمرون بالحي، ويمرون من أمامنا، وهم في زينة وأناقة.. ولم نكن نفكر أننا قد نسير خطوات في الدرب ذاته.. فرح الدراري كثيرا بما سمعوا..

حبوٌ في رحاب الركح

وصبيحة الغد، ذهبنا إلى «دار الشباب»، فاستقبلنا المدير، رحمه الله، وكان يسمى عبد الوهاب الشاي. وكان أول نشاط قمنا به، أننا ذهبنا إلى معمل «صوماكا»، وطلبنا أن نُزَوَّد بالخشب، ولما عدنا أبدع عبد الوهاب خشبة مسرح. قمنا بتقطيع الخشب بمساعدة المكلف بالديكور بالمسرح البلدي، والممثل المرحوم الشاوي عزيز. والشاوي هذا هو من تكفل بنا على مستوى التكوين المسرحي والتأطير. وبدأ بتلقيننا التكوين التقني: كيف ينجز الديكور. وقد كان يومها نشأ نوع من مسرح جديد نسبيا من رجاله سعد الله عزيز، وخديجة أسد، وكانا لا يزالان صغيري السن، وأبو القناطر، وبن زيدان، والبختي… وكانوا يشتغلون كفرقة مسرحية محترفة بالدار البيضاء.. وكان الراحل الشاوي هو من يقوم بإنجاز الديكور. وهكذا جعل منا، في البداية، «مَانُوفْرِيِّي»: يد عاملة تشتغل إلى جانبه ومعه. ومن حسن حظنا كانت تلك الفرقة ستقوم بأول تجربة لإنجاز (scène tournante) ركح يدور وهو الأول في المغرب. وسينجز ذلك الركح الذي يدور أول فرقة مغربية ستمثل فوقه. أنجزه الشاوي. وكنا نحن، تلك المجموعة المتعلمة من يُديره. ومن هنا بدأت انطلاقتنا الفعلية والحقيقية. رافقنا تلك الفرقة خلال جولاتها عبر المغرب، وكان معنا الحريشي رحمه الله.
وبالمناسبة، كان الأستاذ الحريشي يدرسني بالتعليم الإعدادي، وعندما أغادر القسم بمناسبة بداية الجولة المسرحية يجدني أركب معه الحافلة التي تنقل الفرقة، فكان يشرع يكيل لي النقد والشتائم: «واشْ تَّا باغي تخْرُجْ على راسك. رَا هادْ المسرح ما فِيهْ وَالُو. ما فِيهْ حتى شِي رْبَاحْ. أنا موظف، ولي راتب. تابع دراستك، وحين تحصل على شهادة الباكلوريا، لحظتها يمكنك الانتماء إلى المسرح عبر الدراسة ثم الأداء». وبدأت أكون آخر الراكبين، وأجلس بآخر مقعد حتى لا ألتقيه وأسمع منه الانتقاد نفسه.

رد فعل من فصل واحد

– لا بد أن هناك لحظات أخرى رسخت الانطلاقة، ورعت بذرة المسرح في النفس..
– بالفعل، ما دمنا نشتغل مع محترفين: سلمات كان يشتغل مع الطيب الصديقي، ونعيمة إلياس تشتغل مع البدوي، ومستعد يشتغل مع عبد الرؤوف.. فقد كنا نعرف كل هذا ونراه، وعرفنا أننا نشتغل مع فرقة أعضاؤها أناس تخرجوا من المعهد البلدي. وينعمون بحس احترافي. وكنا في مرحلة الشباب، فاعتقدنا أن مسألة التمثيل سهلة للغاية، وأن المسرح ممارسة تدثرها البساطة واليسر، وطريقه معبد، ففكرنا أن نؤسس فرقة. ولعل ما جعلنا نؤسس فرقة مسرحية أنه كانت هناك جولة مسرحية بتونس أو الجزائر، ولم تعمد الفرقة إلى أخذنا معها ضمن الجولة. وبحكم العقلية التي تحكم تصرفاتنا، واللجوء إلى رد الفعل العاطفي، وتأويلنا الخاطئ لذلك:
«إننا ضحية نوع من الاحتقار، فليكن رد الفعل بمستوى الإهانة التي تعرضنا لها. حين تعود الفرقة تجدنا قد أسسنا فرقة تنافس فرقتهم».
وبالفعل، فحين عادت الفرقة من جولتها خارج المغرب علمت أننا أسسنا فرقتنا. وكان ضمن فرقتنا الدكتور محمد الأزهر، وصديق اسمه خسوان حميد، والدكتور أمال أحمد، الذي كان يدرّس بالمعهد. وكان معنا أيضا عوزري عبد الواحد. وشارك ككومبارس في مسرحية «الدزيرة». وأصدقاء آخرين غادروا مجال المسرح. وقد سمينا فرقتنا «المسرح الشامل».

غمزة نحو عسكر الجزائر

– لأن أعضاء الفرقة ينجزون العرض من الألف إلى الياء: من بناء الديكور إلى تقديم الفرجة..
– تماما، فاختيار الاسم يعود إلى أننا كنا نشتغل (ouvriers) كعمال، ونمثل.. أي أننا نقوم بكل ما يتطلبه إنجاز مسرحية. فنحن نمارس المسرح الشامل. وبالفعل، فقد كان أول عمل قدمناه هو «الدزيرة» مع برودان. ويقيم بفرنسا الآن، فهو من كتب المسرحية وأخرجها. وقد شاركنا بهذه المسرحية بالمهرجان الوطني، مباشرة. وقد كانت، يومها، قضية الصحراء المغربية مطروحة على بساط الواقع والصراع الإقليمي. وكانت شخوص المسرحية لا تحمل أسماء بل حروفا تحيل عليها. ومنها الألف واللام والدال والزاي والياء والراء والتاء. وعندما تجمع هذه الحروف فيما بينها تُشكل كلمة «الدزيرة». وهؤلاء يمثلون مجموعة من الناس حوصروا في جزيرة ويعانون من الاضطهاد. وقد دفعت بهم كثرة الاضطهاد إلى الانتفاضة. وقد كانت فرقتنا هذه تتراوح أعمار ممثليها ما بين (12) و(18) سنة. وقد حصل ممثل من بيننا على جائزة أحسن ممثل، وهو حسن نفالي. وكان عمره (12) عاما. حصل عليها مناصفة والنقري، وقد توفاه الله بفرنسا. حصلا على الجائزة بالمهرجان الوطني. وقد أديا دور طفلين يبيعان الجرائد، والجريدة الرسمية، وأخبار الشرق والغرب.

رهين الركحين

– ثم التحقت بمدرسة المعلمين بالدار البيضاء، وشاركت في أعمال مسرحية معينة قبل الالتحاق بالمدرسة، وجاءت بعد تجربة «الدزيرة»؟
– في الغالب كانت تجارب تلك الفترة عادية جدا. لكن التجارب الحقيقية هي التي بدأت من يوم الالتحاق بمدرسة المعلمين. فقد كنت خلال الفترة السابقة كلها المسئول عن الفرقة. ويوم الالتحاق كتبت تفويضا لأمل ليحل محلي مسئولا عنها، ويسير الفرقة وقد يجدد المكتب إن رأى ضرورة لذلك، خلال تانك السنتين. وقد أثمر ذلك أن عرف «المسرح الشامل» قفزة أخرى، إذ انفتح على كتابات روائيين كتبوا مسرحيات منها: «مدينة في الكف الأيمن»، و»زقاق المدق».. وحققت فرقة «المسرح الشامل» نجاحات كبيرة ومدوية. وخلال هذه الفترة، كان للدار البيضاء فرقا لها وزن كبير، وتجارب عريضة. ومن هذه الفرق يمكن أن نذكر «السلام البرنوصي»، وفرقة «العروبة»، وفرقة عبد العظيم الشناوي، وفرقة البدوي.. فرق لها حضور قوي، وحضورها الجماهيري قوي أيضا.

– وفرقة الطيب الصديقي التي هي مدرسته أيضا..
– الصديقي حاضر بالرغم من عدم الإشارة إليه. فهو مدرسة كاملة الأركان، وهو أب المسرح والمسرحيين. ومستواه يعتبر مستوى أكاديميا، ومعظم أعضاء فرقتنا نفسها من تلامذته بشكل من الأشكال. وبعضهم حضر ورشة معه ومنهم خسوان رحمه الله، والأزهر.. بالرغم من أنهما لم يتما التكوين. وبعد السنتين كان نصيبي من التعيين مدينة ورزازات. ومعنى ذلك صعوبة الاستمرار في العناية بالمسرح. وهناك لم يعد بالإمكان الغوص في نشاط مسرحي إلا عبر التنشيط الفني التربوي لفائدة التلاميذ. خاصة أنني أُلقي بي في دوار لا يملك الناس به جهاز تلفزيون ولا ما يذكرك بالقرن العشرين..

– بعد قضاء سنة بورزازات معلما، انتقلت إلى الدار البيضاء. وعدت إلى الغوص في الركح فلا شفاء من آلامه..
– يومها اتصل بي الإخوة أعضاء الفرقة المسرحية، وكان الانشقاق قد شق طريقه بين معظمهم وسود القلوب وعيون الركح. لما سمعوا بعودتي إلى الدار البيضاء، زارني بعضهم وحكوا لي سبب الانشقاق. قيل لي إن الشخص الذي تركت له مسؤولية الفرقة يحصل النقود وحده، ولا يؤدي لنا أجورنا مقابل عملنا. ثم اتصلت به شخصيا، وعلى انفراد، وأخبرته بفحوى ما سمعت فحكى لي حكايته. قال: «إنني أتصل بوزارة الثقافة، وأقدم رشاوى لفلان وفلان، للحصول على عروض..» ثم سألته عن الآفاق، قال لي بصريح العبارة: «لن أتخلى عن الفرقة مهما كلف الثمن». عدت إلى بقية الأصدقاء، الأعضاء وسألتهم: هل تريدون الاستمرار في التجربة رفقة صديقكم أم لا؟ إذا أردتم استئناف التجربة والتقدم بها خطوات أخرى، فالرأي رأيكم، والخيار خياركم، أما إذا أردتم الانفصال عنه والدخول في تجربة جديدة، فباسم الله. رد الجميع فلندخل تجربة جديدة. وهكذا أسست فرقة سميتها «مسرح الدائرة».

كأنما لجمُ الطفل بعدة أَلْجِمة..

– كيف كان العمل، ما الأعمال التي قدمت؟
– أولا لعبنا ريبرتوار الفنان الطيب لعلج: «اليانصيب»، والبلغة المسحورة».. وغير ذلك، لطابعها الكوميدي.

– هل تمت استشارة لعلج قبل الخوض في تقديم ريببرتواره؟
– لا، فقد انضم إلينا الشاوي، وهو صديق الفنان لعلج، وكان معه بالرباط ومارس معه في المعمورة، فلم يكن إشكال في تقديم ريببرتواره. ثم انتقلنا إلى مرحلة أخرى حيث بدأنا نؤلف مسرحيات ومنها مسرحية «دال سين» في إطار مسرح الهواة. ثم لاحظت من بعد أن مجال مسرح الطفل، بالدار البيضاء، قد تعرض للفساد. نوع الفساد؟ بدأ عدد من المنخرطين في المجال يستغلون الطفل باسم الفرجة. مثلا، بدأ ثلاثة أشخاص (كْلُونْ) يعلنون عبر توزيع أوراق إعلانية، إشهارية رسم عليها أنف بمختلف الأماكن، فيلزم الأطفال آباءهم وأمهاتهم بالرغبة في مشاهدة العرض اعتقادا منهم أن الأمر يتعلق بسيرك وفرجة حقيقية، وكْلُونْ أو مهرج حقيقي. وهناك وعود بهدايا وجوائز.. بينما في الواقع يتعلق الأمر بثلاثة متهافتين يدعون أنهم كْلُوناتْ. وهكذا أصبح الآباء ملزمين بأخذ أبنائهم إلى المسرح، طمعا في منح أبنائهم فرجة حقيقية. لكن حين ينتهي «العرض» أو «الفرجة» تقرأ على وجه الآباء التذمر وتسمعه ينضح بين كلماتهم وهم يغادرون المسرح. كنت أجلس بمقهى تقع أمام بناية المسرح، التي تقع بشارع الجيش الملكي. كنت يومها أشتغل بالتعليم، وكنا أسسنا خلية سميناها «المسرح المدرسي». حسن النفالي، سالم أكويندي، الصخور، والإخوان ناصر الموجودين بالرباط، وأنا. فقد كنا من أسس المسرح المدرسي وضعنا قانونه، ووضعنا له مرتكزات.. ثم ضغطنا على السي سالم اكويندي ليضع له مقررا يدرس بالسنة الأولى والسنة الثانية. ثم دخلنا معركة… وبدأ المسرح المدرسي يدرس بالسنة الأولى.

حفل ميلاد السينوغرافيا

– ثم غيرت اسم فرقة «مسرح الدائرة» واخترت «الكاليدوسكوب»، لأن أحد أصدقائك أوحى لك بذلك، في ظروف محددة، وقدمت الفرقة عمل «ابن الرومي في مدن الصفيح»
– بالفعل، نجيب غلال هو من كان وراء ذلك. للتاريخ، فزوجته «بتينا»، هي التي أدخلت كلمة سينوغرافيا إلى المغرب. فكلمة سينوغرافيا ولدت مع دخول طلبة المعهد مجال المسرح، لكن قبل بزوغ طلبة المعهد، استعملتها السيدة بتينا، فقد كان ملصق مسرحية «ابن الرومي في مدن الصفيح» أول ملصق كتبت عليه كلمة سينوغرافيا: «سينوغرافيا: بتينا ماسة غلال». ولما جلست إلى نجيب بعد العرض قال لي، هذه الفرقة موجودة في فرنسا فلم لا تنشئ فرعا لها، هنا بالدار البيضاء حتى تفتح لنا أفقا للتعاون والتشارك والإنتاج المشترك. فعمدت إلى تحويل «الدائرة» إلى «كاليدوسكوب». ولما غيرت الاسم، طرأ على البال تغيير التخصص أيضا وولوج عالم «مسرح الطفل». فقد كانت زوجة نجيب تبدع في صنع الأقنعة الكبيرة، والدمى الكبيرة، فقلت لا بد أن تفيدني. لكن تبين من بعد أن العمل الذي أنجزه معنا كان ضمن مشروع، لم نتبين تفاصيله، ولما عاد إلى فرنسا لم يعد بيننا تواصل حقيقي.. فبدأت أشتغل على مستوى مسرح الطفل الاحترافي.

وكان الحصاد الطفل وفيرا

– هل كانت هناك إستراتيجية للعمل، ما منبع النصوص التي ستقدمها الفرقة؟
– فكرت أن ننشئ فرقة احترافية مائة في المائة، ومعنى ذلك أن الذين سيشتغلون معنا يجب أن يكونوا من ممارسي المسرح. وهكذا اشتغلت معنا السعدية أزگون، نوالي فاطمة، حورية نجاة، عبد ربه، نزهة بدر، عايشة… وهؤلاء كلهم ممثلون محترفون. وكنت أبحث عن نصوص فيها نوع من الجدة. النص الأول، مثلا، تجربة على حافة الجنون، هو إنجاز أول أوبريت غنائي للأطفال كعمل مسرحي، وقد احتل الجوق الموسيقي جانبا من الركح لنغني مباشرة وليس عبر نظام «البلاي باك». وكان سلمات، رحمه الله، يعزف الليرة مستخرجا منها إيقاع جيلالة. وكانت الأوبريت تشتمل على مقطع للحَيْرَة، فكان سلامات هو من يعزفه، وكان يكلف أيضا بالإيقاع «كَمْوَازْنِي» ويعزف خلال مشهد يُستعمل فيه «البندير». ثم قدمنا مسرحية باللغة الفصحي، في شكل أوبريت، عنونها «عندما يتكلم الصغار»، وموضوعها محاكمة الصغار لآبائهم عن خصال يرغب الآباء في غرسها في نفوس الأبناء: ومنها الصدق، والإخلاص، والنزاهة، والأمانة… مع العلم أن الآباء لا يتصفون بهذه الخصال في سلوكهم اليومي. مثلا، تطرق الجارة باب جارتها، فتقول هذه لابنتها قولي لها إنني لست هنا، وهذا هو الكذب عينه. وقد اتخذ العمل شكلا فكاهيا. ولم يشتغل في هذه المسرحية الممثلون المحترفون، بل الأطفال، وعبد ربه، ومجموعة من الملحنين. ثم قدمنا أول عمل احترافي، وهو «الذئب المهزوم». وهو عمل قدمناه عبر جولة في المغرب، ثم في الجزائر، وتونس. وفي الجزائر، شاركنا في مهرجان عربي لمسرح الطفل، وحصلنا على كل الجوائز. حصل ذلك في مدينة «أرزيو»: جائزة أحسن ممثل، حصلت عليها شخصيا، وجائزة أحسن ممثلة حصلت عليها شابة من الفرقة، وجائزة أحسن موسيقى، وجائزة أحسن إخراج، وجائزة أحسن عمل متكامل. حصدنا الجوائز الخمس بأكملها.

– من كان صاحب النص؟
– صاحب النص هو سعيد تاشفيني، ولكنه مأخوذ عن فكرة لرجل تعليم، وهو كاتب، وشاعر، وزجال… وبعد نجاح «الذئب المهزوم»، اشتغلنا على نص (le petit chaperon rouge)، وسميناه «حمرية»، وقد كتب النص سالم أكويندي. ولكننا اشتغلنا عليه بشكل احترافي مفتوح، وأنجزنا سينوغرافيا رائعة، أنجزتها سيدة تدرس الكوستيم والسينوغرافيا بالمعهد العالي بالرباط، واسمها مدام ناصيف أو واصف. وهي بولونية الجنسية. وهي التي أنجزت الكوستيم للمسرحية. وقد كتب كلمات الأغاني وغناها الدرهم. وقد ضمن هذا الانفتاح نجاح المسرحية مائة في المائة.

سن تقليد تحت ظل الصديقي

– ثم استبدت بك موجات المسرح الاحترافي والسينما والمسرح فابتعدت نسبيا عن مسرح الطفل، بعد هذه التجربة، وانخرطت في تجربة «مسرح اليوم». استمرت التجربة عقدا من الزمن، لو نسترجع كيف انخرطت في هذه التجربة؟ ..
– كان عوزري قد ذهب إلى فرنسا، وكنا قبل ذهابه قد هيأنا عملا مسرحيا عنوانه «وثيقة سفر»، وهو عمل يتعرض للثورة الفلسطينية، لكاتب فلسطيني بلا ريب، وحاول عوزري مسرحته. وقد اشتغلنا على النص، وعرضناه. ثم رحل إلى فرنسا للدراسة. وقد قضى هناك سنتين أو ثلاث. ولما عاد كان في اعتقاده أن الإخوان الذين كانوا يمارسون المسرح لا يزالون يتابعون الممارسة. وكانت رغبته أن يعود إلى الممارسة مع الفرقة ويطورها. لكن، لما عاد وجد الفرقة قد تغيرت وانحلت تقريبا. انتقل الأزهر إلى الوظيفة بسلك الشرطة، واقتفى أثره بلال أيضا، وانتقل خسوان إلى عفو ربه… ولم يبق أحد من أعضاء الفرقة يمارس باستثناء عبد ربه. وشخص واحد لا يمكن أن يخلق ربيع فرقة. فالتجأ عوزري إلى الطيب الصديقي، ما دام قد أنجز بحثا عن الطيب الصديقي واعتبره تقديم أوراق الاعتماد لديه، فاقترح عليه الصديقي أن ينجز عملا. وهو يؤمن بالعمل المنجز لا بالحديث عن المشاريع. فذهب عوزري إلى الرباط، وهناك اتصل بصديقه عباس إبراهيم، وكانت لعباس خلية ورشة عمل للمسرح. كان من بين أعضائها الركاكنة، وحسن مكيات، ورشيد الوالي، ومحمد خيي وغيرهم كثير.. وأعلن عوزري عن كاستينغ، ويوم الكاستينغ حضر البسطاوي. وهكذا انصب اختياره على بسطاوي، وخيي، والوالي في البداية، والركاكنة.. لكن في الأخير، بقي الخمولي، والبسطاوي، وسلامات من الدار البيضاء. سلمات اقترحه الصديقي لأنه صديقه ولأنه كفيل بمساعدة عوزري وتدليل كل العقبات التي تعترض ممارسته. فهو سليل مدرسة الصديقي، وهو صاحب تجربة. وهكذا انطلقت عتبة التجربة من خلال كتاب عنوانه «ديك ومائة دجاجة»، انتخب منه عددا من المقالات الصحافية ومسرحها. انتخبها من كتاب الماغوط، وسماها «حكايات بلا حدود». هكذا انطلقت الفرقة وتجربتها بمجموعة عباس إبراهيم رحمه الله. ثم زارتنا ثورية وشاهدت العمل. وأعجبها العمل..

– هل كانت العلاقة قد قامت بين ثريا وعوزري، يومها؟..
– لست أدري، قد تكون نشأت. فهي كانت تتردد على الطيب، وعوزري شرع يتردد عليه أيضا. ثم اختار ثريا للعب ضمن الفرقة التي تغير شكلها وبنيتها. ولحظتها، أسسا معا جمعية اسمها «مسرح اليوم»، وهو الاسم الذي أطلق على الفرقة. وكنا يومها سبعة أعضاء. وبعد «حكايات بلا حدود» هيأنا مسرحية بعنوان «بوغابة»

– وهي التي استنبتها محمد قاوتي عن نص بريشت «السيد بانتيلا وتابعه ماتي»..
– بالضبط، بسطاوي، والخمولي، وثريا، وبعض الشباب من خريجي المعهد لأن عوزري كان يحتل وظيفة نائب مدير المعهد، بدري. وقد حققت مسرحية «بوغابة» نجاحا باهرا، حقيقة. وقدمناها خارج المغرب بالأردن أو تونس.

فوضى الهواة وانضباط الاحتراف

– بالنسبة لتجربتك المسرحية الخاصة، ماذا مثلت هذه المسرحية، هل أغنت جانبا منها أم كانت مسرحية مثل غيرها تمثل إضافة رقم آخر إلى تجربة تأسست..
– الجميل بالنسبة لعبد الواحد أنه حمل معه أفكارا أكاديمية من فرنسا، بينما كانت تجربتنا تقوم على تجربة الهواة، وهي تجربة عادية، وبسيطة، تقوم على الذاتية والموهبة، وهو قد صقل هذه التجربة بما حمله معه من نظريات.. وكان يهتم بإدارة الممثل، التي لاحت في أفق المسرح.. وكيف يجب أن يتعامل المخرج مع الممثل.

– ما الذي أخذته بالضبط مما تشير إليه الآن ويحمله عوزري وأحسست أنه أفاد تجربتك أو طورها؟
– ما استفدته هو كيف تؤدي بشكل احترافي. كيف تتحرر من تجربتك كممثل هاو، وتمارس المسرح كممثل محترف. تتحرر من فوضاك الخاصة، وهي جزء من تجربة الهواة، بالرغم من أن فترة الهواة دثرها الحب الكبير للمسرح، والصدق أيضا.. ومع عوزري هناك الصدق، ولكن بصورته الاحترافية، صورته التي تطبعها الجدية.. وهذا هو الفرق بين التجربتين. لما انتهينا من تجربة «بوغابة»، بدا أن الفرقة تحتاج لحظة أخذ النفس. هكذا انتقلت إلى نص «النمرود في هوليود»، وهو نص لعبد الكريم برشيد. وقد شكل الثالوث: بسطاوي، وثريا، والخمولي دعامة النص الأساسية. ثم كان معنا عبد الكبير الركاكنة، وعبد الكريم من فرقة جيلالة.. فأعطىت هذه المسرحية قفزة نوعية جديدة للفرقة، ومتعت «مسرح اليوم» بشعبية كبيرة. وهكذا دخلنا تجربة أصبحت تقليدا في المغرب، وهي تقديم ثلاثة عروض متتابعة، ليلة الجمعة والسبت والأحد، في كل قاعة أو مسرح. وبدأ الجمهور يعرف أن هذه المسرحية ستقدم خلال ثلاث ليال، ويحجز التذكرة لليلة التي تناسبه. وشرع المسرح يعرف حركية أكبر خلقتها الفرقة مع جمهورها والمدن التي تزورها. ثم انتقلت الفرقة إلى عمل آخر، مغاير عنوانه «نركبو لهبال»، يؤدي أدواره ثريا، وبسطاوي والخمولي فقط. هي استراحة الإدارة من التعامل مع مجموعة أكبر من الممثلين، وليست استراحة الثالوث المذكور.

هل يليق القفص بالطائر؟

– يبدو أن التجربة أو العرض الذي يقوم على ثلاثة أشخاص يتطلب نفسا أكبر، وصعوبة أوسع..
– بالفعل، هي تجربة «قاصحة»، متعبة ومضنية يكابدها عدد الممثلين المحدود، ثم جاءت تجربة «سويرتي مولانا»، وبعدها «طير الليل»، وتتابعت التجارب المسرحية، والأدوار المشخصة، والمشاعر.. وذات لحظة، اتضح أن هناك التزاما شخصيا بالنسبة لأعضاء الفرقة أنه لا يمكن أن يشتغل أي منهم مع أي مخرج آخر، أو يمثل مع فرقة أخرى. فقد كانت الفرقة تهيء لممثليها برنامجا، ومعنى ذلك أنها تضمن لك ثلاثين أو أربعين عرضا خلال السنة. بينما في تجربة الممثل، الاحتراف يعني أن تنتقل من مرحلة إلى مرحلة. مثلا يجب أن نعانق تجارب في مجال السينما، ونتعرف على تجارب في التلفزيون..
لكن هذه التجارب كانت ممنوعة علينا منعا باتا. وأصبحت المعاناة قاسية، وظالمة، وتولد شعورا بالتملك، والاحتقار، والحرمان من إغناء الموهبة، ومن العمل، ومن مطاردة الرزق، وهيمن علينا الشعور بالخضوع أو الإخضاع ثم تضاعف عندنا الشعور بسلب الحربة..

– عموما في الغرب، يمكن أن تفرض الفرقة على أعضائها هذا النظام، برغبة منهم واتفاق بين الطرفين، ولكن بعد أن تقدم لهم أجرا شهريا عدا تقديم العروض..
– وهذا أمر معقول حتى لا يشعر أي طرف بالغبن.. وهكذا، ولهذه الأسباب اتخذ بسطاوي قرار الابتعاد عن الفرقة واسترجاع حريته. وقد حدثني في الأمر، ثم اتخذ قراره. وقد قلت له إن تربيتي يحكمها نوع من طغيان الجانب الأخلاقي.. ثم إن انصرفنا معا، ونحن نمثل عماد الفرقة فكأننا نرغب في تكسير أجنحتها والحكم عليها بالتوقف. قال لي قراري نافذ المفعول ولا راد لقدره. قلت له غادر الفرقة الآن، وأنا أغادرها السنة القادمة حتى لا يبدو اتفاق بيننا وتخطيط مسبق. وهو على حق، فقد امتدت تجربته، وتعمقت وتشرب فن الأداء، وعرف طاقته، وحدودها، وله الحق في التحليق كما يشاء. لا أن يفرض عليه مستوى العلو والارتفاع، وتقلم حرية الانطلاق، ويفرض عليه البقاء تحت الحجر وهو تجاوز سن الرشد.. وكان فنانا مطلوبا، ووجها عليه الإقبال، وكانت تتاح له فرص كثيرة ولم يكن عوزري يسمح له بذلك. غادر الفرقة تلك السنة، وهي السنة التي قدمنا خلالها مسرحية «طير الليل». وبعد سنة من استرجاع بسطاوي لحريته، غادرت الفرقة واسترجعت حريتي، أيضا. وهكذا قدمت ثريا مسرحيات من مثل «ياك غير أنا»، و»أربع ساعات في شاتيلا».. وبدأت تمارس المسرح الذي يعتمد على شخصية واحدة..

شتيلا تغني نصف الفرجة

– المسرح الفَرْدِي، كما يقول الطيب الصديقي… وربما حققت بذلك نوعا من المساواة، فلم يعد يقدمه الزروالي وحده كرجل بل أيضا سيدة.. وبالمناسبة فقد اعتديا، عوزري وثريا، على نص «أربع ساعات في شاتيلا» (2001)، فقد قدمه للمسرح الفرنسي المخرج «ألان ميلانتي»، (ودراماتورجيا «جيروم هانكس»، وسينوغرافيا «دانيال جوانوتو») وقدم نصا باذخا شخصت الدور فيه الفنانة الموهوبة حقا «كلوتيلد مولي»، سنة (1991).. ونعرف أن العبرة بمزيد من الإبداع والتجاوز وليس توظيف تيمة فلسطين.. ثم إن المحاولة الثانية، أتت بعد عقد من الزمن، يجب أن تَجُبَّ الأولى إبداعا أو تسمو إليها وذلك أضعف الإيمان..

حكايات الهامش المركزي

– لا أعرف هذا الأمر، ولا أظن أن كثيرا من المتتبعين يعرفونه.. ولم أعد أتابع «تخربيقهما» بعد الانفصال عليهما. وبعد الانفصال نادى علي بسطاوي، وقال لي إن هناك فرقة مسرحية بالرباط، وهي فرقة «أفروديت». فرقة الهواس. وقدمنا بمعيتها مسرحية «أولاد البلاد»، و»لعب الدراري»… وغيرهما. وهنا بدأت أنفتح على الفرق المحترفة. وبدأت أنفتح على التلفزيون والسينما.

– كل تجربة تخضع أو يجب أن تخضع للتقييم. لو أخضعت تجربة «مسرح اليوم» للتقييم، ماذا أضافت لتجربة الخمولي، أو ماذا أعطته ولم يكن يملكه من قبل؟
– الجميل في الأمر، أننا أخذنا شيئا من كل مرحلة مرحلة. في مرحلة «مسرح اليوم» كنا، في الوقت ذاته، ممثلين، وتقنيين، وعمالا «مَانُوفْرِيَّا».. فقد كنا ننجز الديكور، نشكله، ونقوم بصباغته.. في مسرحية «بوغابة» مثلا، صبغنا الديكور كله. وهناك صورة لنا، بسطاوي وأنا، نصبغ الديكور وخلفنا الطيب.

– بأي صفة يحضر الطيب، صديقا لعوزري أم مستشارا فنيا أم ذخيرة تضع نفسها في خدمة كل من يريد خدمة «ولي الله المسرح»، لأنه المعلم والمربي …
– بالنسبة لمسرحية «بوغابة» فقط، كان الطيب يحضر الإعداد كفنان أعجبته تجربة الفرقة، ويجد فيها بعضا من ذاته، وتجربة يواكبها تأييدا منه لها. إذا كنا ننجز الديكور، ونصبغه، ونشحنه على متن الشاحنة، وفي قاعة العرض، نعنى بتغذيتها بالكهرباء، ووضع البروجيكتورات أو الأضواء الكاشفة في أماكنها.. ولعل البعد الإيجابي في تجربة «مسرح اليوم» أنه لم يكن لنا وضع الممثل فقط في المسرحية بل وضعية الممثل المتمكن من أدواته، والعارف بالمحيط الذي يتحرك فيه، وبكل مكوناته.. وحين يحدث عطب، تعرف مصدره، وكيفية إصلاحه.. وإنقاذ الموقف…

– لعل الاحتراف ينصب أيضا على نوع التداريب وعددها. كم مرة كنتم تقومون بالتدريب على عرض ما قبل تقديمه؟
– بالنسبة إلى التداريب بدأت من خمسة وعشرين يوما للعرض وظلت تتقلص حتى أصبحت ثمانية أيام. بالنسبة إلى عرض «أيام العز». وبالنسبة إلى نص يوسف فاضل هذا، فقد قمنا ثريا، وبسطاوي والخمولي بتربص بالمعمورة استمر تسعة أيام، هيأنا خلاله العمل، ثم عدنا لعرض العمل بالرباط. إذاً أطول مدة للتدريب استمرت شهرا، وأقصرها تسعة أيام.

– طبعا، الفرقة كانت تحصل على الدعم، مثل الفرق المسرحية الأخرى، وأنتم جميعا كنتم مرتبطين بالفرقة ولم يكن يسمح لكم بالعمل مع جهة أخرى، سواء كانت فرقة مسرحية أو مع التلفزيون أو مع مخرجين سينمائيين. فكيف كانت الأجور تحدد؟ وهل تصرف ابتداء من فترة التدريب، أم تنصب على العروض؟ وعلى أي أساس؟
– كانت لنا منحة خاصة بالتداريب. وكان لنا تعويض عن كل عرض.

– المنحة تخص فترة التدريب كلها، سواء امتدت أسبوعا أم شهرا..
– المنحة تمتد على فترة التدريب كلها، وهي محددة بالاتفاق بين الطرفين. وكذلك التعويض عن العروض كان محط اتفاق بين الطرفين. ويصرف بعد كل عرض. الامتياز الوحيد الذي كنا نحصل عليه ولا توفره الفرق الأخرى لمشخصيها هو أننا بعد الانتهاء من العرض نحصل على التعويض. فقد كنا نحصل على تلك البركة مباشرة بعد الانتهاء من العرض. وهذه هو الشيء الجميل في تجربة «مسرح اليوم». قد يحدث أن يتأجل، أحيانا، التعويض يوما أو يومين ولكن لا وجود لتأخير مبالغ فيه. بعد يومين أو ثلاثة، في الغالب، تنادي عليك ثريا، وتذهب إلى بيتها فتعطيك «الكاشي ديالك». والكاشي هذا كان قابلا للتغيير سنة بعد سنة. فالكاشي الأول الذي اتفقنا عليه في عرض «حكايات بلا حدود» بدأ يتطور من تلقاء نفسه بحسب كل عمل، وهو ليس الكاشي ذاته لعرض «النمرود في هوليود»، وليس هو كاشي «نركبو لهبال»، وليس هو كاشي «سويرتي مولانا»، وليس هو كاشي «طير الليل».. وقد ظلّ يتطور حتى أصبح (1500) درهم في نهاية المطاف عن كل عرض يقدم.

رغبة وخيانة في حضن «أفروديت»

– ثم دخلت تجربة مسرح «أفروديت»، كيف تقيم هذه التجربة وما أثرها عليك وفيك؟
– هي تعني الانتقال من نوع من المسرح السياسي، النخبوي مع «مسرح اليوم» نحو مسرح تجربة شابة. فقد كانت «أفروديت» يومها يديرها عبد المجيد الهواس وهو خريج المعهد، وعبد العاطي لمباركي خريج المعهد.. هم شباب متشبع بنظريات مختلفة، وليست النظرية الفرنسية وحدها. شباب متفتح على عدة مدارس من مختلف بلاد العالم. وهي تجربة فتحت لي آفاق جديدة في التدريب، والتعبير، والإلقاء..

– ما الاختلاف بين التجربتين…
– ليس هناك اختلاف في العمق، بل هناك اختلاف في التعامل. التعامل مع الممثل، في «مسرح اليوم» كان يقوم على نوع من الضغط. مع «أفروديت»، وغيرها من الفرق الشابة، هناك نصيب من الحرية من كل جانب: تبدي رأيك في النص، وتناقشه، وتقترح تغييرات ويؤخذ بها، وتقترح أشياء معينة، وتبني مشهدا، بالرغم من وجود المخرج. وهو مرن، ثم إنك تحس بأن رؤية للعمل تنعم بانفتاح أكبر، تحس بانخراط أكبر. أنت تشخص النص ورأيك فيه موضع ترحيب.. وقد شعرت بكل هذا مع «أفروديت»، ومع»آكت 5»، ومع عاجل في «لبساط»، وفي «إيسلي وتسليت».. ومجموعة من الفرق، ومنها أيضا المجموعة الأخيرة التي اشتغلت معها بخنيفرة «منتدى أطلس»، والتجربة الأخيرة التي عشتها مع «أرلوكان»، مع فرقة المشناوي بمراكش.. فقد أعطتني هذه التجارب كلها الإحساس بدينامية معينة، وبحرية حقيقة، وتشعر بأنك عنصر فاعل من العمل ولست مجرد أداة أداء.

وللجمهور رأي وذائقة

– هذه تجاربك داخل فرق بعينها، هل وقفت على طريقة تفاعل الجمهور معك، مع أدائك؟ مجرد إحساس أو أصداء بلغتك من بعض الجمهور..
– الحمد لله، بفضل الله ورضا الوالدين كانت كل التجارب التي خضتها ناجحة. ولو أنها امتدت على فترات مختلفة. وقد خلق «مسرح اليوم» الذي جاء في مرحلة عرف فيها المسرح في المغرب كبوة، تقليدا، بناه الطيب الصديقي خلال فترة ثم اندثر، والتقليد هو إعطاء نفس للمسرح المغربي. وعلى غرار تجربة «مسرح اليوم» تأسست عدة فرق على الإيقاع ذاته، تقدم عروضا في قاعة واحدة، ثم تنظم جولة، وتنفتح على الجماعات والمجالس.. وقد مكنتني هذه التجربة من النظر إلى الفرق الأخرى التي كانت تشتغل بالطريقة ذاتها لكن بجرعة أكبر من الانفتاح والطموح. فالفرق الأخرى كان أعضاؤها ومخرجوها من الشباب. وكان أعمالهم منخرطة في التجريب أيضا. تتميز تجربة كل فرقة من هذه الفرقة بتجربة متميزة، تقوم على الاجتهاد، والتطوير، وتقوم على نظرة خاصة في التواصل مع الناس والجمهور. والحقيقة، أحمد الله أن كل التجارب التي أسهمت فيها لاقت صدى طيبا، ونجاحا حقيقيا. لأن كل المنخرطين فيها كانوا يكنون الحب للمسرح، والإخلاص للممارسة، ويحرصون على التميز بدفع ثمنه من عرق الروح. وقد تستطيع لمس رأي الجمهور في التعاليق المباشرة بعد العرض أو من خلال توقيف الناس لك في كل المدن لمدح دور في مسرحية (أو فيلم سينمائي وتلفزيوني)..

مدرسة ولي الله المسرح والكرامات

– ما طبيعة العلاقة التي جمعتك بالصديقي؟..
– كان فتح لنا داره على مصراعيها. وهو كما قلت تماما، ذخيرة تضع نفسها في خدمة كل من يريد خدمة «ولي الله المسرح»، لأنه المعلم والمربي… كنا نذهب إلى بيته ويناقشنا في أشياء كثيرة أيام «مسرح اليوم». وقد تعرفت عليه خلال تجربة «المسرح الجوال»، مسرحه الخاص في إطار المسرح البلدي. وما أزال أحتفظ بأحداث قصة معه. كانت هناك مناسبة، قد تكون عيد الاستقلال، وكان هناك نشاط مسرحي سيقدم. ولم تكن يومها موضة الثنائي قد نشأت بعد في المغرب، كما أنشأها «بزيز وباز»، وكنا يومها، أنا وأمل قد خلقنا «دْوِيُّو» يعبر بالحركة ولا يستعمل اللغة. كنا نمارس الميم والبانطوميم. وكنا نلعب «نِمِيرُو السَلُّوم». كان أمل يصعد حتى رأس السلم، وأفك قبضتي على السلم فيسقط أمل ولا يسقط السلم، أو يسقط السلم ولا يسقط أمل. وكان العمل يقوم على تكرار مضن. وكان الحاج المختار الحمداوي شاهد الفرجة التي نقدمها، في مكان ما، فطلب منا تقديمها خلال حفل ما بالمسرح البلدي. وصادف تقديمنا لهذه الفرجة بالمسرح البلدي أن كان الطيب بالكولوار فرأى ما قدمناه، فقال لمن كان بالقرب منه: «هَادْ الجْنُونْ بْجُوجْ مْنِينْ جَاوْ؟» يقصد أمل والخمولي. ويومها لم تكن لي أدنى علاقة بالطيب. فقيل له هذين الجنيين من الدار البيضاء، ويمارسان بدار الشباب. فقال: «هُادْ الشِّي اللِّي تَيْدِيرُوا زْوِيوَنْ». هذه بداية التعرف على الطيب. وقبل ذلك، كان أحمد الصعري يُدَرِّس بالمعهد. وكان يتعاطف معنا ليسمح لنا بالدخول إلى المسرح خِلسة لنرى مسرحيات مثل «الحراز»، و«النور والديجور»، و«المقامات»… فقد كان يسمح لنا بالدخول من جهة «أبَّا لحسن»، وهو عساس. كان الصعري يُدْخِلُنَا من جهة أبا لحسن وكان «تَيْسَلَّتْنَا» لنصعد إلى قاع عميق يوجد بمؤخرة المسرح ولا يوجد به إلا الخشب، لا توجد به كراس ولا فوتيلات. ولا يمكن أن يراك أحد وأنت هناك. وكنا نقبع حيث نستمتع بالفرجة ثم ننسل في هدوء ونغادر إلى حال سبيلنا عند نهاية العرض. وهذا اتصال أول بالطيب له علاقة بالفرجة، ثم جاء اتصال البانتوميم، ثم جاء الاتصال في إطار «مسرح اليوم» حيث استضافنا مرتين تناولنا العشاء ببيته. ثم كان يحضر التداريب، ويجالسنا. ثم شرع ينادي علي كلما أنجز ملحمة مثل «نحن»، و«أضواء وأصوات» حيث اشتغلنا معه.. وبذلك نشأ تواصل بيننا وبينه..

– هل أحسست بأنك تعلمت منه شيئا، استفدت من ملاحظات أبداها؟
– التعلم الحقيقي والأول من الطيب يبدأ من مشاهدتك لأعماله. وأنت تتفرج على أعماله تشاهد الأداء، وتشاهد الكوستيم، وترى الإنارة..

– أي أن الرجل مدرسة قائمة بذاتها..
– بالفعل، هو مدرسة. وهو ذخيرة.. ثم حين تجالسه وهو يتحدث فهو يقدم لك دروسا بشكل غير مباشر. وكذلك حين يحدثك عن لقائه بمعلمة من معالم الفرجة الأجنبية، وفي إطار النكتة.. فعالم الطيب عالم النكتة. وهو صانع فرجة في عالم النكتة التي يبدع فيها، ويبث فيها دروسا بشكل غير مباشر لا تفوت المستمع الذكي. في كل هذا هو أستاذ يلقن ويُدَرِّس على مدار الحديث والجلسة. ولما كنا نشتغل على مسرحية «بوغابة»، وكان يحضر الإعداد. لم أكن أعرف، وأنا أصبغ، سر الألوان وزواجها. لم أكن أعرف أن مزج اللون الأحمر والأصفر يعطيان الأخضر. تزاوج الألوان ومزجها، وما يتمخض عنه علمني إياه الطيب خلال الاشتغال على «بوغابة». ثم كيف أنزل «البانسو»/الفرشاة من دون أن يترك دموعا على الخشب، الطيب هو من علمني ذلك. كنا نصبغ، وهو جالس خلفنا: فيقول لك: «لا، لا تصبغ على مستوى العرض، بل على مستوى الطول». وحين تخذلك الحيلة وأنت تقوم بشيء ما، يتدخل ويلقنك كيف تتخلص من الورطة في سهولة ويسر. وعلى مستوى الأداء، فهو عجب. أذكر أنه في ملحمة «أضواء وأصوات» كان قد أسند إلي دور المنصور الذهبي، وعلي أن أركب الفرس، وهو من علمني ركوب الفرس..

جنون التجريب والحلم

– بعد تجربة «أفروديت»، دفع بك الابتلاء في حضن تجربة مع الموهوب عبد الإله عاجل عبر مسرحيتين «أولاد البلاد»، و«لبساط»..
– وهي تجربة تميزت بوجود الدرهم ضمن أعضاء الفرقة. فهو بحكم تكوينه الموسيقي أضفى على المسرحية نكهة مغايرة وخاصة جدا. وقد استفدنا من وجوده. ثم إن طريقة الإخراج، التي اعتمدها عاجل، تختلف عن طرق الإخراج التي تعتمدها المدارس الأخرى. ومنها طريقة إخراج عوزري، والهواس، وغيرهما. فعاجل قد استفاد من ركام تجربته «بمسرح الحي»، والاعتماد على الضحك، والنجاح في جلب جمهور متخصص، استطاع أن يختص «بريبيرتوار كوميك»، ويعرف به، ويطوره. ثم إنه حاول عبر المسرحيتين اللتين اشتغلنا عليهما جميعا، «لبساط» و»إيسلي وتسليت» أن ينوع في العناصر التي وظفها. بالنسبة إلى المسرحية الأولى استطاع أن يوظف كثيرا من الأشياء التي حذقها في تجربته السابقة. وأما الثانية فقد حافظ فيها على إطارها الأسطوري، واختار لها من الممثلين سعيد الهليل، والخمولي، وزوجته زهرة نجوم، وعاجل، واعتمد فيها على نوع من الرقص التعبيري. وقد ساهمت في المسرحية فرقة تقوم بالرقص التعبيري. إذ بين مشهد وآخر تقدم تلك الفرقة رقصة تختزل المشهد برمته في لوحة تعبيرية. وقد قدمت المسرحية إضافة إلى ما كان يعرفه المسرح في المغرب لحظتها. وأعتقد أنها قدمت تجربة جديدة وسابقة في إضاءة المسرح، هي تقنية المرايا. فقد رسم مجموعة معينة من اللوحات على المرايا، وحين يضاء الركح تنعكس الرسوم على «لاَ سِّينْ»، وخاصة على (les pondéreux). وكان قد رسم لوحات أخرى على الزجاج، ووضعها أمام بِرُوجِيكْتُورَاتْ. وهكذا، أصبحنا نتحرك داخل فضاء نوعي وهو الديكور، الذي أصبح هو نفسه عبارة عن مجموعة من لوحات فنية. واشتغال عاجل على الجانب التقني جعله يتميز فيه، ويضفي على العمل المسرحي مسحة من الجدية.

– بينما قامت مسرحية «لبساط» على لون مغاير حافظ فيه عاجل على بعض من تجربته السابقة وأضاف إليها بعض الجديد..
– بالفعل، هناك فرق بين المسرحيتين، لكنهما تقدمان نوعا من الاستمرارية لضرب من المسرح. وكما تعلم يتميز كل مخرج بالإبداع في مجال أو جانب يجعله عنوانا له. وعاجل ظل يبحث في جانب الإضاءة، وقد وظفه في هذه التجربة وعرف نجاحا حقيقيا. وحين اشتغل عاجل على «تيسلي وتسليت»، ولما اشتغل معه تقريبا ستون في المائة من الممثلين الذين اشتغل معهم في العمل السابق عليه، والذين التقوا معه في أعمال سابقة، لم يطرح عليه تغيير أو جديد، ذلك أن الوثيرة التي اشتغلنا بها في «لبساط» هي نفسها التي اشتغلنا بها في مسرحية «تيسلي وتسليت»، مع فارق أساس وحيد هو أننا بالنسبة «لتسلي وتسليت» كنا نشتغل في فضاءات مغايرة. ليست فضاءات ديكور، بل كنا نشتغل في فضاء تشكيلي، كان علينا كممثلين أن نرعاه، ونتشربه، ونتقيد به لأنه يمثل خلفيتنا.. ناهيك عن أننا كنا نشتغل مع فرقة من أشخاص يمارسون الرقص التعبيري. والذين يقومون بحركات على الركح، ويجب عليك أنت الممثل أن تأخذها بعين الاعتبار وتندمج معها حتى لا يحدث طارئ أو تبدو نشازا. وهذا هو الفرق الجوهري بين المسرحيتين..

– كيف يمكن أن تندمج أنت الممثل مع رقصة تعبيرية؟..
– مثلا، هناك مشهد مبني على حوار ينتهي في وقت معين تدخل فيه الفرقة إلى الركح. حين تنتهي أنت الممثل من إلقاء حوارك تكون تحتل مكانا معينا، وحين تدخل الفرقة كمجموعة، وهي تقوم بحركات، تجد نفسك منصهرا ضمن أعضائها. فكيف تستطيع أن تغادر مكانك وهم يؤدون رقصتهم من دون أن تكسر جمالية رقصتهم وتصيبها في مقتل، وتنسحب من دون تأثير يذكر على أدائهم. ثم كيف تندمج مع الفرقة حين تجتاح الركح وهي تؤدي رقصها، وأنت تؤدي حوارا، وتنصهر معها أنت الممثل في تلك الرقصة بالذات. هنا تكمن الصعوبة، وهنا يكمن الاختلاف بين العملين.

* أستاذ باحث، طنجة- المغرب

شاهد أيضاً

“الجسد الفرجوي”: محور نقاش الدورة 18 لمهرجان طنجة للفنون المشهدية طنجة، 26-30 نونبر 2022

يُنهي المركز الدولي لدراسات الفرجة، أن فعاليات الدورة الثامنة عشرة من مهرجان طنجة الدولي للفنون …

التقرير الأدبي 2017-2021

  كلمة لا بد منها 1. مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية (من 2017 إلى 2021) …

عَـرُوسُ الْأَسْـرَارْ… عَوْدٌ عَلَى بَدْء كلمة المبدع محمد قاوتي في افتتاح الدورة 17 من مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية

محمد قاوتي تَرَتَّبَ الصَّبْرُ على كل شيء إلا على وَقْفَة الواقِفِ فإنها تَرَتَّبَتْ عليه حين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *