- د. حسن يوسفي
- الربيع العربي و”المنعطف الفرجوي”
تجدر الإشارة، بدءا، إلى أن الربيع العربي باعتباره لحظة تحول كبرى في تاريخ بعض الدول العربية، قد أفرز زخما قويا من الفرجات، منها الحية والوسائطية، الواقعية والمتخيلة، الجادة والهازلة، إلى الحد الذي جعل كل ما واكب هذا الربيع من أحداث ووقائع في الساحات والشوارع وفضاءات الاحتجاج المختلفة، يصبح هو نفسه فرجة مفتوحة على كل الاحتمالات يختلط فيها المؤدون والمتفرجون، وتتداخل فيها الأدوار بشكل يستحيل معه التمييز أحيانا بين من يؤدي ومن يتفرج.
ولعل هذا الوضع هو الذي يجيز لنا الحديث عن “منعطف فرجوي” حقيقي بالمعنى الذي تحدثت عنه الباحثة الألمانية إيريكا فيشر، وبسطه أمامنا خالد أمين من خلال ربطه بتحولات الفرجة المسرحية العربية والمغربية، حيث يقول: “ما أسميه بالمنعطف الفرجوي هو انفلات تجريبي آخر يبحث عن طرائق بديلة لصناعة الفرجة، وعن منظور جديد لتلقيها؛ ذلك أن المسرح في نشأة مستمرة، ويتوفر على قابلية داخلية للتجاوز وإعادة البناء انطلاقا من تفاعله مع محيطه والإبستيميات المتحكمة في إنتاجه وترويجه”(1).
وإذا كانت ملامح المنعطف الفرجوي قد اتضحت من خلال تحولات ثقافية وجمالية عرفها المسرح العربي والمغربي، لعل من أبرزها ظهور ما يسمى ب”الدراماتورجيا الركحية” و”مسرح ما بعد الدراما”، فإن ما أفرزه الربيع العربي من فرجات يبقى عنوانا بارزا على هذه التحولات.
ولعل من علامات هذا المنعطف الفرجوي المتصل بالربيع العربي، ما أبدع من فرجات حية وفي طليعتها المسرح، ومن فرجات وسائطية، ولاسيما منها تلك التي تستعمل تقنيات التصوير الحديثة، ومنها التصوير الرقمي والفيديو. فعلى الصعيد المسرحي، لاحظنا أن تجارب مسرحية جديدة رأت النور في خضم التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي واكبت الربيع العربي، خصوصا بعد الإطاحة بأنظمة ديكتاتورية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وقد كان من ثمرات هذه الحركية المسرحية التي خلقها الربيع العربي أن نظمت تظاهرة خاصة بها في أعرق المهرجانات المسرحية العالمية، ألا وهو مهرجان أفينيون في دورة 2011، وذلك بمبادرة من جمعية “TAMAM أي مسرح فنون العالم العربي والمتوسطي”، والتي اختارت لهذه التظاهرة المسرحية المنظمة على الهامش عنوان: “الربيع العربي يصنع مهرجانه: Avignon Off 2011”.
شاركت في هذه التظاهرة عروض مسرحية من تونس ولبنان ومصر وسوريا، تراوحت بين مسرحيات قصيرة Courts-théâtres فردية من أجل الثورة، لفنانين تونسيين منهم عالية سلامي بمسرحية “الثورة Al Thawra”، وهيفاء بوعطور بعرض “ضربة قاضية ثقافية Ko intellectuel”، وعبد المنعم شاعويات بمسرحية “أنتيجون Antigone”، وحاتم كروي بعرض “ثورة Révolution”. علاوة على تجارب من لبنان كـ”علبة الموسيقى La boite à musique” لمايا زبيب، ومن مصر كـ “ممكنات الثورة Les peut-être(s) d’une révolution” لنورا أمين، ومن سوريا كعرض “ثورة الغد أجلت إلى البارحة La révolution de demain reportée à hier” للأخوين محمد وأحمد ملص.
ولعل ما جمع بين هذه المسرحيات هو مقاربتها للربيع العربي باعتباره ثورة لها أبطالها وعوائقها وإشراقاتها وآثارها على الواقع والوعي والإحساس والفعل لدى المواطن العربي. كما أنها ، من الناحية الفنية تجسدت على شكل مونودرامات اتسعت فيها دائرة البوح، الموجع أحيانا والثائر أحيانا أخرى، على لسان شخصيات نسائية ورجالية واكبت الثورة وتداعياتها الاجتماعية والنفسية، وحاولت صياغة أحلامها من أجل غد أفضل تتسع فيه مجالات الحرية والعيش الكريم.
وإذا كانت هذه العروض المسرحية وغيرها قد اعتبرت بمثابة انعكاس لرياح التغيير التي هبت على البلاد العربية بفضل الربيع العربي، فإن ثمة أعمالا مسرحية اعتبرت بمثابة تنبؤ أو استشراف لهذا الربيع، منها مسرحية “أمنيزيا أو يحيى يعيش” للمخرج التونسي المعروف فاضل اجعايبي ورفيقة دربه في الفن كما في الحياة جليلة بكار. و”قد عرضت هذه المسرحية لأول مرة في تونس في شهر أبريل عام 2010 ولاقت نجاحا كبيرا فيها. لكنها اكتسبت بعد الثورة بعدا آخر حيث اعتبرت من الأعمال الجريئة التي استشرفت الثورة قبل وقوعها، وتنبأت بالكثير مما حدث بعد وقوعها كذلك”(2).
فمن خلال تسليط الضوء على جوانب من شخصية مسؤول كبير هو “يحيى يعيش” ومن حياته وذاكرته وأحلامه التي بلورها في خدمة الاستبداد، تكشف المسرحية عن أعطاب المجتمع التونسي وتبخر أحلامه في ظل نظام فاسد. فأعضاء “فرقة فاميليا” المسرحية بقيادة اجعايبي “أرادوا طرح الحقيقة على الجمهور بلا قناع في هذه المسرحية الجديدة، بالرغم من معرفتهم بالخطوط الحمراء التي عليهم ألا يتجاوزوها، في عالم يرسف في قيود الرقابة المرئية منها وغير المرئية. ومع ذلك ملأوا المسرحية بإشارات كثيرة للحاضر والماضي القريب، يستطيع الجمهور أن يلتقطها بسهولة. صحيح أن الرقابة المثلثة (وزارة الثقافة والداخلية والرئاسة) اضطرتهم لحذف الكثير، خلال جدل استغرق أكثر من ثلاثة أشهر، لكنهم استطاعوا التعويض عنه بأشكال مراوغة ملأت المسرحية بالإشارات والعلامات التي جعلتها قادرة على إيقاظ الشعب من تلك “الأمنيسيا: أي فقدان الذاكرة” التي غرق في فيافيها، ورد ذاكرته التاريخية والسياسية له كي ينجز ثورته، وأهم من ذلك كي يعي كيف يصل بقارب الثورة إلى بر تحقيق غاياتها الأساسية وسط أمواج الثورة المضادة وأنوائها”(3).
وإذا كان هذا شأن المسرح الذي ما يزال يفرز إلى حدود اليوم، تجارب تعتبر صدى لتحولات الربيع العربي، كما هو الشأن في التظاهرة المسرحية التي استضافتها مدينة هانوفر الألمانية خلال شهر ماي 2012، تحت عنوان “الربيع العربي”، والتي شاركت فيها فرق مسرحية عربية بمبادرة من الفنان المسرحي المغربي المقيم هناك فتاح الديوري، فإن مجال الفرجة الوسائطية، ولاسيما منها تلك التي توظف المجال السمعي-البصري بمختلف إمكاناته، يبقى إطارا خصبا لتفجر الطاقات الإبداعية الخلاقة في مجال الفرجة على الصعيد العربي، لاسيما وأن هذه الفرجة القائمة على بلاغة الصورة تلقى إقبالا منقطع النظير على صعيد الإنتاج كما التلقي، ساعدها في ذلك اتخاذها من الإنترنيت ومن مواقعه الاجتماعية والسياسية والترفيهية سندا للترويج والتداول على الصعيد الجماهيري.
- الربيع العربي وفرجاته الوسائطية:
إن المبحر في بعض المواقع الاجتماعية كالفايسبوك أو تويتر، أو الترفيهية كاليوتوب، على شبكة الإنترنيت، لابد أن يصطدم بهذا الزخم الفرجوي المتصل بالربيع العربي وتداعياته. ولعل من ضمن الفرجات الحاضرة بقوة تلك التي تقدم مشاهد واقعية لأحداث مأساوية أو طريفة أفرزها سياق الثورة العربية في بلدان كتونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والمغرب، ترتبط إما بالحكام أو بالشعوب وبحركيتها وإبداعيتها في مجال الاحتجاج والتمرد والتعبير عن المطالب.
فعلى الرغم من واقعية هذه المشاهد، فإن أصحابها يقدمونها باعتبارها فرجة نظرا لما تنطوي عليه من دلالة سياسية من جهة، ونظرا لاقتناعهم بأنها يمكن أن تندرج في سياق “الفرجوي Le spectaculaire”، لاسيما وأن دلالة هذا الأخير هي: “ما يثير الحواس، وما يثير اهتمام ذاك الذي يشاهد أو يسمع، بسبب خاصية لا يومية، أو مظهر خارق، غير منتظر، وبسبب تجاوز معيار مقبول”(4). كما أن له بعدا تاريخيا يتجلى في علاقته بالمعيش وبالسياق السياسي والاجتماعي، ويمكن أن يتجسد في أنماط مختلفة من بينها: المرعب، العظيم، الضخم، الفوق-طبيعي، السحري أو العجيب. وكلها أنماط نجدها في هذه الفرجات الواقعية المتصلة بالربيع العربي والتي يمكن أن ندرجها تحت يافطة واحدة هي “الفرجوي الجماهيري Le spectaculaire de masse”. ويتأرجح هذا الفرجوي المرتبط بالربيع العربي بين صورة ثابتة غنية بالدلالات السياسية لكلمة “ارحل” أو جملة “الشعب يريد إسقاط النظام”، مكتوبة بصيغ مختلفة، وبين مشهد حي لـ “موقعة الجمل” في ميدان التحرير بالقاهرة باعتباره فقضاء للاحتجاج ورمزا للثورة المصرية؛ هذا على سبيل المثال لا الحصر.
لكن تبقى الإشارة الجديرة بالاهتمام هي تلك المتعلقة بالطابع السياسي لهذا النوع من الفرجات. لذا، نجد الدكتور حسن المنيعي في سياق مناقشته لموضوع “أبو الفنون والربيع العربي: أية علاقة”، يؤكد أن “ما هو سائد في العالم العربي هو أن الربيع العربي حاضر في الفرجة العربية عن طريق ما يسمى بالخطاب السياسي الذي تقوم عليه الفرجة. ومن هنا، فالمسرح العربي هو سياسي مائة بالمائة حتى لو لجأ الفنان إلى توظيف بعض الجماليات انطلاقا من خبرته، فإنه لا ينسلخ عن السياسي. وهنا يجب أن نسأل، أي مسرح نريده أن يكون موازيا للربيع العربي، هل هو مسرح مباشر يعيش الحدث، أم هو مسرح يمسرح الحدث فقط؟”(5).
إن الفرجات الجماهرية التي تنتشر على شبكة الإنترنيت تجيب على هذا السؤال. فمن جهة، ثمة فرجات تعيش الحدث وتنقله في وضعه الخام لكن من زاوية نظر تحوله إلى فرجة من خلال التركيز على مظهر أو نمط من أنماط الفرجوي فيه، ومن جهة أخرى هناك فرجات تمسرح الحدث لعل من أبرزها ما نسميه هنا ب “فرجة الحاكم”، أي الفرجة التي تتخذ من الحكام المخلوعين موضوعا لها وتقدمهم في قالب هزلي comique.
- الربيع العربي والفرجة الهازلة:
تبوأت الفرجة الهازلة مكانة راسخة في سياق المنعطف الفرجوي الذي خلقه الربيع العربي، حيث يقف المبحر في المواقع الاجتماعية والترفيهية على شبكة الإنترنيت على العديد من الأفلام القصيرة أو الفيديوهات المصنوعة التي أبدع أصحابها في توظيف تقنيات الأفلام الكرتونية أو ما يعرف بالرومكس Remix من أجل صياغة فرجة هازلة غالبا ما يكون موضوعها هو الحكام العرب الذين عصفت بحكمهم ثورة الربيع العربي، إلى الحد الذي جعلنا نقف على نوع فرجوي قائم الذات يمكن أن نسميه ب “خرجة الحاكم الهازلة”.
والمثير في هذه الفرجة أنها تستثمر الإمكانات التقنية للسمعي-البصري من أجل تقديم أنماط وأشكال مختلفة من الهزل Comique هي: الفكاهة Humour، والتهكم Satire والمحاكاة الساخرة Parodie والسخرية Ironie(6). فمن خلال توظيف الخصائص والإمكانات التعبيرية المتصلة بكل نوع من هذه الأنواع من الهزل، تعمل هذه الإبداعات على تقديم فرجات أبطالها الحكام العرب المخلوعون، أي: بنعلي الهارب، ومبارك المستقيل والقذافي المقتول، جاعلة من خطاباتهم ومواقفهم ومظاهرهم الجسدية والسلوكية أرضية لصياغة فرجة ضاحكة بالكلمة والصورة.
إن هذه الإبداعية الفرجوية الساخرة من الحكام غالبا ما تتخذ بعدا سياسيا لا تخطئه العين، لكنها تبقى وفية لخصائص كل شكل هازل على حدة من الناحية الجمالية مما يبرز مهارة وحذق أصحابها.
فالمعروف أن قوة الهزل تختلف من نمط إلى آخر بحيث تتخذ صيغة مرحة في أدنى درجاتها مع الفكاهة، لكنها تصل إلى أقصى درجات العدوانية والإيذاء الشخصي مع السخرية، وأكثر من ذلك مع التهكم. فالسخرية تتميز بكونها “هازئة، عدوانية، تستهدف شخصية-ضحية، وناقدة. فهي إذن مغرضة”(7). وعليه، فهي تتميز عن الفكاهة لأنها هجومية ف”بينما تعد الفكاهة فرجة مجانية ليس لها من هدف سوى لذتها الخاصة ولذة الآخر، فإن السخرية تقصد إدانة سلوك شخص أو جماعة ما”(8). وإذا كانت المحاكاة الساخرة شكلا هازلا يستعمل كل أنواع القلب والتحويل والتغيير يمارسها نص ساخر texte parodiant على نص مسخور منه Texte parodié، مما يجعل منها خطابا نقديا بالأساس، فإن التهكم ينطلق من أساس صراعي، أي من نية في تصفية الحساب بواسطة العنف الكلامي، مما يجعل منه سخرية ذات طابع أخلاقي وليس عقلي.
في ضوء هذه المستويات من النقد والتجريح وتصفية الحساب والعدوانية، يتعين قراءة الخطابات الفرجوية الساخرة من الحكام العرب والتي جاءت في سياق ما أفرزه الربيع العربي من ردود أفعال ضدهم. وإذا كانت هذه الظاهرة قد اعتبرت علامة على المنعطف الفرجوي لهذا الربيع ساهمت في انتشارها وسائل الإعلام والاتصال الحديثة، فإنها، مع ذلك، تبقى ظاهرة راسخة الجذور في مختلف الثقافات التي عرفت نماذج لحكام مستبدين، وفي طليعتها الثقافة العربية الإسلامية؛ هذه الثقافة التي لا تخلو من نماذج من الأدب الهازل الذي ينصب على الاستبداد، أدخله أحد الباحثين في ما سماه بـ “التهكم السياسي”، حيث يقول: “يخطئ الملوك والحكام المستبدون حينما يخالون أن سطوتهم وسياط عذابهم ورهبة سجونهم، وغيرها من صنوف، كفيلة بأن تجنبهم جراحات الألسنة، ووخزات النوادر، ولهب الأنفاس المكبوتة.
ذلك بأن الناس إذ يشعرون بالضغط النازل عليهم، ويجدون أنفسهم في ضيق وفي تضييق، يؤثرون الموادعة في الظاهر، أو كثيرا ما يؤثرونها، لكنهم لابد أن يتنفسوا. ولهذا التنفس سبل شتى، منها الأقاويل، ومنها الأقاصيص الخرافية، ومنها التهكم والتندر. ولعل كثيرا من النوادر والفكاهات التي تصور الحالة السياسية في العصور المختلفة قد كساها المتفكهون رداء المبالغة، ليجسموا الصورة، ويفتنوا فيها، فيعظم وقعها. ولعلهم في بعض الأحيان قد اخترعوا أحداثا، وتندروا بها، لكنهم في اختراعهم هذا مهرة، لأنهم طابقوا الواقع، وشابهوا الحقيقة، وولدوا من الوقائع المشاهدة أمثالا لها ونظائر. ولهذا التهكم السياسي أثر مزدوج، فهو تنفيس عن المظلومين المكبوتين، وراحة لأنفسهم وجمام، وملهاة ومسلاة، وثأر وقصاص، وهو ردع للظالمين وعظة لغيرهم وتأديب”(9).
واضح أن هذا الكلام يستحضر بالأساس، نماذج تقليدية من الهزل السياسي تندرج في سياق الخطاب الأدبي، وبالتالي فهي أدخل في باب “الأدب الهازل”(10) إلا أن ما أشار إليه من خصائص ووظائف تتصل بالتهكم السياسي تنطبق بقوة على فرجات الحاكم الهازلة التي أفرزها الربيع العربي. يكمن الفرق، فقط، في كون هذه الفرجات طورت أساليبها وتقنياتها في صناعة فرجة تعتمد الصورة وتستفيد من الثورة الرقمية ومن آفاق التواصل الجماهيري لهذا العصر. من ثم، لم تعد الفكاهة ولا السخرية ولا التهكم ولا المحاكاة الساخرة لفظية وحسب، وإنما أصبحت سمعية-بصرية مما ضاعف من قوة تأثيرها واتساع تداولها، كما تشهد على ذلك الأرقام وأعداد المبحرين الذين شاهدوا هذه الفرجات، وتأتي في طليعتها الفرجات الهازلة التي انصبت على شخصية “القذافي” وعلى خطبه ومواقفه وسلوكاته ومظهره الجسدي وطرائف حياته السياسية، والتي تعرض نماذج كثيرة منها في موقع “يوتوب Youtube”.
- فرجة الحاكم نهاية “أسطورة البطل”:
مما لاشك فيه أن المتتبع لثورة الربيع العربي في ليبيا، بقدر ما كان يتفاعل مع المشاهد المأساوية التي كانت تنقلها الفضائيات حول الحرب بين الثوار وبين الموالين للنظام الديكتاتوري البائد، بقدر ما كان يعيش بين الفينة والأخرى، على إيقاع خرجات القذافي وردود أفعاله الغريبة إزاء ما كان يجري في بلده. فالرجل كان يجسد أحد النماذج البارزة للحاكم الذي يمسرح سلطته.
من ثم، حرص على توظيف كل مظاهر “التمسرح السياسي Théâtralité politique ” التي سبق أن فككها الباحث السوسيولوجي جورج بالاندييه في كتابه الشهير “السلطة فوق الخشبات Le pouvoir sur scène”، ولعل أبرزها ترسيخ ما يعرف ب “أسطورة البطل”. فبواسطتها “يتأكد، في الغالب، التمسرح السياسي، فهي تخلق سلطة أكثر فرجوية من تلك السلطة الروتينية التي هي بدون مفاجآت. فالبطل لا يحظى بالتقدير، فقط، لأنه “الأكثر قوة” وبالتالي الأقدر على تحمل مسؤولية الحكم، كما يؤكد ذلك كارليل. وإنما هو مشهور بسب قوته الدرامية”(11).
إن “أسطورة البطل” هاته لم تتم ملاءمتها مع التحولات التي جاء بها الربيع العربي في ليبيا، فكان طبيعيا أن يتحول صاحبها إلى موضوع للهزل بمختلف أصنافه. ذلك أن الفرجات التي اتخذت القذافي موضوعا للضحك غالبا ما اشتغل أصحابها على خطب أو مواقف أو سلوكات أو ردود أفعال أبداها هذا الحاكم إبان الثورة الليبية. فمن عبارة “زنكة.. زنكة” التي تحولت إلى أغنية، بل وإلى فيديوكليب عمل مبدعوه على تشويه أو مسخ القذافي وجعله في صورة امرأة عارية ترقص رقصات داعرة، إلى عبارات “الجرذان” و”متعاطي حبوب الهلوسة” التي استعملها أثناء مهاجمته للثوار في خطاباته، والتي تحولت إلى موضوع للفكاهة من خلال إظهار القذافي في أفلام كرتونية تجسد شخصيته وتقحم هذه العبارات في تدخلاته. ناهيك عن المحاكاة الساخرة للخطاب الشهير الذي دعا فيه أتباعه – لإيهامهم بالنصر – إلى الرقص والغناء، حيث أصبحت الفرجة المنبثقة عن هذا الموقف بعنوان: “غن وارقص مع القذافي”، وذلك باستعمال تقنية “الرومكس Remix”. دون أن ننسى نماذج كثيرة للفرجة الساخرة التي بلغت درجة الإيذاء والتعرض للعيوب الجسدية والأخلاقية في شخصية هذا الحاكم.
إن هذا الزخم من الفرجات الهازلة التي اتخذت من شخصية القذافي موضوعا لها، يبين إلى أي حد فجر الربيع العربي – بحكم ما واكبه من أجواء حرية التعبير – إبداعية فرجوية منقطعة النظير استعملت فيها كل الإمكانات والطاقات التخيلية والتقنية، وذلك من أجل القيام بتصفية حساب شاملة مع ندوب وجروح عميقة عاشها الشعب الليبي في ظل نظام ديكتاتوري عمر لأكثر من أربعة عقود. وبغض النظر عن الاستعمال السيكولوجي أو الإيديولوجي لهاته الفرجات، فهي – من الناحية الجمالية أو من زاوية صناعة الفرجة – تبقى أعمالا فنية استطاعت أن تستثمر كل آفاق الهزل الممكنة من أجل صياغة خطاىىىب فرجوي يعكس مرحلة تحول عميقة في التاريخ العربي ويصبح، بالتالي، عنوانا على “منعطف فرجوي” له سماته المميزة التي لاشك ستحفظ في ذاكرة الفرجات.
الهوامش:
- خالد أمين – المسرح ودراسات الفرجة – منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة – سلسلة دراسات الفرجة 14 – الطبعة الأولى 2011 – طنجة – ص 60.
- صبري حافظ – “يحيى يعيش: أمنيسيا” لفاضل الجعايبي: المسرح والثورة التونسية – مجلة “المسرح” (فصلية تعنى بالمسرح) تصدر عن دائرة الثقافة والإعلام – إدارة المسرح – الشارقة – العدد 8 – مارس 2012 – ص 99.
- نفس المرجع – ص 101/102.
- -Béatrice Picon-Vallin – Le Spectaculaire de masse : du théâtre au cinéma (Eisenstein dans le contexte théâtral soviétique (in) le spectaculaire – cahiers du Gritec – Aleas Editeur Mars 1997 – p 63.
- حسن المنيعي (في) المائدة المستديرة لملتقى الشارقة التاسع للمسرح العربي: أبو الفنون والربيع العربي: أية علاقة؟ – مجلة المسرح – العدد 8 – مارس 2012 – ص 21.
- انظر تمييزنا بين هذه الأنماط في دراستنا عن “المسرح والضحك” (في) حسن يوسفي – المسرح ومفارقاته – مطبعة سندي – مكناس – الطبعة الأولى 1996 – ص 25/26/27.
- -Denise Jardon – Du comique dans le texte littéraire de Baeck – Du culot – 1988 – p 73.
- -Georges El Gozy – De l’humour ( Edit Denoël 1979 – p 20.
- أحمد محمد الحوفي – الفكاهة في الأدب: أصولها وأنواعها – نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع – يناير 2001 – القاهرة – ص 224.
- لتسليط الضوء على هذا النوع من الأدب يمكن مراجعة: يوسف سدان – الأدب العربي الهازل ونوادر الثقلاء – منشورات الجمل 2007.
- -Georges Balandier – le pouvoir sur scènes – Edit Balland 1992 – p 17.