خالد أمين: النقد مبرد يشحذ الابداع الأصيل تجارب وحساسيات

  • د. عبد العزيز جدير

اعتقدت على الدوام أن الحوار الأدبي والفكري يعتبر فنا أو جنسا أدبيا رائقا حتى عندما لا يشار إليه بتلك الصفة. وأهميته راسخة ومتنامية. ولذلك انبرت مجلات ثقافية غربية، وجرائد أيضا، بعد أن استوعبت دور هذا الجنس الأدبي والفكري الاستراتيجي في تعميق الثقافة أفقيا وعموديا، لتأسيس وجودها على وجود الحوار. من هذه المجلات “مجلة باريس”، ومجلة “اقرأ”.. ويسمح الحوار الحقيقي بقراءة أعمال مبدع أو مفكر (أو ناقد)، أو قضية أدبية أو فكرية محددة المعالم.. كما يعتبر هذا الحوار “ممارسة نقدية”، من وراء حجاب، ومن دون إدعاء أو اعتماد “منهج” غير المعرفة بأعمال الذي أنت مثجالسه.. كذلك كان تصوري للحوار ولا يزال، وكذلك مارسته.. عبر مساهمات في مجلات أو كتب تتناول جماعة من الكتاب (“حوارات أمريكية في طنجة”، (2005))، أو مع كاتب بعينه وإبداعه وفكره! (“مع أحمد بوزفور، الطفل في مهب الفراشة”، (2006)، “بول بولز/محمد شكري، الحوار الأخير”، (2011)، “مع محمود أمين العالم، شغب الحرية والفكر”، (2018)…)

انطلاقا من هذا المنظور اجترحت “مجلة دراسات الفرجة” هذه المساحة لتراكم “تجارب وحساسيات”. مساحة اقتربت من عوالم وأفئدة فنانين (الطيب الصديقي، عبد الاله عاجل، جليل دافيد)، ومبدعين (الصديقي، ومحمد قاوتي..).. وها هي تقترب من تجربة في النقد المسرحي.. وأخريات على الطريق.. وعلى رأسها تجربة أستاذ الأجيال، المواكب لكل التجارب، حسن المنيعي..

خالد أمين، ناقد يواكب الفرجة منذ أن استفزه أستاذه الانجليزي بجامعة “إسكس” ممتحنا معرفته بمسرح بلده. لا يأكل خيرات البلد ولا يعرف تاريخها والناس إلا السياسي.. ولما حط الرحال بجامعة مكناس، سمع، ورأى، ثم انضم إلى جهود مؤسس المعرفة الفرجوية، والنقد المسرحي، وطلبته.. فلا سنونو يصنع ربيعا..

ناقد مغربي وعربي، للمسرح/الفرجة باللسانين العربي والعجمي (الانجليزية). وعبر تلك القبعة نقل أصداء، وبعض أمشاج الفرجة المغربية إلى بعض بقاع العالم. واللغة الانجليزية جواز “مَا يَبْلِى، ما يَخْسَرْ”.. يزاوج بين تقديم بعض لحظات من التجارب المسرحية الغربية عربيا، وتقديم تجارب الفرجة العربية، والمغربية خاصة إلى الجامعات الغربية، ومراكز البحث في مجال الفرجة..

وسعى السنونو إلى الحشد الفرجوي.. والرغبة في الاستمرار تستدعي بناء الأداة. إذ كيف يسطو الساسة على رقاب الآدميين، وخيرات البلد.. الحزب، يا ناس..

وكانت مجموعة البحث في المسرح بكلية الآداب بتطوان.. وكانت طنجة المشهدية.. وجاء مهرجان طنجة للفنون المشهدية، ورأى النور المركز الدولي لدراسات الفرجة.. أدوات ووسائط لتجميع الباحثين، وتلقيح التجارب المغربية مع الأخرى العربية والأجنبية، وتمكين الفرق من التباري الفرجوي..

جهود تفتح آفاق للحوار واللقاء.. والحوار أبو الأنشطة البشرية.. وأصبحت طنجة (نْزِيدُو الجهة كلها!) محج صناع الفرجة، ونقاد الفرجة، والمتفرجين، والفْراجة نفسها.. الله يكتبها لأمين في الميزان المقبول.. وللسي حسن المنيعي، والسي محمد قاوتي، والحسين الشعبي وكثير من الذين واكبوا التجربة، وما بخلوا بالتوجيه والنصح..

من فاكهة علاقتي الممتدة وخالد عشرات الحوارات في مجال الفرجة، ونقد الفرجة.. وبالرغم من ذلك حرصنا على اجتراح هذا الحوار، لتقديم هذه التجربة (المسرحية)، والحساسية (النقدية).. ونظرا للوقت القياسي الذي ساءل تجربته والحساسية، عكس السابقين، فقد شبعنا ضحكا.. خاصة حين أشرعت في وجهه عبارة “لا مجال للغة الخشب”.. أو حين يرد قائلا: “بقي أن تسألني عن مقاس الحذاء”! قلت له: لو كنت فنانا يضيئ الروح.. أما وأنت من النقد الذي يزمحر!! ولا ينسى أن يبتسم، ويضحك، ويرفع القبعة وعلامة النصر حين يتوهج النص والأداء.. فلنواصل..

وبعيدا من المسرح، قريبا من آل أمين، فقد وجدت نفسي أؤرخ لمصائر أفراد من عائلته. فسيرة عمه، المناضل النقابي والسياسي والمقاوم سليمان أمين، “رذاذ الذاكرة” تنتظر النشر للخروج من السر إلى العلن. وسيرة والدته تقترب من الاكتمال.. سيرة أم شجاعة شغلها مصير الأبناء، من دون.. بيع الأسلحة.. وخالد بعض فاكهة تربيتها..   

كواليس

– هل يمكن أن أسألك في البداية، بكل السذاجة الممكنة، لِمَ يصلح المسرح؟

– منذ عصور استحق المسرح لقب أب الفنون. بالنظر إلى استيعاب المسرح لباقي الفنون الأخرى وانفتاحه على المجتمع وقضاياه بشكل مباشر من خلال الحالة المسرحية، فقد استطاع أيضا أن يُكرس باعتباره مجالا حيويا في المدينة. يصلح المسرح لتهذيب الذوق والوجدان للناشئة. كما يصلح لارتياد آفاق المصالحة مع إنسانية الإنسان عبر الكشف عن التناقضات الثاوية في وجوده الاجتماعي…

– تذكر قول سارتر، وهو أيضا كاتب مسرحي بنكهة وجودية ورداء الالتزام، “ماذا تستطيع [رواية] الغثيان أمام إفريقي جائع”؟

– بكل تأكيد لن يستطيع الفن حل مشاكل مثل المجاعة، ولكن بإمكانه أن يسائل مسببات ظواهر مثل هذه بهدف إيقاظ الضمائر والدفع في اتجاه التئام الإرادات الحية لحل المعضلات والمشاكل التي هي في الجوهر من صنع الإنسان…. يذكرنا المسرح، كما باقي الفنون الأخرى، أنه بالإمكان حل هذه المشاكل من لدن الإنسان أيضا… لذلك أقول إن المسرح من أنجع سبل المصالحة مع إنسانية الإنسان…

_ يحيلنا الأمر على شيئ قريب من هذا الأمر، تذكر نص “الأم الشجاعة” للرائد بريشت..

– بكل تأكيد، ذلك أن بريشت من خلال شخصية “الأم الشجاعة” وولعها بالربح واستغلال الفرص… إنما أراد أن يبرز الجانب الآخر المرتبط بفقدانها لإنسانيتها وتشيئها جراء انغماسها المطلق في بنى الإنتاج الرأسمالية… لقد أرادت الأم أن تستفيد من الحرب (وهي ترميز للرأسمالية المتوحشة) دون أن تقدم أي مقابل…. فكانت النتيجة أن فقدت أولادها بدون أن تعي حجم الكارثة؛ وتلك هي تراجيديا الأم الشجاعة…. التي فقدت إنسانيتها وهي تراوح الانتقال بين معسكر وآخر والاستفادة…

يرفع الستار

– فلنتوكل على الله ونبدأ، بما قد يثير حميتك، كأن المسرح المغربي في اللحظة الراهنة، مسته نعرة نرجسية: التفت نحو سُرَّته!

– إذا كان المقصود من السؤال هو كون بعض التجارب المسرحية المغربية لم تعد تعكس واقعا حياتيا خارجا عن المسرح بقدر ما تعتمد على مرآة المسرح لتعكس ذاتها بذاتها عبر مصوغ الانعكاس الذاتي أو التقعير(la mise en abyme). هكذا أصبح المسرح إشكاليا يقدم نفسه بطرح مأزق الممارسة المسرحية موضع تساؤل شفاف من داخل الممارسة المسرحية ذاتها. ومسرح المرتجلة في المغرب وجد من مدة، وهو ليس وليد اليوم…. فنص المرتجلة نص ما بيني يتموقع بين الإبداع والنقد، الممارسة المسرحية والتنظير لها من الداخل… نص المرتجلة نص مابعد استعماري يعالج مأزق الهوية الذي يعاني منه الإنسان المغربي راهنا، وإن كان التشديد على الهوية المسرحية بالتحديد. هكذا أصبح العرض المسرحي المرتجل يتشكل عبر مجموعة من التقاطعات بين ما هو سردي وما هو درامي بهدف خلخلة أفق انتظار المتلقي السلبي.

 تجربة “إمتا نبداو.. إمتا” –1997- لفرقة مسرح اليوم الرائدة اعتمدت الانعكاس الذاتي عبر مستويات عدة من التقعير كمصوغ إجرائي يضطلع بمهمة تفكيكية تدفع المتلقي إلى إعادة النظر في تمثله للواقع الحال. وبالتالي، لم تقدم هذه التجربة جدلا سياسيا محضا، ولكنها استهدفت خلق تأثيرات الصدمة بكشف التناقضات الثاوية في عمق تشكيلات المجتمع المغربي المتقوقع في حالة الانتظارية قبيل مشروع التناوب التوافقي مع عبد الرحمان اليوسفي. ولعل هذا التقوقع هو صلب هذه المسرحية كما هو معلن من خلال العنوان الذي هو عبارة عن تساؤل/تساؤلات: متى سيتحقق تجذر المسرح في الثقافة المغربية والنشاط الاجتماعي؟ متى سيصبح المسرح حاجة ضرورية ضمن تبادلات رمزية أخرى في المجتمع المغربي؟ متى ستزدهر الثقافة المسرحية والجمالية بالمغرب في فضاءات مسرحية مناسبة؟ متى ستصان كرامة الفنان المسرحي المغربي؟ والأهم من كل هذه الأسئلة، متى سينطلق المسلسل الديموقراطي الحداثي الحقيقي بالمغرب؟

نفس القلق قاد المبدع محمد الكغاط إلى إبراز تفاصيل هذا الجسد الجريح من خلال توظيفه للمرتجلة؛ يقول فقيد المرتجلة المغربية “إن مسرحنا يعاني من كل أنواع المصاعب والعراقيل، فقد لجأت إلى كتابة المرتجلة من أجل طرحها أمام الجمهور، ذلك بعد أن تبين لي أن الحديث عن المشاكل ليس كمعايشتها أو رؤيتها مجسدة.” فمن خلال “مرتجلة فاس”، و”المرتجلة الجديدة”، ومرتجلة “شميشا لالة” أبان الكغاط عن مقاومته الهوس الجماعي وعن رغبته الأكيدة في عدم الرضوخ لعادات الجمهور الواسع. في حين التجأ الطيب الصديقي في رائعته “ليلة هدم المسرح” –تأليف الطيب الصديقي، تعريب السعيد الصديقي- إلى الكشف عن بنيات تفكير مؤسسات الدولة فيما يتصل بالظاهرة المسرحية ومدى أهميتها في النشاط الاجتماعي –أو بالأحرى خطورتها عليه-… نفس المنحى اتخذته مرتجلات أخرى مثل: “مرتجلة الدار البيضاء”، و”المذكرات الشيطانية”، و”أنا الممثلة”، و”شقائق النعمان”، و”تمارين في التسامح”… كل هذه المشاريع المسرحية الحالمة، وأخرى لا يتسع المجال لذكرها، عبرت عن الحاجة لمعرفة أي مسرح نريد؟ وأي موقع لهذا المسرح المحتمل في نسيج المجتمع المغربي؟

– وأكاد أقول يعض ذيله (كالعقرب وقانا الله سمها وإياكم وكافة القراء)، وما عاد يعنى بقضايا المجتمع: الفساد الانتخابي والحزبي، جراح الهجرة..

– بالعكس، أرى أن استشكال الشكل والممارسة المسرحية خلال إنتاجها يشكل في حد ذاته موضوعا سياسيا…. فالسياسي لا يجب أن ينحصر في إبراز مباشر لقضايا سياسية ساخنة فوق الخشبة (لأن ذلك قد يحول الخشبة إلى منبر..)، بل قد يتعداه لاستفزاز إدراك وطمأنينة المتلقي… جدير بالذكر أن تقنيات المرتجلة ترتبط بالأداء أكثر وليس بالتمثيل المصطنع، وتهتم أكثر بكشف الحقائق من خلال أسلوب فني يتجه نحو خلق مسرح المواقف بدل مسرح التمثيل. يهتم أغلب الممارسين من الجيل الجديد الآن بمسرحة التاريخ الشخصي للأفراد في سياق سياسي محض… لذلك يبقى علينا من باب الضرورة أن نعترف أن البعد الاجتماعي الفعلي للمسرح لا يرتبط كثيرا بعرض مواضيع سياسية ساخنة -وإن كان هذا التصريح لا يعني بطبيعة الحال أن عرض مواضيع مثل هذه أمر مستبعد- بقدر ما يرتبط باللحظة الاجتماعية والعلاقة والموقف/ الحالة التي يحدثها المسرح (واستشكال الشكل أو القالب المسرحي من جهة أخرى).

المنبع والمصب

– قد يكون المسرح المجال (الفن؟) الذي يؤكد أن المغرب بلد الاستثناء: “تُقْبَسُ” مسرحية من مقالة، مجموعة مقالات، قصيدة، ديوان شعري، رواية.. (وهو تقليد من ذلك مسرحة ألبير كامو لرواية دوستويفسكي، “الشياطين”، ومسرحة رواية “جسر سان لوي” للمعلم تورنتن وايلدر بل ونقلها إلى الشاشة الكبرى فاغتنى الرجل من مداخيلها وحدها مما يبرر حاجة المسرحة والفَلْمَلَة)..

 – الاقتباس ظاهرة كونية… والمسرح المغربي لا يحيد عنها.. هناك اقتباسات خلاقة تخترق النصوص الأصلية لتؤسس اختلافها… أمثل لهذا باقتباسات محمد قاوتي والتي يفضل تسميتها “استنبات”. معلوم أن النص المسرحي غير مكتمل، مما يستدعي ترجمته إلى وسائط أخرى أثناء عملية تحويله من الورق إلى الركح. فالاقتباس، بهذا المعنى، هو صيغة جذرية لإعادة بناء العمل الدرامي. وليس الاقتباس انعكاس لمقولات مثل “المؤلف” أو “الشرعة”، وإنما هو حوار مستمر معها. وكيفما كانت إعادة الكتابة، يصبح الكاتب الأصلي موضع تفاوض… كما أن صيرورة الاقتباس تستلزم هامشا أكبر من تناسج ثقافات الفرجة. في هذا السياق، يبرز اسم محمد قاوتي في المشهد المسرحي المغربي من حيث هو مقتبس رائد ومبتكر، يقرأ النص في بنيته الأصلية، ويخترقه، ويفكك رموزه بتأن، ويفحص إيقاعاته الداخلية، ويدرس مرجعياته الفلسفية والسياسية والجمالية، ويطلع على سياقات تحققه فوق الخشبة، ويدرس ما كتب عنه… و بعد ذلك كله، يبدأ الرحلة ذاتها للبحث عن أنجع السبل لاستنبات روح النص في ثقافة فرجوية مغايرة… إن تصور محمد قاوتي للاقتباس نابع من التجربة المختبرية؛ ويمكن تلخيصه فيما يلي: “إنه يشتغل من منطلقي الإضافة أو الاقتضاب، على شاكلة النحاتين، أو بالإضافة والاقتضاب معا، على شاكلة الكيميائيين.”  وهذا ما حدا به لاختيار مسار ثالث “يمكن من إنجاز اقتباس مغترب adaptation distanciée، بالنظر إلى الاقتباس التاريخي المعمول به في غالب الأحيان؛ ومن تحقيق طفرة سيمنطيقية انطلاقا من المتن الذي يتم الاشتغال عليه.” وفي سياق تحليله لصيرورات التحول التي تعتري فعل الاقتباس، ونظرا لرغبته في تحقيق المزيد من الدقة في التعاطي مع ظاهرة نقل النصوص الدرامية إلى لغات، وثقافات أخرى، وجمهور مختلف، نحت قاوتي مفهوما آخر للتعبير عن الاقتباس وهو “الاستنبات” الذي يعرفه كما يلي: “يتمفصل “الاستنبات” في البدء، حول محور “احتواء” النص الإبداعي، والوصول إلى تحويل سيمنطيقي له، بواسطة “إعادة إنتاجه”، الشيء الذي يحقق مشروعية هذا الفعل. غير أن “إعادة إنتاج” النص، في شروط مختلفة جذريا عن شروط إنتاجه الأصلي، إن ذاتيا أو موضوعيا، تفترض إنجازا قد لا يحقق بالفعل، والحالة هذه، إلا عن طريق تمفصله حول محور ثان، يتكون من متوالية/احتمالات شرطية إجرائية.” تنزاح عملية “احتواء النص” عن النظرة التقديسية للنص الأصلي في أفق تفكيكه وتحويل دلالاته إلى سياق مغاير، سياق الاستنبات حيث يبعث من جديد في تربة مختلفة. بهذا التصور اشتغل قاوتي على نص “السيد بونتيلا وتابعه ماتي” لبرتولد بريشت.

في وصف فرجتنا

– كيف تقرأ هذا الخط المسرحي بتجاربه المتنوعة: تجربة الطيبين، ومسرح الهواة، مسرح الجم، مسرح اليوم، مسرح الحي..

– كلها تجارب أغنت المشهد المسرحي المغربي، وحاولت قدر الإمكان تكريس الممارسة المسرحية كقيمة مضافة في المجتمع المغربي المعاصر.. تحية لكل هؤلاء.

– هل يمكن التكهن ببعض توجهات المسرح المغربي في المستقبل المنظور، انطلاقا من التجارب التي تعتمل في قلب الحركة المسرحية؟

– يوازي فشل الفن الطليعي في أوروبا وأمريكا إزاء صدمة أحداث ماي 1968 لحظة تاريخية مفصلية في مسرحنا الطليعي لما بعد نكسة 1967؛ إذ يصعب اختزال النزعة التمردية التي طالت مسارحنا في سبعينيات القرن الماضي في خانة التقليدانية الصرفة… وهنا تحديدا تكمن أهمية موقع الناسج… هل المسرح المغربي معزول عما يقع في عالم اليوم، كما يريد البعض أن يوهمنا باسم النزعة “التراثوية”؟ ألا يشكل المسرح المغربي جزءا من المشهد المسرحي العربي، والمتوسطي، والكوني؟ فالممارسة المسرحية للجيل الجديد من المسرحيين المغاربة القابضين على الجمر — أمثال أمين ناسور، أسماء هوري، عبد المجيد الهواس، جواد سونني، محمد الحر، يوسف الريحاني… واللائحة تطول- فهي تستشرف رحابة هذا الأفق التجريبي المنفتح على مسارح العالم والمنغمس في نسيج تامغرابيت عن وعي. وإجمالا، نشهد في الزمن الراهن ازدهارا لم يسبق له مثيلا للعروض السردية والمسرحيات المونولوجية في جميع أنحاء العالم. هكذا يعود السرد بقوة إلى المسرح المعاصر حيث يأخذ “المونولوج” الأسبقية على “الديالوج”. ومن ثم، يزلزل وهم “الدراما”. ولكن، لا ينبغي النظر إلى هذه العودة، من حيث هي التفاف حول القصة، بل عرض لممكنات الفعل القصصي. إنها سعي لتحقيق علاقة جديدة مع التمثيل المسرحي بعيدا عن العودة إلى “الدراما”. يجسد أداء القصص السيرذاتية والوقائع في العديد من التجارب المسرحية المعاصرة الإمكانات الهائلة للمسرح السردي، فيغزو الواقع المعيش المسرح من جديد، ويستفزه انطلاقا من ردم الهوة بين السرد الذاتي والحكايات الجماعية، الخاص والعام، الجمالي والسياسي… يمكن اعتبار اشتغال مجموعة “ريميني بروطوكول” السويسرية-الألمانية نموذجيا من خلال الاعتماد على “خبراء الحياة اليومية” (Experten des Alltags) ومروياتهم وأجسادهم الجريحة، والإلقاء بهم في خشبة المسرح. والحال، أن العروض المعاصرة التي تعتمد المواد السير ذاتية، بما في ذلك “المحاضرات الأدائية” كتلك التي يقدمها كل من ربيع مروة ولينا مجدلاني، تؤكد التفاعل بين الواقع والخيال، ليس فقط في مظاهر سردنة  narrativizationالذكريات الفردية، ولكن أيضا في طبيعة التأريخ نفسه.

الابتلاء.. والشُّوكة..

– طبعا، كما يحدث بشعبة اللغة الانجليزية بالجامعة المغربية يكون الاستئناس بنصوص شكسبير، ثم جيل الغضب (“انظر في غضب إلى الخلف”، “من يخاف فيرجينيا وولف؟”..) ما النصوص الأولى التي خاطبت أحشاءك وقربتك من هذا القبس من الشيطان الذي هو المسرح؟ ومتى شرعت تقترب من المسرح العربي؟

– بداية انخراطي في المسرح بدأت مند الطفولة، إذ وقفت على خشبة المسرح المدرسي مرارا… ورغم أن مسقط الرأس هو تطوان، فقد كانت بداية الهوس بالفرجات الشعبية في مدينة مشرع بلقصيري حيث تشبعت بإيقاعات الغرب الساحرة وحلقاتها المنغمسة في الوجدان الفرجوي الغرباوي وخاصة مع المايسترو المقتدر “القْرَعْ” الذي كان يزورنا بسيارته من طراز “إِرْ دُوزْ” (R 12) آنذاك….أما تجربة البحث المسرحي، فقد بدأت في منتصف الثمانينيات بشعبة الأدب الإنجليزي بجامعة عبد المالك السعدي…كان بيكيت حاضرا بقوة في انشغالاتي البحثية… عندما ذهبت إلى جامعة أسكس في انجلترا، وجه لي استاذي، رئيس قسم المسرح بالجامعة آنذاك، سؤالا بسيطا وصغيرا، إذ قال لي: ماذا عن المسرح العربي والمغربي بخاصة؟ قلت له لا أعلم الكثير بحكم تخصصي في الأدب الإنجليزي. لذلك لما أنهيت دراستي والتحقت بجامعة المولى إسماعيل بمكناس في المغرب القسم الأنجليزي، وبدلاً من أن أقوم بدراسة بيكيت وبريخت، غيرت الوجهة ودرست شكسبير في المسرح المغربي واشتغلت بعشق ومحبة عليه لمدة طويلة. بدأت بالنشر في المجلات الدولية حول مسرحنا المغربي: والبداية أيضا كانت مع ريتشارد شيكنر، وأتذكر أني أرسلت دراسة لمجلة “دراما ريفيو” لريتشارد شيكنر حول فن الحلقة وفرح كثيراً لذلك، لأنها أول دراسة تنشر في هذا المضمار باللغة الإنجليزية. منذ ذلك الحين أخذت على عاتقي نشر تجاربنا المسرحية باللغة الانجليزية. وفي تلك اللحظة كان النقاش حامي الوطيس في الفيدرالية الدولية للبحث المسرحي حول مسرح المثاقفة، في وقت كنت أقوم فيه بتفكيك المركزية الغربية في المسرح وإبراز الخصوصية العربية للمسرح انطلاقا من سؤال هل كان لدينا مسرح أم لا؟ ومع ذلك، وجب التأكيد ها هنا أن مساهماتي المتواضعة هي مجرد قطرات في محيط…

بطاقة هويات

– في معنى المسرح منذ البداية/”الأصل” النظر، والمكان (المدرجات) الذي يجتمع فيه من يأتي للنظر.. كان الاحتفال (رقص، غناء..) متى ابتلي المسرح بالنفس الدرامي، وكيف؟ (أقصد ما قبل ظهور جنسي الملهاة والمأساة)..

– رحلة البدايات كانت طويلة ولا يزال يشوبها بعض الالتباسات بالنظر إلى الهوة بين ما وقع بالفعل وما وصلنا… يرى أوجينيو باربا أن “الطقس يتشكل دائما من خلال إعادة فعل تمت تأديته في الأصل من لدن قوة خارقة أو بطل أسطوري. لكن في اللحظة التي نفصل فيها هذه التقنية عن معتقدها الديني، فإننا نحتفظ فقط ببنية فارغة.” هذه البنية الفارغة، تحديدا، هي المسرح، الذي نشأ جراء انسلاخه عن البنية الشعائرية وانتقاله من المعبد إلى مسرح ديونيسوس الكبير مرورا بالأگورا AGORA  باعتبارها أكثر من مجرد ساحة عمومية، إذ هي أيضا مساحة ومجال للتعبير الحر. ففي أثينا القديمة، كانت الأگورا تتموقع مباشرة تحت الأكروبوليس (أكبر معبد يوناني في المدينة العليا). والحال أن الأگورا هي أكثر من ساحة عمومية، كما أسلفت الذكر، حيث يتجمهر فيها المواطنون الأحرار بخاصة لمناقشة السياسة ومستجدات الحملات العسكرية؛ كما كانت الأگورا أيضا سوقا حرة لمختلف التبادلات المادية والرمزية، يجتمع فيها التجار والحرفيون، والفلاسفة، بل حتى السماسرة (الشناقة)Kapeloi ، واللذين انتقدهم بشدة أرسطو في كتاب “السياسة” واعتبر تجارتهم، أو بالأحرى وساطتهم بين الحرفيين والزبناء، غير منطقية.

– تأخر حضور النص، في عصر آلِ يونان، عن ضبط ايقاع الفرجة وتوجيهها.. هل نلمس في الارتجال عودة إلى تلك المرحلة وبعض تغييب النص، دون أن ننسى قول بارت بموت الكاتب (رحمه الله، قبل الدفن)..

– تعد ولادة التراجيديا في اليونان القديمة عبر مراحل معروفة ومدروسة بعناية بدءا من المعلم الأول أرسطو، نتيجة حتمية للأنتروبومورفيزم اليوناني القديم الذي أسعف في نقل الصيغة التراجيدية الأولية من معبد ديونيسوس باعتباره موضعا دينيا/روحانيا إلى الساحة المدنية (الأگورا)، ثم إلى مسرح ديونيسوس فيما بعد ضمن مهرجان ديونيسيا…   Anthropomorphism) يعني الأنسنة، أي إسناد الخصائص البشرية إلى الجماد والحيوان والظواهر الطبيعية أو الخارقة، وخصوصا اللاهوتية عكس نموذج مصر القديمة).

والحال أن هذا التحول يبين تطور الشكل التراجيدي من طقس شبه مقدس داخل المعبد إلى تعبير جمالي دنيوي ومديني بامتياز… ولهذا التحول المفصلي لطقس ديونيسوس استلزامات أخرى؛ يتجلى ذلك في انبعاث الإمضاء باعتباره اسما علما وتدشينا لتبعية الشفهي للأدبي على مدى طويل. فسوفوكليس وإسخيلوس ويوربيديس، على سبيل التمثيل لا الحصر، هم نتاج لتحولات العيش في المدينة. لقد انبعثت الدراما الأدبية، إذن، باعتبارها مخطوطا مذيلا بامضاء، مفسحة المجال أمام ميلاد تقليد طويل يقضي بالتفضيل المتمركز للأدبي على الشفهي، وللكتابة الدرامية على العرض الفرجوي… يتيح لنا أرسطو جردا لكل المراحل التي عرفها تطور تراجيديا أتيكا، حيث يؤكد أنه في المقام الأول، أضاف إسخيلوس الممثل الثاني؛ ثانيا، قلص من حضور الرقص الذي تؤديه الجوقة؛ ثالثا، أعطى الأولوية للحوار من خلال تقليص مساحات السرد الملحمي؛ رابعا، أضاف سوفوكليس الممثل الثالث؛ خامسا، فأضاف المشهد–التشكيل؛ سادسا، كانت الحكايات الصغيرة قد اتبعت بحكايات ذات ثقل كبير؛ سابعا، لم تتحرر التراجيديا من الملفوظ الكروتسكي إلا متأخرا، بواسطة التخلص من الدراما الهجائية وأضحت ذات قيمة بكيفية تامة؛ ثامنا، تغير الوزن من التيترامترا إلى اللامبي.

لقد أعيد تملك طقس ديونيزوس والمراحل المتنوعة لتطور التراجيديا كما نظر لها المعلم الأول أرسطو، وفرضها بالقوة أكثر النقاد المسرحيين الغربيين تأثيرا باعتبارها أساس الفن المسرحي الجديد الخاص بالأوربيين وحدهم دون سواهم. ومن هنا، أصبحت بنية الحضور، المسندة إلى العصر المسرحي الأوربي الأول، مهيمنة في الدوائر الأكاديمية، ولم يكن طقس ديونيزوس، رغم ذلك، أصليا في سيسيون Sicyon، وإنما أدرج هناك بواسطة كليثينيس Cleithnes مثلما أدرج، قبل ذلك، إلى أتيكا Attica وناكسوس Naxos، وجرى فرضه على حساب طقس الملك القديم أداستوسAdastus ، الذي تحول قبره إلى فضاء مقدس لطقوس عبادة الميت. كما لم تكن صيغة ديونيزوس الطقوسية إغريقية في الأصل، وإنما وصلت إلى اليونانيين في حدود القرن الخامس قبل ميلاد المسيح.

ولئن كان الطقس الديونيزوسي من الأصول الشرقية البعيدة، ولئن لم تكن التراجيديا الإغريقية مجرد إنتاج للممارسات الفرجوية الديثرامبية الساحرة، فإن ادعاء الأصل والاكتمال مغالطة ينبغي أن توضع قيد المساءلة مع وجوب إزاحتها كلية. وقد كرست هاته المغالطة، في الحقيقة، لأمد طويل وبإعجاب كبير، على امتداد تاريخ الأدب المسرحي. ويلاحظ William Ridgeway  عن صواب: أنه ” في سياق مناقشة تاريخ الأدب المسرحي قام المؤرخون بدون استثناء، إلى حدود سنوات قليلة فقط، بتركيز اهتمامهم حول انبعاث الدراما الإغريقية وتقليدها في روما، بدءا بمسرحيات الأسرار، ومرورا بمعجزات المسيحية الوسطوية وإعادة إحياء الشكل الكلاسيكي، وانتهاء بتطورها المدهش في مسرحيات كريستوفر مارلوChristopher Marlowe ، وشكسبيرShakespeare ، وكالديرونCalderon ، وكورنايCorneille ، وراسينRacine .. وقد باشر كل هؤلاء الكتاب دراساتهم، علاوة على ذلك، استنادا إلى المنطق القبلي للجمالية، بدلا من بحثهم عن أصل المسرح من خلال التطبيق الصارم لمنهج تاريخي واستنباطي.

كما ارتبطت الدراماتورجيا عند أرسطو بالقوانين الناظمة لإنتاج الأثر الفني في الدراما بوصفها إبداعا قوليا يحيل على الميتوس Muthos  من حيث هو تنظيم مكتمل مركب من مجموع أحداث. ولعل أبرز هذه القوانين هو ما جاء في باب قاعدة “الوحدات الثلاث” [وحدة الزمان، والمكان، والحدث والتي تحولت جراء التأويلات المبالغ فيها إلى يوم واحد، مكان واحد، حبكة واحدة]، وقاعدة “الالتزام بالأعراف الأخلاقية والأدبية” داخل المدينة، وقاعدة “التطهير”، التي حظيت باهتمام كبير لدى أرسطو وآخرين مثل هيجل وأ. س. برادلي، وجورج ستاينر، وجورج لوكاتش، وسيغموند فرويد، وفريديريك نيتشه، ووالتر بنيامين، وروني جيرار، وكليفورد ليتش، ورايموند وليامس، وجون دراككيس…

مع أرسطو أصبحت التراجيديا الشكل الفني الأكثر هيمنة، بل والأكثر إثارة للجدل. وباعتبارها سردا للعنف والسلطة، فقد تحولت التراجيديا إلى مشروع متجانس يتوخى الحفاظ على البنية التراتبية داخل المدينة وواقع الحال كما هو. ويجلي أوغستو بوال Augusto Boal عن صواب ذلك وفقا لما يلي في كتابه “مسرح المقهورين” Theatre of The Oppressed: “توجد التراجيديا في كل مظاهرها الكمية والنوعية باعتبارها اشتغالا للتأثير الذي تحدثه، وهو التطهير. وكل وحدات التراجيديا مبنية حول هذا المفهوم. إنه المركز والماهية وهدف نسق التراجيديا. وهو لسوء الحظ أيضا المفهوم الأكثر تناقضا. إن التطهير تصحيح، لكن السؤال الذي نطرحه والحالة هاته هو: ما الذي يقوم بتصحيحه؟ إن التطهير تنقية، والسؤال الذي يطرح هو: ما الذي يقوم بتنقيته؟

وعليه، تكمن ماهية التراجيديا لدى أوغستو بوال في الوظيفة التي تنجزها، وهي التطهير. وباعتباره تجسيدا للتعاطف، يعتبر التطهير لحظة التفريغ الانفعالي لمشاعر متراكمة من الشفقة والخوف. فالشعور بالارتياح الذي يعقب التطهير الجماعي يتيح فرصة تجانس وتضامن الجماعة. وفي هذا الاتجاه، يكون التطهير محصلة جهاز سلوكي للتقويم/ التطهير بما هو وسيلة للمحافظة على التوازن الطبيعي بموازاة مع التجانس الاجتماعي والسياسي الذي يضفي الشرعية على السلطة القائمة داخل المدينة من حيث هي بنية مصغرة للدولة. إنه تصحيح، بحكم أنه يخلص ويطهر الجمهور من الفوضى واللانظام اللذين يتسبب فيهما البطل التراجيدي من خلال انزياحه عن النظام  التراتبي السائد والمهيمن؛ وتكون المحصلة تذويب التوتر والصراع بما في ذلك الصراع الطبقي.

في هذا السياق، تشترك آليات خشبة المسرح مع آليات سلطة المدينة في إنتاج عروض تحتفي بالسلطة القائمة في المدينة وإيديولوجيتها المهيمنة، وإلا ما كانت النخبة الأرستقراطية تساهم بأموالها في إنتاج المسرحيات المتنافسة ضمن فعاليات ديونيسيا الكبرى. ومن هنا، تتبادل الخشبة والمدينة/الدولة عكس بعضهما من خلال وساطة الشكل الفني التطهيري الذي يركز التعاطف والتوافق والسلبية والراقبة. هكذا تحولت التراجيديا إلى وسيط للتضليل بامتياز، حيث ظهرت في مسرح الوجود منذ البدء بواسطة الأرستقراطية اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد، ثم أعيد بعثها لاحقا بواسطة الإيطاليين والإليزابيثيين وغيرهم بغاية احتواء الخطابات المقاومة التواقة للتحرر من سلطة المركزية كيفما كانت. والحال أن انسلاخ تيسبيس Thespis عن الجوقة في القرن الخامس قبل الميلاد يؤشر ليس فقط على بداية ظهور البطل، وإنما أيضا على التوظيف السياسي للتراجيديا باعتبارها نسقا جماليا متجانسا لإنتاج الأجساد الطيعة. ويصف بوال هذه البداية/القطيعة كما يلي: “في البدء كان المسرح هو الجوقة والجماهير والشعب. وكانوا الأبطال الحقيقيين، وعندما أبدع تيسبيس البطل، أضفى بكيفية طبيعية الطابع الأرستقراطي على المسرح الذي كان موجودا قبل ذلك في أشكاله الطبيعية للتظاهرات الجماهرية والأعياد والاحتفالات”. (بوال، 33). وعليه، فإن المسرح وجد بدءا في أشكاله الجماعية الشعبية، ثم تم احتواؤه من لدن الارستقراطية. ومنذ ذلك الحين، أضحى المسرح متضمنا داخل البناية، إلى أن ارتفعت أصوات المنظرين والمسرحيين الثوريين مطالبين بانفتاح المسرح من جديد على المدينة وهوامشها المحايثة بخاصة. ومن بين هؤلاء جان جاك روسو، وجاك كوبو، وأنطونان أرطو، وجون فيلار؛ وفي عالمنا العربي منذ ستينيات القرن الماضي، يوسف إدريس، والطيب الصديقي…

أسطورة الأصل.. عنفوان التجريب

– كيف تقرأ هذا المعطى، أن الأجانب من كانوا وراء ولادة الفنون الحديثة. والمسرح منها. يعقوب صنوع، جورج أبيض..

– هنا يجب أن ندقق أكثر. مارون النقاش، جورج أبيض،  يعقوب صنوع….. لم يكونوا أجانب…. بل كانوا عربا ينتمون إلى ملل أخرى غير الإسلام… وقد كانوا الأقرب إلى الثقافة الغربية… لذلك يمكن أن نعتبرهم روادا ساهموا في ردم الهوة بين العرب المسلمين والمسرح… إنهم des passeurs… فعلاقة المسرح العربي بالمسرح الغربي، كما يذكرنا أستاذنا حسن المنيعي، “علاقة قسرية، فرضتها هيمنة الثقافة الغربية”. (المسرح مرة أخرى، 50)… بفضل هؤلاء الرواد دخلنا مرحلة المصالحة مع المسرح والبحث عن أنجع السبل لاستنباته في البلاد العربية….

– التجريب عنوان التجديد، لكن الجديد العربي بعض معطفه التقليد، (بحكم أسبقية الغرب وإبداعيته)، وقبعته والجوارب بعض التأثر.. والثلث الناجي يبدع: لأنه هضم المقروء، استوعب فلسفة المقصد، واعتمد المحو لحظة تطريز المعاني، وغزل اللغة..

– لم يتطور مسرحنا العربي مباشرة انطلاقا من فنون الحكي العربية أو الفرجات الشعبية الأخرى؛ إذ كانت نشأته غربية مع “البخيل” لمارون النقاش. ولكنه عاد ليتصالح مع الوجدان الفرجوي لألف ليلة وليلة في مسرحيته الثانية الموسومة “أبو الحسن المغفل وهارون الرشيد”: عود على بدء؛ أو رجوع إلى البداية. لذلك تعد تلك العودة لأنماط الحكي التراثية مع جيل الرواد الأوائل منعطفا سرديا مفصليا في مسرحنا العربي، بل أيضا النواة الأولى والبداية الحقيقية لمعالم التجريب فيما يخص التجربة المسرحية العربية ومحاولاتها الحثيتة الانفكاك من هيمنة النموذج المسرحي الغربي.

في مقام آخر، كانت عملية نقل تقنيات الفرجة الشعبية المغربية المفتوحة من ساحة “جامع الفنا” إلى البناية المسرحية الغربية المغلقة استشرافا لرحابة تناسج ثقافات فرجوية مختلفة كثورة مستمرة للأشكال، يتم من خلالها كتابة النصوص ضمن محور تقاطع الثقافات المختلفة. فمن خلال الالتفاف حول تقنيات الحلايقي، والسمايري، وعبيدات الرما، وسلطان الطلبة، والبساط… عبر الفنان المسرحي المغربي عن حالة القلق ووضعية التردد الثاوية في فعل كتابة “التابع”. وهو قلق يدعو إلى التجريب. إن وضعية من هذا القبيل تعد جانبا من مأزق الهوية التي تتخبط فيه الذات المغربية راهنا؛ وهي الذات التي وجدت نفسها مشكلة في الحد الفاصل بين نمطين من السرد على الأقل: السرد الغربي والسرد العربي/ الأمازيغي، الإسلامي… هكذا، تساوق المسرح المغربي بقوة مع شرط هجنة ما بعد الاستعمار، وهي هجنة تشوش وتربك النموذج المسرحي الغربي في الوقت نفسه الذي يتم فيه تبنيه.

نصيب المغارب

فانخراط الفنان المغربي الرائد الطيب الصديقي- عن وعي- في هاته الدينامية منذ نهاية الستينيات خير دليل على تناسج الممارسة المسرحية العربية مع ثقافات فرجوية أخرى؛ حيث دشن مسار العودة لفنون الحكي التراثية بمسرحيات رائعة أصبحت تشكل أنوية حقيقية لريبيرتوار المسرح المغربي مثل: “ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب”، و”مقامات بديع الزمان الهمداني”، و”أبو حيان التوحيدي” و”الفيل والسراويل”… كما استشرف الصديقي أفقا مشرعا على المصالحة مع الوجدان الفرجوي التراثي المغربي من خلال التركيز على مسرحة نصوص سردية، وشعرية تراثية مؤطرة في بنية الحلقة بوصفها وعاء لـــ”قصصية معممة”، وبؤرة لتعايش ثقافات فرجوية مختلفة. وكل هذا يدخل في صميم التجريب المسرحي والبحث الذؤوب عن قالب مسرحي يعبر أكثر عن وجداننا.

 كما اتخذ الجزائري عبد القادر علولة المنحى نفسه؛ إذ صرف كل طاقته الإبداعية في العقد الأخير من حياته لتطوير منهج مسرحي مستمد من التقنيات السردية للحلقة والگْوال الجزائري بخاصة؛ وذلك بعد أن حلق في سماء الإبداعات العالمية، وتأكد في نهاية الأمر أنه يستحيل تقديم رسالته الاجتماعية للجمهور الجزائري بمعزل عن الانفتاح على عاداتهم ووجدانهم الفرجوي. وعبر علولة عن انشغاله المتأخر بمسرح الحلقة في المؤتمر العاشر للجمعية الدولية لنقاد المسرح ببرلين عام 1987، وذلك بعد أن تأكد من عدم جدوى الترتيب المسرحي المحاصر داخل العلبة الإيطالية: نقرأ: “وفي خضم هذا الحماس، وهذا التوجه العارم نحو الجماهير الكادحة، والفئات الشعبية أظهر نشاطنا المسرحي ذو النسق الأرسطي محدوديته، فقد كانت للجماهير الجديدة الريفية، أو ذات الجذور الريفية، تصرفات ثقافية خاصة بها تجاه العرض المسرحي، فكان المتفرجون يجلسون على الأرض، ويكونون حلقة حول الترتيب المسرحي، وفي هذه الحالة كان فضاء الأداء يتغير، وحتى الإخراج المسرحي الخاص بالقاعات المغلقة ومتفرجيها الجالسين إزاء الخشبة، كان من الواجب تحويره. كان يجب إعادة النظر في كل العرض المسرحي جملة وتفصيلا.”[1] فهذه الشهادة البليغة يمكن النظر إليها من حيث هي بيان تأسيسي يرصد الدوافع التي أدت إلى فعل التجريب من خلال فرجة الگْوال.

هذه ليست دعوات جوهرانية تروم الاغتراب في الماضي أو الرجوع إلى أصل ما للفرجة العربية – كما ادعت العديد من النظريات الانتقائية التي خرجت من تخوم الكراسي المريحة – بقدر ما هي محاولات تجريبية نابعة من التجربة الميدانية. خلص فيها علولة – أثناء مراجعة تصوره للفن المسرحي برمته في حدود علاقته بالجمهور الجزائري- إلى القول: “عن طريق هذه التجربة التي استدرجتنا إلى مراجعة تصورنا للفن المسرحي، اكتشفنا من جديد- حتى وإن بدا هذا ضربا من المفارقة- الرموز العريقة للعرض الشعبي، المتمثل في الحلقة، إذ لم يبق أي معنى لدخول الممثلين وخروجهم، كل شيء كان يجري بالضرورة داخل الدائرة المغلقة، ولم تبق هناك كواليس، وكان يجري تغيير الملابس على مرأى من المتفرجين، وغالبا ما كان الممثل يجلس وسط المتفرجين بين فترتي أداء لتدخين سيجارة، دون أن يعجب من ذلك أحد”.

– قصدت بالتقليد، تقليد الغرب.. وقد أشرتَ الآن إلى بعض ما كان يجب أن ينجز منذ “البدايات”،: تطعيم، تلقيح، تطوير “الشكل الغربي” بالسعي إلى خوصصته، عبر الاستيعاب، وقتله فهما، ثم تملكه باعتماد أشكال محلية، تراثية قريبة من روح المواطن وثقافته… نوع من التحرر من “العلاقة القسرية”..

– هو استيعاب وتجاوز في نفس الآن.

– كما حدث في مجال السياسة: الاستقلال السياسي والاقتصادي.. هل لغياب هذا الاستقلال يد في كون الشكل المسرحي الغربي عمَّر طويلا؟

– الشكل المسرحي إرث إنساني، ملك للإنسانية جمعاء… ولكن حين تم استقدامه على متن دبابات نابليون أصبح جزءا من انتشار الغرب القسري في الشرق في أفق احتوائه وتملكه واستعماره… الآن بعد فترة الاستعمار المباشر لا تزال الحالة الاستعمارية قائمة بفعل الاستعمار الجديد المتمظهر من خلال السيطرة الاقتصادية والقوة الناعمة…. المطلوب منا الآن، تملك أدوات إنتاج مسرح يعبر عن ذواتنا، لكن دون السقوط في “الاغتراب في الماضي” أو “تأورب مطلق”، بل المضي قدما نحو أسلوب تفكير عابر للحدود بهدف مقاومة الحالة الاستعمارية الجديدة. كيف ذلك؟ من خلال الوعي بأهمية الفضاء الثالث، كما نظر له هومي بابا.

بعث الملحمة وتحطيم الجدار

– حين نذكر مسرح سعد الله ونوس، نلمس أثر بريشت ومسيرة فنان ظل البحث ديدنه بهدف تربية الجمهور جماليا وفنيا.. وقد اقتربتَ من مسرح بريشت، (كتابك “ما بعد بريخت”)، لو نعرض لفائض قيمة تأثر المسرح العربي بتجربة هذا المبدع الكبير حقا وبعض فاكهته، وأثر رغبة الفنان الكبير حقا في لعب دور استعادة الجمهور (والقارئ) الوعي بشكل جدلي.. قال أرسطو اعرف نفسك بنفسك، وكأني ببريخت يستعيد الجدل، والمايوتيك (من أرسطو ابن القابلة) ليعرف المواطن نفسه (ومجتمعه) بنفسه والدراما..

– بالنظر إلى طبيعة الثقافة المغربية ونوعية المخاضات السياسية والثقافية التي شهدها المغرب خلال فترة السبعينات، يمكن القول بأن العديد من المسرحيين المغاربة عثروا على ضالتهم في مفهوم التغريب البريشتي. فبريشت كان له الفضل في نحت مجموعة من النظريات البديلة في الخارطة المسرحية المغربية والتي نلمس فيها الحضور البريشتي بقوة (مسرح النقد لمحمد مسكين، المسرح الجدلي، المسرح الثالث، المسرح الإحتفالي إلى حد ما). والأمر الذي يثير البهجة أكثر هو أن بريشت قد ساعد المغاربة في إقامة الجسور مع ثراثهم الفرجوي، والمصالحة معه. نمثل لهذا الاعتناء المغربي المتأخر بصناعة الفرجة الشعبية وتقاطعاتها التلقائية مع ما أسماه بريشت بآليات التغريب (الحلقة، البساط، اعبيدات الرمى ). ولكن الاهتمام البالغ بمسرح بريشت قد أدى أحيانا إلى تشويه بعض آرائه وذلك عبر فصلها عن سياقاتها.

– هل يمكن لصاحب المسرح الملحمي، والأورغانون، والمسرح في خدمة المجتمع من دون التنازل عن البحث، والجمال، والشعر.. أن ينعت، هذا القاعدة والاستثناء، بساعي البريد؟ (ألا خاب من قال بذلك)

وأنا بدوري أجيب بتساؤلات موازية: أيهما أقوى في الوعي المسرحي العربي: هل هو بريشت السياسي أم بريشت المسرحي؟ إلى أي حد نجح المسرح العربي في توطين النظرية المسرحية البريشتية على مستوى التأويل، الاستعمال أو التوظيف المسرحي؟ هل هناك اختلاف أم ائتلاف بين أهداف بريشت وبين بريشت في المسرح العربي؟ وبالتالي، لماذا بريشت؟ إنها مجموعة تساؤلات تفرض نفسها بحدة حينما نروم الحديث عن راهنية المسرح البريشتي وحدود توظيفه في المسرح العربي حاليا.

– وهل يمكن أن نفصل بين المتعة (الجمال) والمعرفة (الالتزام)؟ وليكن بريشت نموذجا، فأنت ترى البرلينر أونسامبل ما فقد سناه..

– لقد شاهدت العديد من المسرحيات في البرلينر أنسامبل. ولعل ما يميز هذا المسرح هو احتفاظه بعدد من التجارب البريشتية ضمن الريبرتوار، إذ تقدم بين الفينة والأخرى، بنفس التصور الإخراجي البريشتي… وعلى عهد كلاوس بايمان كمدير للبرلينر أنسامبل، شاهدت روائع روبرت ويلسون ضمن شراكته الطويلة مع البرلينر…. ومع ذلك، لاحظت أن أغلب رواد البيرلنر أنسامبل هم الأجانب والزوار الألمان من بلدان أخرى…

الكلمة، في البدء كانت والمنتهى

– العمل المسرحي كل لا يتجزأ ، كما يقول سماسرة السياسة والأحزان الديمقراطية كل لا يتجزأ، حين تنظر في العمل، يبدو أنك تمنح جرأة اختيار الموضوع نصيبا أكثر من “فن” التناول.. دليل بعض ذلك افتتانك بتجربة “ديالي”.. ثم ما السلم الذي تعتمده في الافتتان بالعمل، وما نصيب الذوق الشخصي، والتناول النقدي..

– الأمر لا يتعلق بالافتتنان بالعمل، بل فقط مقاربة “ديالي” من منظور مغاير، خاصة بعد حملة التحامل على العرض من أناس لم يشاهدوه… في سياق مماثل، بمجرد عزم الشاعرة جمانة حداد على إنشاء مجلة “جسد”، انهال عليها وابل من الأوصاف المشينة عبر البريد الإلكتروني أو غيره: “لا أخلاقية، فاسقة، منحلة، مجرمة، مؤذية، عديمة الضمير، وعديمة الشرف.” في نهاية المطاف، لم تكن مجلة “جسد”، كما هو الشأن بالنسبة لمسرحية “ديالي” لفرقة أكواريوم بالمغرب، ترمي إلى مساعدة الرجال على القذف عند ممارستهم العادة السرية. فاستفزاز الأنماط الجمالية السائدة، واعتماد لغات صادمة للحواس، وتحويل العري الجسدي إلى عري وجودي، نفسي، اجتماعي… كلها رهانات إبداعية وأسئلة وجدت في مسرحنا مند الستينيات مع نبيل لحلو، ومحمد الكغاط، وعبد الحق الزروالي، وآخرين… كما أن الجيل الجديد -أمثال بوسلهام الضعيف، وجواد سنني، والمجموعات الشابة من خريجي المعهد مثل “دابا تياتر”، “نحن نلعب”، و”داها واسا”…- يراهن على استشكال علاقتنا بالطابو بواسطة “سميأة” الجسد، وهي “سميأة”، حسب منظور جوليا كريستيفا، تخلخل النظام الرمزي رغم تعايشها الحتمي معه. ففي الوقت الذي يحيل فيه النظام الرمزي إلى القانون الناظم للغة، يحتوي الأفق السيميائي على كل العناصر المنزاحة الثاوية في تخوم السيرورة الدلالية signifying process. كلمة “ديالي” في المسرحية لها أكثر من دلالة، ولا يمكن اختزالها في العضو التناسلي للمرأة بتلك الطريقة الفجة التي تعمدت تبخيس الأبعاد الحقيقية للعمل… فهو بؤرة للخجل والعار بالنسبة للأب، كما جاء في الصفحة الأولى: “بنتك إيلا جابت شي عيب لهاد الدار، قرطاسة ليها، وقرطاسة ليك، والثالثة ديالي.” وفي مقام آخر، “ديالي” ترمز إلى الجسد الأنثوي المهشم والمغتصب. بعد معاناتها المريرة بفعل الاغتصاب، عبرت الفتاة عن رفضها لاحتقار جسدها: “كنت باغة نغسل، باغة نحيد الجلدة ديالي، اللحم ديالي. نموت.”

بعيدا عن كل ما أثير حول المسرحية، فقد عمدت التعامل معها كعمل مسرحي يندرج ضمن مسرح المنتدى ولم أعمل على تجزيئه… وهو مسرح تحسيسي، قد يختلف كثيرون مع طروحاته، ولكن الواجب أن ننصت إلى نبضه وأسئلته قبل القذف به إلى خارج مطلق.

من يخشى التغيير؟

– يبدو أن المسرح لن يقبل بالقعود مع الخوالي، فهو يركب كل موجات التجديد والتحديث ليظل يتطور، ويتجدد، ويمتع، ويقدم الفرجة.. وهو يعتمد كل الوسائط من شاشة، والكتابة عليها، والترجمة، وتقديم مشاهد، واختيار مقاطع موسيقية منتقاة…

– المسرح وسيط موسع يعرض وسائط أخرى. توجد في المسرح قابلية لاستيعاب الوسائط الأخرى والتفاعل معها، كما يسعى تزايد الاهتمام النقدي بالتراتبيات، والاختلافات بين الفرجة المباشرة والفرجة الوسائطية في المسرح المعاصر إلى تقصي أشكال تعاطي الفرجة المسرحية بقصد المضاعفة والتضعيف أثناء صناعتها. لقد تأثر المسرح بكل هاته الديناميات إلى درجة أصبح معها من الصعب تمييز الحدود بين الممارسة المسرحية الصرفة وباقي فنون المدينة. كما تأثر بتراكم الخبرات المسرحية التي تفاعلت مع مختلف دعوات الثورة على القوالب الجاهزة التي أصبحت تضيق الخناق عليه، بما فيها تقليد البروسينيوم الذي  يقسم المسرح إلى ركح/صالة. من هنا أصبحت تتحكم في إنتاج وتلقي العديد من العروض المسرحية المعاصرة دراماتورجيا بصرية، ومؤثرات رقمية (قلّما أمكن إخضاعها للنّص الدرامي)، فيما أصبحت السيرورة الوسائطية تضع اللغاتِ الواصفة موضع تساؤل، كما تستلزم دفع الجمهور إلى اختبار إشكالية التمثيل المسرحي باستحضار وسيط معين ضمن وسيط آخر. وبالرغم من أن التراتبيات والاختلافات بين الحضور الحي والنسخة المسجلة (الفرق بين الأصل والنسخة) متداخلة فيما بينها، فإنها تزحزح الافتراضات المسبقة حول الحضور الملموس ونظيره الممثل؛ وتعمل على تغيير إدراك المتلقي. وهذا التحول في الإدراك لا يقلل من جودة الفرجة المباشرة، وإن كان يؤكد أن الأداء الحي والأداء من خلال الوسيط لا يختلفان كثيرا عن بعضهما البعض كما ترى الباحثة الألمانية إريكا فيشر ليشت، في هذا الاتجاه، وتسعى هذه الدراسة إلى إثارة الانتباه لتواتر النصوص والفضاءات الوسائطية ضمن تفاعل الوسيط المسرحي المتسم بالحيوية والمباشرة مع تقنيات السينما والتلفزيون، والحاسوب، والتقنيات الرقمية بخاصة، سواء على ضوء النقاشات النظرية أو ضمن مسارات التأمل الذي تخضع له أشكال الأداء والتقبل المسرحيين لهذه النصوص المفعمة بحيوية الوسائطي.

حملة النور لإضاءة الروح

– نقل الرائد الراحل طيب الذكر، وأبيض الأيادي الصديقي هذه الشهادة الصادمة عن عذابات الممثلين، في صدر مسرحيته الصادرة باللغة الفرنسية “مجرد عطب فني”. ما أثر تلك الصرخة فيك، والدموع التي تنهمر في الداخل ولا تستطيع التدحرج على الخدين، وما صدى مثيلاتها وطنيا، وقد سمعت منها نصيبا في علاقتك ببعض هؤلاء الممثلين، لا المؤدين، بمناسبات انعقاد “طنجة المشهدية”، أو حضور ندوات، أو خلال جلسة..

– صرخة لا يعي معناها جيدا إلا الذين يحترقون فوق وعلى صلبان الخشبات ليسعدوا جماهير المسرح… كثير من الممثلين يصلبون مع كل عرض، وكل أداء، والتوقف عنهما بداية أرذل العمر.. تحية لروح فقيدنا الراحل الطيب الصديقي وإلى كل حاملي مشعل المسرح والقابضين على الجمر…

والنقد ضرورة وشفاء

– السي خالد، أود أن تعد بركوب فرس الصدق (صفة الناقد)، لا الذي صنع من خشب (للصداقات التي تجمعك بمعظم الفاعلين في الساحة وعليها) للحديث عن المسرح المغربي، أطال الله في عمره وأنعم عليه بالابداع…

– أصبح الكثير منا ضحية النظرة السطحية والفوقية التي مؤداها إن النقد انعكاس لعجز الناقد على الإبداع، والناقد مبدع فاشل، أو لا وجود لنقد مسرحي عربي بل فقط مبدعون استثنائيون في انتظار من يكتب عنهم…. والحال أن النقد المسرحي هو علم له خصوصيته ومناهجه وموضوعه هو المنجز المسرحي وعلاقاته مع المجتمع… والممارسة النقدية أنواع، لا يتسع المقام ها هنا لذكرها. ومع ذلك، يمكن أن نميز بين نوعين أثنين إجمالا: المقالة الصحفية المواكبة للموسم المسرحي من خلال المتابعة الآنية في الملاحق والمواقع الإلكترونية والمجلات المتخصصة في المسرح والفنون (وليس من الضروري أن تكون محكمة)… وهذا النوع مرتبط بشكل عضوي مع نبض المشهد المسرحي من حيث إيقاع الاشتغال والفعالية… وإذا كان الموسم ضعيفا أو بطيئا فهذا حتما يؤثر على المتابعة النقدية. أما النوع الثاني فهو مجال البحث المسرحي وهو أفق رحب من الاشتغال الأكاديمي يتخذ من المسرح موضوعه الرئيس لكن مع الانفتاح على رحابة دراسات الفرجة… ومن أبرز سمات هذا النوع من الاشتغال هو المقاربة المنهجية والتحديد الدقيق لموضوع البحث، لذلك تخضع ممارسته لإيقاع بطيء؛ كما يعبر عن نفسه من خلال الدراسات (المحكمة)، والكتب (الفردية والجماعية)، والأطاريح الجامعية… ومن لا يقرأ الكتاب المسرحي، بكل تأكيد، سوف لن يتابع مجريات هذا النوع من النقد.

لماذا نطلب من الناقد أن يكون كاتبا أو ممثلا أو مخرجا؟ لا أعتقد أن هذا يدخل في اختصاصه… من خلال تجربتي الشخصية المتواضعة، وأنا أسترجع سنوات دراستي بشعبة المسرح بجامعة “إسيكس” ببريطانيا في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، أتذكر أنني اتجهت إلى النقد بناء على رغبتي في ذلك، وكان من الممكن أن أتجه إلى الإخراج أو التمثيل…. فعلت ذلك عن اقتناع… كما فعلت ذلك سابقا أثناء اختياري لبيكيت في بحث الإجازة.

“من هو الناقد المسرحي الحقيقي؟”… هكذا يبدأ الدكتور حسن المنيعي سفره الممتع ضمن كتاب “النقد المسرحي العربي”. إنه سؤال وجودي يهدف استشكال ماهية النقد المسرحي من حيث هو لغة واصفة للإبداع المسرحي نصا وعرضا، بنفس الدرجة التي يسائل فيها آلياته وبنياته من داخل الممارسة النقدية. فالناقد المسرحي الحقيقي، حسب حسن المنيعي، “هو الذي يستطيع إدراك آليات اشتغال العمل المسرحي وتحديد أصولها ومستجداتها اعتمادا على ثقافته الشخصية.” بهذا المعنى يكون النقد المسرحي عند المنيعي متفاعلا مع الجسد المسرحي؛ ولكن أيضا “لا يجب على المسرح أن يمتص الفعل النقدي. وإنما يلزمه أن يعمل على إدراجه في الفعل المسرحي.” (النقد المسرحي العربي، ص. 7-8)

من الأولويات الإستراتيجية للنقد المسرحي “القدرة على التأزيم”، تأزيم ذاته وتأزيم موضوعه في نفس الآن. فالنقد هو المراجعة المستمرة لبنيات التفكير التي تسيج الممارسة المسرحية، حتى لا تتحول إلى مطلقات ولاهوت. إنه مسؤولية جسيمة، لذلك ينبغي استيعابه ضمن العلاقة الجدلية مع الإبداع؛ فكلاهما يحرك الآخر ويستفزه ويضايقه بالأسئلة. أما القول بأنه ينم عن حقد دفين على المبدع، فهذا افتراء… هناك من يدعي أنه مبدع ومنظر وناقد وعارف بكل شيء… وإن اختلفت مع تصوره “الأوليائي” يقذف بك في خارج مطلق وينعتك بأنك لا علاقة لك بالمسرح؛ وتكون النتيجة: منازلة غير شريفة مليئة بالسب والقذف… بينما المطلوب هو الحوار البناء بين الأفكار بمعزل عن الشخصنة… وهناك أيضا من أنجز بالكاد عرضين أو ثلاثة لم تتجاوز بعد “حمى التمارين المدرسية” وهو على يقين بأنه أفضل من غيره –من فرط الغباوة- ويتساءل: أين هم النقاد؟  وهناك من يشتغل في صمت ويطور آلياته الدراماتورجية، ويطرح الأسئلة القلقة ولا يدعي حيازة الأجوبة –لأن ذلك لا يهم بقدر ما تهم الأسئلة ذاتها-، ويبلور حساسية إبداعية مختلفة في استيعابها لما هو سائد وتجاوزها له في نفس الآن، ومع ذلك يكون مكتفيا بآفاق الابداع حيث لا يبالي بعدم اهتمام النقاد به (أو بها)… وبالتالي لا يشكل سؤال: أين هم النقاد؟ هاجسه الأساسي… وهنا لا أخفي إعجابي بفرسان الخشبة الأبرار الذين يستفزون طمأنينتنا في صمت…

وهنا تحديدا يجب الإقرار بأن الإبداع المسرحي المغربي لا يمكنه أن يستقيم ويتطور إلا من خلال علاقة سوية مع الخطابات النقدية… بعيدا عن نقد المحاباة أو العكس… لقد بات “الإنصات” ضروريا من الطرفين.. أن ينصت النقد إلى الإبداع وأن ينصت الإبداع إلى النقد… لا يمكن للنقد أن يوجد بدون إبداع ولا يمكن للإبداع أن يستمر بدون نقد… والنقد المسرحي درجات، كما الشأن بالنسبة للإبداع…  فيه المقالة التي تشرح البديهيات لقارئ مفترض، وفيه الدراسة التي تفكك بنيات العرض واختياراته الدراماتورجية… قد ينزوي النقد للتأمل والقراءة المتأنية للحساسيات المسرحية الجديدة، لكن هذا لا يعني أنه منسحب من الساحة كما ذهب البعض منا أكثر من مرة…

– تذكر أني خصصت من باب العشق عدة حلقات (يوم كنت أقدم برنامج “أبجديات” من على أمواج إذاعة طنجة..) لموضوعة المسرح، والنقد المسرحي وحضرت بعضها ضيفا إلى جانب الراحلين (بالصدفة) الكغاط، وأنقار، والصديقي، ومحمود أمين العالم.. لو تجس نبض النقد المسرحي عامة، ثم النقد المسرحي بالجامعة المغربية..

المنيعي يحسن الوفادة

– يتميز مجال البحث العلمي الجامعي المرتبط بالمسرح بالحيوية ورحابة الأفق. فرغم ارتهانه، أحيانا، لبنيات التفكير التي تتوزع المشهد المسرحي المغربي إلا أنه يتوق إلى آفاق مشرعة على استشراف علم المسرح الذي ينظر إلى الممارسة المسرحية في ارتباطها بباقي التبادلات الثقافية والرمزية من جهة، وحركية المجتمع من جهة أخرى. من هنا، يمكن اعتبار البحث العلمي في المجال المسرحي بنية للتفكير بصيغة الجمع في أوضاع الممارسة المسرحية تتجاوز الشرح والتحليل والتوثيق إلى التوجيه والتفاعل الإيجابي… فمنذ “أبحاث في المسرح المغربي” لأستاذ الأجيال الدكتور حسن المنيعي اتجه النقد الجامعي الجاد صوب نقد أوضاع الممارسة المسرحية بالمغرب في ارتباطها بـإشكالية التأصيل انطلاقا من مسرحة السلوكات الفرجوية المتجذرة في الوجدان الشعبي للمغاربة دون إغفال حضور مسرح الآخر الغربي في متخيلنا المسرحي. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: إلى أي حد ما تزال الممارسة المسرحية المغربية تتفاعل مع درس حسن المنيعي ومحمد الكغاط والثلة الكريمة من الباحثين الجامعيين؟

لقد شكلت فترة أواخر الستينيات وبداية السبعينيات منعطفا فرجويا في المسرح العربي برمته على مستوى صناعة الفرجة، من خلال الانفتاح على آليات اشتغال الفرجة التقليدية وتكييف تقنيات السامر الشعبي والحكواتي والحلقة بما هي فرجات شعبية محايثة للفن المسرحي الطارئ، الوافد علينا من الغرب. وقد شكلت مسرحيات مثل “الفرافير” ليوسف إدريس بالمشرق العربي، و”ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب” للطيب الصديقي بالمغرب أس هذا المنعطف المؤسس لحساسيات جديدة أثرت في الماضي القريب على الجسد المسرحي العربي ووجهته نحو مسارات المصالحة مع الوجدان الفرجوي العربي بشكل عام. بنفس قوة هذا المنعطف الفرجوي سيبرز النقد المسرحي، والجامعي بصفة خاصة، في المغرب والمشرق آنذاك ليكون في مستوى الحدث. فمن خلال الكتاب المؤسس لحقل “دراسات الفرجة” بالمغرب حسن المنيعي: “أبحاث في المسرح المغربي”، سيواكب النقد المسرحي الجامعي المغربي ذلك المنعطف الفرجوي؛ بل سيؤسس لنفسه منعطفا نقديا موازيا يجمع بين مقاربة الإبداع وتوجيه مساراته. وهذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه نقد مسرحي؛ أي عدم الاقتصار على التحليل والشرح وتجاوزهما نحو التفاعل الإيجابي والمرافقة البحثية للجسد المسرحي بقصد المساهمة في توجيهه نحو تحقيق المصالحة مع الوجدان الفرجوي.

في هذا المقام، نعتبر كتاب “أبحاث في المسرح المغربي” مشروعا نقديا حاملا لرؤية، متفاعلا مع نبض الجسد المسرحي المغربي، وقد أعقبته مجموعة من الكتابات النقدية التي استوعبت درس المنيعي وعبرت عن توهج مرحلة بكاملها من تاريخ النقد المسرحي المغربي. اليوم، نعيش منعطفا فرجويا آخر في مجمل الوطن العربي، بما في ذلك المغرب، الذي عرف منذ أواخر التسعينيات دينامية جديدة أقدمت عليها وزارة الثقافة المغربية على عهد  الوزير محمد الأشعري، والتي تميزت بسن مجموعة من الإجراءات الإدارية تهدف إلى مواكبة وتقويم سياسة دعم الدولة في المجال المسرحي (بما فيها وما عليها، وهذا ليس هو موضوع السؤال الحالي)… ورغم كل المشاكل البنيوية والهيكلية التي ما تزال تعتري هذا الجسد المسرحي المغربي راهنا، فالملاحظ أنه متوهج على المستوى الإبداعي… فبروز حساسيات فنية جديدة تدعونا كباحثين جامعيين ومتتبعين للشأن المسرحي إلى مقاربتها بأعين مختلفة عن تلك التي ورثناها عن النقد التقليدي.

دع الفرجة تتوهج، والنقد..

إن متابعتنا لما يعرض في المهرجان الوطني للمسرح أو فضاءات أخرى لأزيد من ستة عشرة سنة يجعلنا نخلص إلى أن أعمالا مسرحية مثل  “راس الحانوت” و”نعال الريح” لبوسلهام الضعيف، أو “ترانزيت” لبوسرحان الزيتوني، أو “فيولون سين” لعبد المجيد الهواس، أو “قصة حب في 12 أغنية و3 وجبات وقبلة واحدة” لفوزي بن سعيدي،  أو “هو” و”180 درجة” لجواد سونني، أو “الكرسي الهزاز” و”يوسف قل” ليوسف الريحاني، أو “أصوات كولطيس” لزهرة مكاش، أو “كفر ناعوم أوطو صيراط” للطيفة أحرار… و”حادة” لجواد سننس، و”دموع بالكحول” أو “خريف” لأسماء هوري، و”العلوة” لمحمد الحر… هي عروض يستحيل مقاربتها من منظور النقد التقليدي بالنظر إلى انفلاتها من التسنين المسرحي الخطي وإرباكها لمفهوم التمثيل داخل المسرح. يقودنا هذا إلى طرح السؤال التالي: هل واكب النقد المسرحي الجامعي المغربي هذا التوهج الإبداعي خلال العشر سنوات الأخيرة؟ ففي الوقت الذي لا يزال أستاذ الأجيال الدكتور حسن المنيعي يواكب وينتصر للحساسيات المسرحية الجديدة إلى حدود اليوم مع آخر إصدار له تحت عنوان: “شعرية الدراما المعاصرة”، نسجل على جزء مهم من نقدنا المسرحي الجامعي مراوحته لمكانه؛ إن لم نقل اختياره وضع الحياد الملتبس… فهو، في أغلب الأحيان، يتوارى خلف مبررات الوازع الأخلاقي لرفض أعمال قد تكون صادمة في علاقتها بالمقدس -سواء من خلال قذفها للجسد الطقوسي في بؤرة ضوء كاشفة، أو استعمالها للغة بذيئة وصفيقة- إنما، دون أن يجشم نفسه مشقة مساءلة هذه الاستعمالات شكلا ومضمونا… في حين يفترض، إن لم نقل من الواجب، على كل باحث أو متتبع للشأن المسرحي –النقاد منهم على وجه الخصوص- التفاعل مع الحساسيات الفنية الجديدة التي تؤثث الجسد المسرحي راهنا عوض الاختباء وراء مقولات مثل “أزمة النص الدرامي”.

والنقد مبرد..

– النقد، علم يقوم على منهج وهذا يقوم على مفاهيم.. ومن المفاهيم التي تهيمن في الدراسات المسرحية تناسج الثقافات، الفرجة، الأدائية.. بل هناك خلاف وبعض الصراع يشهده ترسيم هذه المفاهيم..

– الفرجة أشمل من المسرح، ونستعملها بوصفها مرادفا وليس بديلا لمفهوم الأداء.

غالبا ما تستعمل كلمة “فرجة” في بلدان المغرب العربي مرادفاً وليس بديلا لمفهومي “العرض” و”الأداء”، وهما معا أكثر انتشارا في المشرق العربي.  ذلك أن “الفرجة” كلمة متجذرة جدا من حيث التداول نظرا لمكانتها السامقة في المتخيل الفرجوي المتوسطي. و”العرض” يؤدي نفس معنى فرجة spectacle، بينما “الأداء” قد يوحي بأُحادِية الإنجاز، بخاصة حينما يتعلق الأمر بالمسرح وباقي الفنون الأدائية الأخرى التي لا يكتمل تحقُّقُها إلا بحوارية وتفاعل الجمهور كطرف ثانٍ في المعادلة. ليست الفرجة لعبة الجمهور فقط، بل هي حدثٌ تشاركي؛ وإذا لم يشارك فيه المؤدي والمتفرج معا، فإنه يبطلُ أن يكون فرجة.

أصبحت كلمة “فرجة” متداولة جدا في مدونة النقد المسرحي المغربي، لذلك كان من الضروري الارتقاء بها كي تصبح مفهوما إجرائيا في الأوساط الأكاديمية. وقد بدأ التقعيد النظري لهذا الاشتغال مع الباحث الأستاذ مؤسس حقل دراسات الفرجة بالمغرب حسن المنيعي، الذي أعاد الإعتبار للفرجة في المجال البحثي منذ كتابه الأول “أبحاث في المسرح المغربي” مرورا بـ”المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة”.. ومن جانبنا، سعينا، بمعية ثلة من رفاقنا في المركز الدولي لدراسات الفرجة، إلى المضي قدما لتنزيل موضوع الفرجة منزلة تستحقها في مجال الدراسات الجامعية في المغرب. يؤكد حسن المنيعي أن “تحديث الفرجة المغربية لا يمكن أن يتحقق في فعل الانغلاق على التراث، واستحضاره نموذجا مضادا للنموذج المسرحي الغربي، وإنما أيضا في فعل الانفتاح على الممارسة الغربية، والتعامل مع أشكالها القديمة والمستحدثة”2.

غالبا ما ينظر إلى الفرجة كحدث ملموس ومحدود في الزمان والمكان يتضمن عرض فعل ما، والحال أن الفرجة هي أيضا مفهوم وطريقة لفهم الظواهر في شتى تمظهراتها. يتضمن مفهوم الأدائية عدة مستويات من المعاني. ومع ذلك، لا يجوز أن يكون وضوح هذه الدلالات المختلفة بمنأى عن مراعاة مقتضى الحال. لذلك يمكن اعتبار الأدائية performativity، بادئ ذي بدء تمظهرا للمسرحة theatricality بمعنى أنه إذا كان شيء ما أدائيا فهو يشبه في ذلك من حيث الشكل والأهداف والآثار عرضا مسرحيا ما.

أما أدائي performative، فهو يحيل لمفهوم فلسفي دقيق يخص صيغة وقدرة الكلام الأدائي ويتصل اتصالا وثيقا بمجال التداولية اللسانية عند الفيلسوف اللساني جون أوستين (Austin). كما اعتُمدت الأدائية في نظرية جوديث باتلر أيضا لوصف الهوية الإنسانية من حيث هي بناء ثقافي يتم تشكيله من طرف السلطة المهيمنة عبر مقولات متكررة تكرس واقع الحال كقاعدة، من جهة، والقابلية الذاتية لخرق تلك السلطة، من جهة أخرى.

ونحن نتحدث عن تناسج ثقافات الفرجة باعتباره أفقا للتفكير في إعادة تشكيل رؤيتنا للمثاقفة المسرحية يمكن القول بأن المفهوم قد أسيئ فهمه من لدن العديد من الباحثين… منهم من تحامل بشكل مجاني ضده بدون بدل أي مجهود لفهم مقاصده، ومنهم من ادعى أنه ينبذه بدعوى أنه يحمل في طياته التباسات عدة، ومنهم من اجتزأ مقولات من سياقاتها لفبركة أدلة ضد هذا الأفق البحثي الرحب والذي هو في العمق ليس بنظرية جديدة في المسرح…. والحال أن جزء كبيرا من باحثينا لم يكلفوا أنفسهم عناء الإنصات والحوار البناء… بل التجأوا إلى أقصر الطرق وأخبثها أحيانا…. سامحم الله… قد يتساءل بعضنا-في الاتجاه نفسه- رفقة الباحث الهندي روستم باروتشا: هل بإمكان النماذج الجديدة  (والمقصود هنا هو التناسج بدل المثاقفة) إلغاء القديمة التي تنبعث منها من خلال التعارض والحاجة الملحة لرؤية الأشياء بطريقة مختلفة؟ إن الخطاب الذي يحيط بالنماذج الجديدة يجد نفسه ملاحقا بأشباح الماضي؛ فالأشباح، إذا ما استعرنا عبارة دريدا، لديها القدرة على انتياب الجديد، إذ تعاود الظهور ضمن نطاق رؤية “الجديد”. فعلى الرغم مما قد يثار من نقاش حول المقصود بـــ”التناسج”، والذي قد يفهم بوصفه إبدالا فقط لمفهوم “المثاقفة”. ونشير في سياق حديثنا الراهن، بأن الإبدال أو الاستبدال لا يستفاد منه الانفصال التام دائما. ذلك أن “التناسج” مبنيّ على منطلق آخر للنقاش يبرز العناصر المضمرة في رحلة “المثاقفة”. كما يعيد إثارة أسئلة أخرى تتأسس على منطق الاستيعاب والتجاوز، لا منطق القطيعة والانفصال؛ وهي أسئلة غير تلك التي أثارها “مسرح المثاقفة”.

ليس ثمة من مسرح مكتف بذاته كليا؛ وهذا يعني أن المسرح جنسُ هجنة بامتياز؛ إذ إنه يصر على تحويل ممكنات نص درامي ما إلى كتابة ركحية مغايرة بلغات متعددة. ويمكن اعتبار مسعى المسرح الغربي إلى إعادة اكتشاف مسرح الآخر، أو بالأحرى المختلف والغريب عن النموذج الأوروبي أمرا مُلِحّا لاستشراف الحداثة المسرحية عبر رحلة الغرب نحو الشرق على الأقل ابتداء من القرن العشرين (وهي الفترة التي بالإمكان قراءة خرائطها). من جهة أخرى، يمكن اعتبار التفاعلات العربية والإفريقية مع المسرح الغربي هي محصلة “لحظة الهجنة” أو ما يدعوه هومي بابا بالفضاء الثالث بوصفه فضاء حديا يصعب معالجته بالقدر نفسه الذي يصعب فيه اختزاله في مجرد انصهار كيانين نقيين.

وعليه، ينبغي النظر إلى الهجنة باعتبارها شكلا من التناسج من حيث هي “ترجمة ثقافية تنفي جوهرانية ثقافة أصلية ما”، والحال أن كل الأشكال الثقافية توجد في هجنة باستمرار؛ لكن مفهوم “الهجنة” قد شابه الكثير من الالتباس. وهذا ما حذا بهومي بابا إلى إعادة التفكير في المفهوم، بعد تداوله وتبنيه من لدن الشركاء والفرقاء: “وأخيرا، أعتقد أن هناك سوء فهم حول مفهومي للهجنة؛ فالهجنة بالنسبة إليّ مرتبطة بكيفية التفاوض بين النصوص والثقافات أو الممارسات في حالة عدم تكافؤ القوى. إن الهجنة عملية تلفظية إيديولوجية لها علاقة بالنضال من أجل السلطة وإعادة النظر في خطابات الهيمنة. إنها سيرورة اجتماعية، وليست حول الأشخاص من أذواق وموضات متنوعة”[2]. ومن ثم، ليست حول الرغبة في الغرابة. هنا، بالتحديد، أعاد هومي بابا تلقيح البحث في حالة الهجنة بالبعد التاريخي والإيديولوجي اللازمين. وفي السياق نفسه، أوضح إدوارد سعيد أن البحث الذي اتجه صوب إنكار الأصول ــ والإحالة هنا إلى دريداــ “يترتب عليه إنكار أيّ معنى للاتصال بالتراث أيضا. والخلاصة، باختصار، هي إنكار التاريخ،”[3] والماضي الذي انبنى عليه الحاضر. وبالتالي، اقترح إدوارد سعيد اصطلاح “البدايات” بديلا عن “الأصول” لتعميق البعد التاريخي من دون السقوط في الجوهرانية. فالسعي من خلال أفق الهجنة يتجه صوب البحث عما يميز مسرحنا ويؤسس اختلافه مع الإقرار بتفاعله مع منجزات الآخر…

معطف الطيب الطيب

– حين ننظر إلى معظم الذين احترفوا المسرح ببلدنا من الراحلين، ومن الأحياء أيضا نسبيا نجدهم خرجوا من معطف الطيب الطيب.. ما الذي يبقى من هذه الفنان الكبير حقا: من حيث إغناء الريبتوار المسرحي الوطني، ممثلا، ومخرجا، وممسرحا لنصوص من التراث، وضامنا للمغرب مكانة ضمن المسرح العربي…

– الصديقي إرث وطني.. سيضل حاضرا معنا ومع الأجيال اللاحقة… فانخراط الصديقي-عن وعي- في دينامية البحث عن قالب مسرحي منذ نهاية الستينيات خير دليل على حتمية التناسج. فبعد محاكاة النموذج الغربي في بداياته انعطف الرجل ليدشن مسار العودة لفنون الحكي التراثية بمسرحيات رائعة أصبحت تشكل أنوية حقيقية لريبيرتوار المسرح المغربي مثل: “ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب”، و”مقامات بديع الزمان الهمداني”، و”أبو حيان التوحيدي” و”الفيل والسراويل”… هكذا إذن، استشرف الصديقي أفقا مشرعا على المصالحة مع الوجدان الفرجوي المغربي من خلال التركيز على مسرحة نصوص سردية وشعرية تراثية مؤطرة ضمن بنية “الحلقة” بوصفها “فرجة الفرجات” ووعاء لـــ”قصصية معممة”، وبؤرة لتعايش ثقافات فرجوية وأدائية مختلفة.

تقوم المقامة بوصفها حكاية تخييلية، في المتخيل الكلاسيكي العربي للقرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، على السند والمتن: (عن راو مثل عيسى بن هشام يحكي غرائب البطل أبو الفتح الإسكندري باعتبارهما رواة مشاركين معلومين في الحدث الدرامي). وتعد المقامة، حسب عبد الفتاح كيليطو، نظاما خطابيا شديد التعقيد، ينبني على وسائط تبليغ عديدة، منها: الناسخ، والمقلد، ورسام المنمنمات Miniatures. لقد أبدع الرسامون القدامى في توشيح نصوص المقامات بتصاوير (أو رسوم توضيحية مصغرة) تعكس الحياة الاجتماعية لتلك الحقبة الزمنية. ويعد يحيى بن محمود الواسطي من أشهر هؤلاء، وهو رسام عراقي زين مقامات الحريري عام 1237 م بمائة منمنمة تعبر عن الخمسين مقامة. وتعتبر المنمنمات نصوصا موازية مبنية هي الأخرى على “مفارقة التقليد”؛ إذ يقوم الرسام بتأويل وترجمة الصور البلاغية التي تعج بها المقامة إلى رسوم مشهدية تنافس نص الحريري وتحاول التفوق عليه بنفس درجة منافسة الحريري لسابقه بديع الزمان الهمذاني؛ “أن تقلد، معناه أن تظهر تواضعا وكبرياء في آن واحد”.[4] ما فعله الطيب الصديقي بانفتاحه على المقامات يدخل هو الآخر في ما أسماه كيليطو بــ”مفارقة التقليد”؛ إذ حاول إبراز فرجوية المقامة من خلال نسج يستدعي جماع نصوصها المتشابكة ضمن نوع مسرحي جامع méta-genre. (وهذه الحياكة لم ينتبه إليها النقد المسرحي إلى حدود الآن: مثل تأمل الصديقي في المنمنمات).

العلج، صْنايعي الفرجة المْدَرْحَة

– يبدو أن الطيب الثاني (لعلج) يمثل الوجه الآخر لعملة المسرح المغربي، المسرح الشعبي النابع من تربة عامة الناس، والماتح من لغتهم، وسخريتهم، وسذاجتهم…

– إلى جانب الطيب الصديقي، هناك أسماء مسرحية لامعة بالمغرب مثل أحمد الطيب لعلج (1928-2012) الذي يعتبر كاتبا مسرحيا، وشاعرا، وممثلا، استفاد هو الآخر من فعالية فنون المدينة العتيقة في كثير من عروضه المسرحية الرائعة والخالدة. وتأثر أسلوبه بشدة بلغة شعر الملحون المقفاة، والنوادر الشعبية المركبة لغويا، والتي تسمح له الديناميات السردية لفن الحلقة باستخدامها. تأسس مسرحه مع بداية الخمسينات من القرن الماضي كمسرح شعبي مفتوح على جميع أنواع الدراما مثل الكوميديا الفرنسية والكوميديا ديلارتي، والأهم من ذلك، أن إبداعاته تنهل بشكل واسع من الربيرتوار الوطني الشعبي الغني.

فمسرحية “جحا وشجرة التفاح”، على سبيل المثال، هي عرض مسرحي ساخر يتناول فيه العلج الفساد الانتخابي الضاربة جذوره في المغرب. يستخدم الطيب لعلج جحا الأناني والمنافق، ويمده بالإمكانيات اللازمة ليستعملها كوسائل تحايل متاحة (القدرة السريعة على التحايل والكذب، النفاق، المال…) من أجل كسب ناخبيه المحتملين. وعندما يتم انتخابه ورفعه إلى الجزء العلوي من شجرة التفاح المثمرة، يتجاهل بكل بساطة كل ناخبيه ودعمهم له. لكن يبقى لدراماتورجيا الطيب لعلج، الفضولية طبعا، تأثير واسع، ولكن فقط داخل المغرب. وعكس نظيره الصديقي، الذي أصبح الكاتب المسرحي الرائد في مجال المسرح الاحتفالي على مستوى العالم العربي بالخصوص، والعالمي عموما، فإن شهرة لعلج محدودة في المغرب عموما، كما أن أعماله منتشرة داخل المجال الوطني. والعلة في ذلك، تعود لكون الطيب لعلج يؤلف بلغة عربية عامية مغربية قوية للغاية، ومطروزة بل متناسجة بشكل ملفت مع موضوعها، بحيث يصعب فك معانيها ودلالاتها البعيدة، بالنسبة للعرب غير المغاربة. ورغم ذلك، فالكثير من الفرق المسرحية المحترفة اليوم لا زالت تؤدي مسرحياته على الخشبة، بما في ذلك إعادة مسرحة “النشبة” من طرف المسرح الوطني محمد الخامس في عام 2006 من إخراج المبدع محسن مسعود، الذي أكد لنا بأن نصوص لعلج لا تزال تكتسي راهنية وهي بحاجة لكتابات ركحية جديدة.

الكغاط وارتجال الفرجة

– صديقنا كان، الراحل الكغاط، وحكاء ماهرا.. ومرتجلا بنفس مغربي/بيكيتي في الآن ذاته. تذكر نكتة بل حكاية الفلاح وثيرانه الملونة.. كم كان يعيد حكايتها مرات من دون انقطاع ولا تشبه رواية أخرى.. وذلك ارتجال كتابة..

– لقد تعرفت على فقيدنا السي محمد الكغاط بداية التسعينيات، ولكن سرعان ما تحولت إلى صداقة رفيعة المستوى… كان يسعد بدعوات مجموعة البحث في المسرح بتطوان… معروف أن روحه مرحة وهو حكاء ماهر…  لا زلت أتذكر آخر مكالمة معه وهو في المشفى في باريس… رحم الله فقيدنا.

فوازان بين جزمة الفرنسيس وروح الشعب

– ما بعض فاكهة تجربة أو العسكرة الفنية المؤقتة بالمعمورة؟ وما طبيعة فاكهة عطاء أندريه فوازان للمسرح المغربي؟

كتلميذ لأنطونان أرطو، وشارل دولان، جاء فوازان إلى المغرب باحثا عن جماليات مغايرة عوض فرض الأسلوب الكوميدي الفرنسي المعروف. وهو يقول في أحد اعترافاته: “أنا لم أذهب إلى هناك بفكرة غربية أو من أجل الغرب.” لكن، نظرا للحالة الاستعمارية التي يوجد عليها المغرب والمسرح المغربي معه، وانبهار فوازان بالثقافات الفرجوية المغربية بكل اختلافاتها المذهلة واطلاعه الواسع على الجانب الفوضوي للنشاط المسرحي الدائر بالمغرب في ذلك الحين، كان من الصعب عليه في البداية التخلص من النظرة الغربية. لذلك يمكن اعتبار مهمة فوازان صعبة ومعقدة رغم كونها مجددة واستشرافية، لأنها في الأصل مسيجة ضمن سياسة فرنسا الاستعمارية.

لقد أدرك فوازان منذ البداية أن المسرح المغربي يفتقر إلى ربرتوار مسرحي،  وأرشيف خاص به وفرقة وطنية. فاتخذ تدابير عملية، وسطر برنامجا من شأنه تطوير وتوسيع المسرح كمجال فني يرتبط به الجمهور المغربي بشكل جذري، وكأحد الحاجيات الثقافية/الفنية/الترفيهية الضرورية لمجتمع متسم بالتنوع. فسعت محاولاته لترسيخ تقليد مسرحي شعبي لإقناع الجمهور المغربي باعتماد واقع صادق يُعبَرُ عنه على خشبة المسرح تماما كما هو معاش في الحياة اليومية. وقد عرف هذا التصور نجاحا ملحوظا في البداية. ومع ذلك، لم تتمكن رؤيته من الابتعاد والتخلص من الإيديولوجية الاستعمارية ومختلف تنميطاتها “الجوهرانية” على الرغم من محاولاته اليائسة للابتعاد قدر الإمكان عن السياسة الاستعمارية والحمولة الثقافية الأوربية. وبعد مرور عقد عن مغادرته المغرب، دافع فوازان عن مشروعه الجوهراني قائلا:

“هناك اتجاه عام في إفريقيا نحو الانحراف بعيدا عن أشكال الأداء التقليدية، اعتبارا منهم أنها نوع من الإرث الفولكلوري القديم، واعتقادا منهم بأنه لا توجد أي آفاق مستقبلية لهذا الإرث الغني، وهو سبب التخلف أو “التحفظ” الذي لا جدوى منه في مسرح الصراع والمقاومة، والمسرح الديداكتيكي، وغيرهما من الأنواع والأشكال الفرجوية هناك. شخصيا، أنا لا أرى الأمور على هذا النحو. أعتقد أننا يجب أن لا نضع التطور السياسي لبلد ما وإمكاناته الفنية/الإبداعية في نفس الإطار […]”

من الواضح جدا أن منعطف فوازان الفرجوي في المغرب قد ساهم بشكل فعال في استعادة الثقافات الفرجوية المغربية المختلفة. لكن هذه الرؤية واجهت مشاكل عدة في سياق السياسة الاستعمارية الفرنسية وحماسها اتجاه عصرنة المحميات والمستعمرات التابعة لها. إن محاولات استبدال المسرح البورجوازي بتجارب أخرى محايثة،  سيرا على نهج أنطونان أرطو، والذي من شأنه أن يحرر اللاوعي الإنساني، لا وجود لها، وغير ممكنة، في بلد محتل وتاريخه المسرحي حديث، وعمليا لا يملك أي شكل من المسرح البورجوازي الخاص به ليتمرد عليه باستثناء المسرح الأوروبي الدخيل. شرعت “فرقة المسرح المغربي” وبعدها “فرقة المعمورة”، بناء على عدم إيمان فوازان ورفاقه المغاربة والأجانب بالنهج الأدبي للمسرح، وتركيزهم على الحرفية والعرض الحي، في الاشتغال على سلسلة كاملة من الأعمال الجماعية الحرة المستنبتة، ومعظمها تعود لموليير، وبومارشيه، وشكسبير، وغيرهم. فحصل أحمد الطيب لعلج مثلا، بشعريته الشعبية وتمكنه من الأسلوب الكوميدي التقليدي، على لقب موليير المغربي. وعلى سبيل المثال، في مايو 1956، تمت برمجة عملين مسرحيين من إنتاج الفرقة الوطنية، وهما “اعمايل جحا”، وهي استنبات جماعي لمسرحية “حيل سكاربان” لموليير (من توقيع الثلاثي الرائد: عبد الصمد الكنفاوي، والطاهر واعزيز، وأحمد الطيب لعلج)، و”الشطاب” لأحمد الطيب لعلج، لعرضهما في المهرجان الدولي للمسرح في باريس على خشبة مسرح سارة برنارد. فعُرض الإنتاجان اللذان شارك في تقديمهما حوالي الخمسبن فنانا وفنانة. وتم تقديم الطيب لعلج على أنه موليير المغربي حينها، فتمت الإشادة به وبعرضه بحماس كبير من قبل الجمهور الفرنسي والكتابات الصحفية كذلك. وعلى الرغم من أن الجمهور لم يفهم اللغة، فقد كانت علامات الفرح بادية على محياه نظرا للطريقة التي تم تنفيذ العمل المسرحي بها، والشكل الذي قدمت من خلاله أعمال فنانهم المسرحي المحترم، وكذلك الكيفية التي تُرجم بها من قبل الآخرين المغاربة. ومنذ ذلك الحين، ارتبط اسم هذا المسرحي المغربي بالتقاليد المغربية للمسرح الشعبي؛ إذ استنبت عدة تجارب من أجل المسرح المغربي، وقام بتمثيل عدة أدوار في كثير من روائع المسرح المغربي من مثل “مريض خاطرو”، وهي استنبات لمسرحية “مريض الوهم” لموليير، و “ولي الله”، التي هي استنبات آخر لمسرحية “تارتوف أو المنافق” لنفس المؤلف.

إريكا فيشر وإرث التأمل الفلسفي

– تعتبر الباحثة إريكا فيشر لشته باحثة حفرت أخاديد على جسد النقد المسرحي من ترسيخ المفاهيم إلى بعض التأريخ..

– إيريكا فيشر ليشته Erika Fischer Lichte، أستاذة الدراسات المسرحية، ومديرة المعهد الدولي لتناسج ثقافات الفرجة التابع للجامعة الحرة ببرلين، وهو مشروع بحثي دولي رائد يتحلق حوله ثلة من كبار المفكرين أمثال: هومي بابا، وروستم باروتشا، ومارفن كارلسن، وكريستوفر بالم، وبراين سنجلتن، وجاكلين لو، وبيودان جييفو، وميتسويا موري، وهلين غيلبورت، وربيع مروة، وأونج كنج سين، وريك نويل، وفليب زاريلي، ونيكولا سافاريسي… كما تشرف على أهم سلسلة للدراسات المسرحية المعمقة ضمن منشورات راوتلدج المرموقة. وهي أيضا المديرة السابقة لمعهد المسرح بالجامعة الحرة ببرلين؛ كما شغلت العديد من المناصب في ألمانيا، حيث رأست الجمعية الألمانية للمسرح فيما بين 1991 و1996، وكذلك الفيدرالية الدولية للبحث المسرحي IFTR في الفترة من 1995 إلى 1999… لإيريكا فيشر ليشته إسهامات رائدة في مجال التنظير المسرحي. وتبلور مشروعها النقدي الخاص في مجموعة كبيرة من المصنفات من بينها: “سميائيات المسرح” الذي قدمت فيه نظرية متكاملة لنظام السيميوزيز المسرحي، وأثارت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية سنة 1992 نقاشا مهما في الأوساط الأكاديمية الأنجلو-ساكسونية؛ “جماليات الأداء: الطاقة التحويلية للفرجة” (الذي نشر باللغة الألمانية عام 2004؛ “عودة ديونيسوس” (2013) وهو الكتاب الذي يفكك البنيات الثقافية وراء إعادة إحياء “الباخوسيات” ليوريبيدس مند أواخر الستينيات من القرن الماضي، من خلال تحليل هذه العروض المعاصرة ووضعها في سياقات محددة. وقد كشفت ليشته على تقابلات بين ما يحدث في المسرحية والأحداث الحقيقية لفترة إعادة إحياء النص اليوريبيدي؛ وكتاب “تناسج ثقافات الفرجة: نحو إعادة التفكير في “مسرح المثاقفة” سنة 2014 والذي نحن الآن بصدد ترجمة مقدمته… باختصار، لمشروع فيشر ليشته البحثي والتنظيري أهمية خاصة في مجال الدراسات المسرحية في أوربا وأمريكا وباقي دول العالم.

أيغتال الريع الثقافي الابداع؟

– حدث أكثر من مرة أن حجبت أو كادت أم تحجب جائزة المهرجان الوطني للمسرح مع العلم أن المسرحيات المقدمة حظيت بالدعم! هل أساء الدعم إلى المسرح، أم لجنة الدعم.. والدعم ولاءات وتوافقات وشللية.. والدعم قد يقتل الابداع..

– الدعم ضروري… والوزارة الوصية أقرت آلية الدعم على عهد الوزير الأشعري سنة 1998 كخطوة أولى بهدف إصلاح مجال المسرح الاحترافي…. لكن هذه الخطوة الأولى لا زالت تراوح مكانها… باختصار، استنفدت آلية الدعم مهمتها … ولم يعد بالإمكان أن تضيف أي شيء… إن وجوب الانتقال إلى أفق آخر بات أمرا ضروريا للحفاظ على مكتسبات المسرح المغربي والإقلاع به نحو ممارسة مهنية…

– فلنقف للتوضيح، وقد اتفقنا على نبذ لغة الخشب، وتسمى لغة الساسة أساسا: أولا ما ملامح استنفاذ آلية الدعم لمهمتها، وما ملامح الأفق الآخر الذي يجب الانتقال إليه؟

– كانت الفكرة الأساسية من وراء إحداث آلية قانونية لصرف المال العام الموجه إلى الفرق المسرحية هي محاربة الريع والزبونية، ولكن هذه الآلية لم تستطيع تحقيق أهدافها بالكامل.. وبالتالي ظلت تراوح مكانها… الآن أصبحت هذه الآلية تؤثر سلبا على الإبداع المسرحي المغربي، إذ أصبحنا نلحظ مدى تأثير المنحى البيروقراطي على الإبداعي… وإذا أردنا الانتقال إلى أفق الصناعة المسرحية، علينا أولا أن نتذكر بأن آلية الدعم كانت مجرد خارطة طريق لننطلق منها إلى ما هو أرحب.

يسدل الستار..

– للمسرح المغربي وقضاياه والعربي حضور في الفيدرالية الدولية..

– منذ 2007 تأسست مجموعة عمل المسرح العربي ضمن الفيدرالية الدولية للبحث المسرحي.. وهي مجموعة تعنى بقضايا المسرح العربي سواء داخل البلدان العربية أو في المهجر.. وقد ساهمت هذه المجموعة في التعريف بالمنجز المسرحي العربي على أكثر من مستوى…

– وهذه المجلة (دراسات الفرجة)، ما ظروف نشأتها، مشاكل استمرارها.. صعوبات تحقيق بعض أهدافها..

– “دراسات الفرجة”، هي مجلة تعنى بالمسرح، وفن الأداء، وباقي فنون المدينة. وهي سعي إلى مد جسور التواصل المثمر بين الدراسات المسرحية وتخصصات أخرى مجاورة، من قبيل: الأنتروبولوجيا الثقافية، دراسات الفولكلور، والإثنو-موسيقى، والرقص… وهي أيضا محاولة لمواكبة التنوع المتطور لدراسات الفرجة عالميا، وفي العالم العربي الإسلامي خصوصا، إضافة إلى سعيها بأن تشكل جسرا بين الدرس الجامعي ومحيطه الخارجي، والفرجوي على وجه الخصوص. ولكنها تعاني صعوبات في تحقيق أهدافها… صعوبات في التوزيع، صعوبات في مد جسور التواصل بين الممارسة الإبداعية والنقد… صعوبات في الاكتتاب… أملنا أن تستقبل بمحبة وأريحية… ما أحوجنا إلى نقاش صريح حول منجزنا المسرحي…   

[1]  حفناوي بوعلي، أربعون عاما على خشبة مسرح الهواة في الجزائر، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر: 2002، ص. 229.   

[2] Homi Bhabha, Interview with Gary Olson and Lynn Worsham, 1999, p. 39.

[3] Timothy Brennen, “Edward Said as Lukacsian Critic”, College Literature: A Journal of Critical Literary Studies, Fall 2013, p. 27.

[4] عبد الفتاح كيليطو، جذور السرد، ص ص 155- 156- 325.

شاهد أيضاً

“الجسد الفرجوي”: محور نقاش الدورة 18 لمهرجان طنجة للفنون المشهدية طنجة، 26-30 نونبر 2022

يُنهي المركز الدولي لدراسات الفرجة، أن فعاليات الدورة الثامنة عشرة من مهرجان طنجة الدولي للفنون …

التقرير الأدبي 2017-2021

  كلمة لا بد منها 1. مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية (من 2017 إلى 2021) …

عَـرُوسُ الْأَسْـرَارْ… عَوْدٌ عَلَى بَدْء كلمة المبدع محمد قاوتي في افتتاح الدورة 17 من مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية

محمد قاوتي تَرَتَّبَ الصَّبْرُ على كل شيء إلا على وَقْفَة الواقِفِ فإنها تَرَتَّبَتْ عليه حين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *