الجمهور في مسرح الشارع: من الفضولية التلقائية إلى المشاركة الفعلية  سعيد كريمي

سعيد كريمي

(باحث – المغرب)

 

 

 

تمهيد

من نافلة القول أن علاقة المسرح بالجمهور علاقة مركبة، وغير بريئة، ولها ارتباط وثيق بمختلف السياقات التاريخية، والفكرية، والدينية، والأيديولوجية…ذلك أن ولادة ونشأة المسرح، ارتبطت في أثينا بالجمهور الذي طالما شكل حكما، وسلطة نقدية لا يمكن تجاوزها، كما أن الفضاء المفتوح الذي كانت تعرض فيه الأعمال المسرحية الخالدة، ينم عن تشبع اليونانيين بمنسوب كبير من الحرية، والديمقراطية. بيد أن العقلية الظلامية للقساوسة والرهبان، وتحالفهم مع الإقطاعيين والملكيات المطلقة، أقحم المسرح داخل الكنائس، وتم تنميطه والاجهاز عليه، وابتعد بذلك عن الاهتمامات الحقيقية للجماهير… وبفضل فلسفة الأنوار، ودخول الغرب إلى الحداثة من بابها الواسع، تصالح الجمهور مرة أخرى مع أب الفنون، إلا أنه صار يقام داخل القاعات الإيطالية، والأوبرات…ونتيجة تسارع التقدم العلمي والتكنولوجي، بدأت مجموعة من الفنون تنافس المسرح، وعلى رأسها السينما، والتلفزيون، ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي التي هيمنت بشكل مطلق في الألفية الثالثة.

وعليه، فقد صار لزاما على المسرحيين التفكير في سبل جديدة لاستعادة التواصل المباشر والحميمي مع الجمهور، فأضحى مسرح الشارع أحد أهم هذه الإجابات. وهذا لا يعني أن هذا النمط الفرجوي لم يولد إلا في الفترة الزمنية الحالية، بل هو قديم قدم المجتمعات العريقة التي كانت تقيم فرجاتها في الفضاءات العمومية، والساحات، والشوارع، والأسواق…والأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح هي: هل مسرح الشارع اختيار أم ضرورة؟ هل هو بديل عن المسرح الاعتيادي والمتداول؟ كيف يتم استقطاب الجمهور إلى هذا النوع من المسرح؟ وكيف يتفاعل هذا الجمهور مع مختلف العروض؟ متى يكون الجمهور منفعلا، ومتى يصير فاعلا في مسرح الشارع؟ وإلى أي حد يمكن أن نتحدث عن شعرية خاصة بهذا المسرح، فلسفيا وجماليا؟

  • مركزية الجمهور في العمل الفرجوي

كان الجمهور منذ البدايات طرفا فاعلا في العمل المسرحي، إذ عليه يتوقف نجاح أو فشل العروض التي كانت تقام آنذاك، فتكون بذلك له كلمة الفصل. والذي يثمن ما نقوله هو أنه على الرغم من كون مسرحية ” أوديب ملكا للشاعر الفحل سوفوكل أروع ما خلفه اليونان من آثار مسرحية، فإنها لم تنل الجائزة الأولى في المسابقات الاحتفالية بأعياد ديونيزوس، وإنما فازت بها مسرحية لشاب ناشئ اسمه فيلوكس، وهو ابن أخت الشاعر الكبير إشيل”[1]. فالجمهور إذن كان يمارس النقد المباشر، وإن أدى ذلك إلى التمحل والاعتساف في حق أحد عمالقة المسرح؛ إذ إن هذه المهمة كان من المفروض أن توكل إلى أخصائيين في هذا المجال حتى يكون التقييم موضوعيا، إلا أن الديمقراطية الأثينية أبت إلا أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، ويتم اللجوء إليه ما دام أن المسرح عند اليونان كان يدخل في إطار الشأن العام والثقافة العامة.

وإذا وصلنا إلى أر سطو -الأب الروحي للمسرح- الذي يشكل سلطة نقدية ومرجعية مركزية، فإننا نجده هو الآخر يعطي للمتفرج قدرا من الاهتمام من خلال إشراكه في الحدث المسرحي، وتأثره واندماجه مع سيرورة الحكاية المتضمنة في التراجيديا التي يعرفها بكونها : “محاكاة فعل نبيل تام لها طول معلوم،  بلغة مزدوجة بألوان من التزيين، تختلف وفقا لاختلاف الأجزاء ]…[ وتثير الرحمة والخوف، وتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات”[2].

ومن المؤكد أن تطهير النفوس هو المرمى والغاية التي كان يسعى إليها المسرح اليوناني من خلال عرض مجموعة من التراجيديات المتمحورة حول شتى أنواع المعاناة والقسوة الرهيبة التي يعانيها الأبطال، والتي تدفع بالجمهور إلى التعاطف معهم ومقاسمتهم لآلامهم و أحزانهم… وهذا يعني أن الجمهور هو المستهدف بالدرجة الأولى، مما يجعلنا نقر بأن المسرح اليوناني أعطى لمسألة التلقي مكانة خاصة بها.

ومنذ العصر الإليزبيتي الذي تنفس فيه المسرح الصعداء بعد الإجهاز الذي طاله أثناء العصور الوسطى، بدأ المسرح يستعيد مكانته شيئا فشيئا عقب الثورة الفرنسية، وانبلاج عصر الأنوار ومعه التجريب الذي شمل كل الميادين العلمية والتقنية والأدبية والفنية بما في ذلك المسرح. إلا أن إشكالية  التلقي المسرحي لم تطرح إلا في الفترة الزمنية المعاصرة، خاصة بعد التطور الكبير الذي عرفته السميولوجيا، وأعمال مدرسة كونسطانس الألمانية، واجتهادات المسرحيين التجريبيين والطليعيين الذين وضعوا اللبنات الأساسية للتلقي المسرحي وقعدوا لهذه العملية.

  • نحو مقاربة لإشكالية التلقي المسرحي

في ظل التهميش الذي مورس على المتلقي بصفة عامة، والمتلقي المسرحي على وجه الخصوص، برزت إلى السطح مجموعة من الصيحات، والنداءات التي حاولت رد الاعتبار إلى المتلقي الذي عليه يتوقف الاعتراف بالعمل المسرحي وتقييمه والحكم عليه. ومما لاشك فيه أن التلقي المسرحي عملية في غاية التعقيد، وتزداد هذه الصعوبة كلما تعلق الأمر باختلاف الحقول الثقافية والمرجعيات الحضارية بين منتج العرض ومتلقيه، لأن الأول يوجه مجموعة من الخطابات المسننة المنبثقة من توجهه الفكري والثقافي إلى المتفرج الذي يجب عليه فك هذا التسنين، وخلخلته، وهو ما يتطلب منه إلماما معرفيا بثقافة الغير. وهذا يعني أن المتفرج/المتلقي هو أيضا مشارك فعلي في بناء العمل وقراءته “وكل وصف  لبنية النص يجب أن يكون في نفس الآن وصفا لحركات القراءة التي يفرضها. وهذين المظهرين مترابطين”[3].

وبما أن معنى أي نص أو عرض هو عدد قراءاته، فإنه يكون أرضية مشاع لكل القراء المتلقين. فعندما يفرغ المخرج من الكتابة السينوغرافية، تبدأ مهمة المتلقي الذي من أجله أنجز هذا العرض، أي أن عليه أن يقوم باكتشاف الدلالات، وترويض المعاني التي ينطوي عليها كل نص أو عرض. ولعل هذا ما دفع رائد مدرسة كونسطانس الألمانية – التي اهتمت بشكل خاص بجمالية التلقي -هانس روبير ياوس H.R.Jauss  إلى القول بأنه ” لا يمكن تصور حياة عمل أدبي في التاريخ دون المشاركة الفعلية للمتلقين الذين يوجه إليهم هذا العمل”[4].

وقد كان الاهتمام منصبا على مر التاريخ على جمالية الإنتاج التي وقع منظروها في مجموعة من الشوائب و الأخطاء، في حين تم إهمال جمالية التلقي. ورغم كون هذه الأخيرة حديثة العهد، إذ لم يمض في التنظير لها سوى سنوات قلائل، فإنها استطاعت أن تتمركز بشكل جيد وأن تستوعب خطابات جمالية الإنتاج، بل وأن تتجاوزها. ويرى باترس بافيس P.Pavis أنه على الرغم من الاهتمامات المتزايدة بجمالية التلقي من قبل تيارات مختلفة “فإن هذه التيارات عليها أن تستفيد من أخطاء جمالية الإنتاج التي تميزت بأحادية الجانب في مسلماتها. كما أن عليها أيضا أن تقيم مصالحة في إطار العلاقة الجدلية بين الإنتاج والتلقي. فكل واحد يتحدد في علاقته بالآخر[5]“.

وغالبا ما يراهن المنتجون المسرحيون على الرقص على جراح الجمهور المفترض والاستجابة لأفق انتظاره، ويحاولون الابتعاد عن التجريب الذي ينأى عن المألوف والمتداول. ويقدم باتريس بافيس بانوراما لنظريات الإنتاج والتلقي في الترسيمة التالية:

جمالية الإنتاج

جمالية التلقي

نوع العلامة  

العلامة والتلقي

 بعد تداولي

 بعد تركيبي

 

بعد دلالي

 

3) جمالية المتلقي

أ- نظرية القراءة والتحقيقات

– التحقيق التخييلي

ب- نظرية حركية المتلقي.

نظرية النص الإيديولوجيا.

ج) نظرية الضوابط الاجتماعية.

4) التداوليات

أ) نظرية الأفعال اللغوية.

ب) نظرية التخييل.

ج) قوانين.

ن) نظرية الخطاب.

 

1)     الشكلانية

أ – البحث عن الخاصية والسميولوجيا الشكلية

ب- البنيوية

2) نظرية النص ونظرية الضوابط النصية.

سوسيولوجيا المضامين

نظرية المرجع والانعكاس.

حقل نظريات الخطاب والتلقي[6]

وتقرأ هذه الترسيمة أفقيا انطلاقا من الأعمدة الأربعة الأساسية. وهي تمثل أهم النظريات والتيارات التي اهتمت بالإنتاج والتلقي المسرحيين.

وقد استفاد رواد المسرح ومنظروه بشكل كبير من جمالية التلقي ومدرسة كونسطانس الألمانية، واستعاروا منها مجموعة من الأدوات الإجرائية والمفاهيم، ومن بينها أفق الانتظار horizon ďattente ľ الذي يعرفه قيدوم هذا التوجه النقدي الجديد هانس روبير ياوس بقوله : “…إن أفق الانتظار لدى جمهور معين يعني النظام المرجعي…المنبثق عن ثلاثة عوامل أساسية : أولها معرفة الجمهور القبلية بنوعية الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل. وثانيها شكل وتيمة الأعمال السابقة التي يفترض معرفتها في العمل. وثالثها التعارض بين اللغة الشعرية واللغة التطبيقية وبين العالم المتخيل والعالم اليومي”[7].

يتضح من مقولة ياوس أن أفق الانتظار هو الحالة القبلية التي يكون عليها المتلقي قبل استقباله للعمل الإبداعي أو الأدبي، ويستند على ثلاثة عناصر رئيسة هي: الجنس الأدبي، والتناص، والتخييل. وينتج عن تلقي المتفرج لعمل ما، إما الاستجابة لأفق انتظاره، بمعنى أن العمل الذي تلقاه هو عمل عادي ومبتذل، وإما تخييب أفق انتظاره إذا كان العمل دون المستوى، أو تغيير أفق انتظاره في حالة ما إذا كان العمل جديدا وتجريبيا يتجاوز المتداول، ويقدم اجتهادات وإضافات نوعية ومختلفة.

 واستنادا إلى ياوس حاول كيرإيلام تحديد أفق الانتظار – أو أفق التوقع- في علاقته بالمسرح قائلا: “إن إدراك المشاهد المعرفي للإطار المسرحي ومعرفته بالنصوص والقوانين النصية والاتفاقات يشكلان بالإضافة إلى إعداده الثقافي العام وتأثير النقاد والأصدقاء وغير ذلك ما يعرف في علم جمال التلقي بأفق التوقعات الذي بواسطته يتم قياس المسافة الجمالية  التي يولدها العرض في ابتكاراتها وتعديلها للتوقعات المستقبلية”[8].

يبدو إذن والحالة هاته أن هناك ارتباطا وثيقا بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي في تشكيل أفق الانتظار أو التوقع لكل متفرج على حدة. والجانب الموضوعي يتكون من مجموع المبادئ والأعراف والقيم الأخلاقية والمعرفية والثقافية السائدة داخل مجتمع معين، والتي ليست حكرا على جماعة، أو شخص بعينه. بينما الجانب الذاتي يتعلق بالتكوين الشخصي للفرد ومدى تفاعله مع الجانب الموضوعي لجعله يحقق استقلالية نسبية وتميزا داخل حيز مجتمعي محدد.

واستفاد المسرح كذلك من الرائد الثاني لجمالية التلقي الألماني وولفغانغ ايزر W.Iser، وخاصة نظرية الوقع الجماليThéorie de ľ effet esthétique  التي تتجلى في العلاقة بين النص ومتلقيه، وهي تقوم على ثلاثة أعمـدة هــي النص والقــارئ  وتفاعلهما[9].

وحاول إيزر ممارسة الاختلاف مع ياوس الذي جعل أفق الانتظار والمسافة الجمالية لا تخرج عن الإطار الذاتي والموضوعي مستبعدا أي عناصر خارجية، في حين أن إيزر استبعد كون الوقع الجمالي نابعا من طبيعة الأدب نفسه، بل من العلاقة الجدلية والحوارية التي تجمع النص بمتلقيه وسيرورة هذه العملية.

ويمكن في المسرح الاستغناء عن العلبة الإيطالية، وقطع الديكور والإنارة والموسيقى… لكن الذي يظل ثابتا هو الممثل والمتفرج باعتبارهما محورا التمسرح. ولا يمكن تصور أي عمل مسرحي بدونهما. إلا أن العلاقة بينهما لم تكن على الدوام متكافئة، بل إن الكفة كانت دائما تميل لصالح الممثل / المرسل. وقد انتقد بافيل كامبيا نوPavel campiano هذا التوزيع غير الدقيق وغير العادل بين الممثلين والمتفرجين الذين يقومون في الغالب بدور سلبي داخل قاعة المسرح. ذلك أنه “بمجرد انطلاق العرض المسرحي يكون لكل ممثل دور محصور ومحدد، في حين أن المتفرجين يقومون بنفس الدور. لهذا يكون حضور كل ممثل أساسي بالنسبة للعرض كله في الوقت الذي يمكن فيه تعويض كل متفرج بمتفرج آخر… فالممثلين لهم وظيفة نوعية Qualitatif بينما المتفرجين لهم وظيفة كمية Quantitatif وينظر إليهم باعتبارهم عددا معينا ليس إلا[10].

ومن ثم، فإنه يجب إعادة النظر في هذا التوزيع غير العادل للأدوار، والنظر إلى المتفرج باعتباره صانعا للفرجة أيضا، وليس فقط مستهلكا سلبيا لها. فالمتفرج هو اللبنة الأساسية لكل عمل مسرحي، وبغيابه يصير هذا العمل غير ذي بال. إذ من المفروض أن يقوم بمهمة تقييمية وتقويمية في نفس الآن. وبفضل احتجاجاته وصخبه ومناقشاته وتشجيعاته ينتبه المخرج المسرحي إلى مكامن القوة والضعف في عمله. وهو ما تثمنه آن أوبر سفيلد Anne Ubersfeld بقولها : “يجب أن نعلم أن المتفرج هو الذي يخلق الفرجة مثله في ذلك مثل المخرج المسرحي. فهو يعيد تركيب العرض كله على المحورين العمودي والأفقي. فالمتفرج مضطر ليس فقط لتتبع حكاية معينة، ولكن لإعادة تركيب الوجه العام لكل العلاقات المتصلة بالعرض في كل لحظة”[11].

وهنا تكمن المهمة الصعبة الملقاة على عاتق الجمهور. ذلك أن فهم وتأويل أي عمل مفتوح يمر عبر المؤلف الذي يشحنه بتصوره الشخصي المسكون بتجربته وزوايا نظره ورؤيته للعالم. ثم يأتي بعد ذلك المخرج الذي يعد مسرحة هذا النص، ليقذف به إلى الممثل سيد الخشبة ليضع عليه بصماته الخاصة. وليصل في آخر محطة إلى الجمهور الذي يتلقاه بآفاق انتظارية مختلفة تختلف باختلاف المستويات السوسيو-ثقافية للمتفرجين. وبما أن العرض المسرحي “ساحة تباينات لا بيانات، ساحة تفجير لمعان لا حصر لها “، ومرتع لتعدد العلامات السمعية والمرئية،  فإن المتفرج يحاول في زمن قياسي التركيب بين مختلف هذه العناصر التعبيرية ومطاردة المعاني.

ومن الصعب جدا على المتفرج العادي أن يرى ويسمع وينظر إلى الشخوص، ويتذكر جميع العلامات وكل الحركات في مرة واحدة. وهذا يعني أن ” إعادة سميأة العرض تتطلب من المتفرج بناء معنى لكل علامة يتلقاها. كما أنه يعود إلى المعنى المتضمن داخل الفكرة بعد العمل التحليلي للفرجة… ما دام كل تحليل يتطلب إعادة تجميع العلامات وبناء المجموعات..”[12].

كما أن هناك علاقة جدلية ومرجعية بين العالم الخارجي -عالم التجربة والثقافة- والعالم المفترض المحدود داخل الفضاء المسرحي. وهو ما يجعل المتفرج يتوزع بين الواقع والمتخيل، ويحاول قدر الإمكان مقارنة ما يراه على الخشبة بعالمه اليومي الذي يتحرك داخله بصورة مطردة، ويعيش حياته بتلويناتها وتشعباتها.

ومن المؤكد أن المشاهدة المسرحية تحقق الفائدة لدى المتفرج، كما أنها أيضا تحقق لديه المتعة Le plaisir. وإذا كان رولان بارت يتحدث عن “لذة القراءة “، فإن أوبر سفيلد تؤكد على شتى أنواع المتع التي يجنيها المتفرج من خلال متابعته للعروض المسرحية. فهناك “لذة المشاركة، ولذة السخرية، ولذة الفهم….ولذة الضحك، والبكاء،  ولذة الحلم والمعرفة، واللعب، والمعاناة …. و يمكن الاستطراد في لعبة الثنائيات الضدية إلى ما لا نهاية له”[13].

وبالجملة، فإنه بالنظر إلى كون العرض المسرحي تكثيفا لمختلف أنواع العلامات، وبناء على كون العلامة المسرحية ذات طبيعة معقدة،  وتتراوح بين الرمز، والكلمة، والأيقونة، والإشارة، والصرخة، والصمت… فإنه من الواجب أيضا تعليم المتفرج كيفية المشاهدة حتى يكون متفرجا إيجابيا وفاعلا. و لن يتأتى ذلك طبعا إلا إذا تشبع هذا المتفرج المفترض بثقافة مسرحية، وصار المسرح بالنسبة إليه فنا يوميا و مألوفا، و ليس فنا طارئا ودخيلا على تربته الثقافية.

الجمهور في مسرح الشارع من الفضولية التلقائية إلى المشاركة الفعلية

وإذا قاربنا علاقة الجمهور في مسارح الشوارع عموما، سنجد أنه يجمع بينها خيط ناظم يتمثل بالأساس في العلاقة التفاعلية المباشرة بين منتج العرض ومتلقيه، حيث يعد الشارع  فضاء عموميا مشتركا بين الجميع، وتعد ساحاته أماكن مخصصة لمجموعة من الأنشطة اليومية التي قد تتغير وظيفتها الأصلية إلى تقديم فرجات مختلفة ومتباينة، تستأثر باهتمام المتفرجين الذين اعتادوا على رؤية هذه الفضاءات تحتضن أنشطة أخرى. كما أن جمهور مسرح الشارع غالبا ما يتكون من أناس عاديين، سقطوا في شرك صناع الفرجة في لحظة معينة غير مبرمجة. فقد يمرون بشارع معين لقضاء بعض المآرب، ويصادفون أمامهم عملا مسرحيا فيأخذهم الفضول لإلقاء نظرة خاطفة، لكنهم غالبا ما يندمجون في مجريات العرض، ناسين الغرض الأساسي الذي خرجوا من أجله. بل إنهم، قد يتفاعلون إيجابا مع الممثلين، والحكايات، والأغاني، والرقصات، ويتحولون هم أنفسهم في بعض الأحيان إلى مؤدين، وليس فقط متفرجين سلبيين.

وهذا يعني أن مسرح الشارع، عكس مسارح القاعات، يفتح جسورا عديدة مع المتلقي، ويراهن على إشراكه بشكل فعلي في إنجاح العمل المسرحي. وكثيرة هي العروض الفرجوية التي تحتضنها مختلف الساحات العمومية المغربية منذ فجر التاريخ إلى الفترة الزمنية المعاصرة كما هو الحال بالنسبة إلى ساحة جامع الفنا بمراكش، وساحة باب المكينة بفاس، وساحة باب منصور بمكناس…علاوة على أبواب قصور وقصبات الجنوب الشرقي التي تزخر بمجموعة من الفرجات التقليدية الأمازيغية  والعربية والإفريقية المطقسنة، والتي تشارك فيها الساكنة بشكل جماعي، وتحولها إلى فضاءات للاحتفال، وهو ما يعزز أواصر التلاحم والترابط بين مختلف أفراد القبائل والعشائر، ويجعل ساكنة هذه الربوع في علاقة دائمة مع أنساقها الثقافية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ.

إن مسألة العلاقة مع الجمهور حاضرة في كل مكان في خطاب الفنانين والمهنيين في مسارح الشوارع، وتقوم بالأساس على إلغاء الجدار الرابع، وتحريك المتفرجين، والقطع مع الممارسات الحياتية العادية… بحثًا عن لقاء مسرحي متجدد مع جمهور لا يتردد في الأصل على المسارح. وفي سياق تعزيز الديمقراطية الثقافية، يمكن لفنون الشارع إعادة تنشيط المسارح والفرجات الشعبية بصفتها وسيطًا في المجتمع، وجعلها تصل إلى أوسع الجماهير. وإذا كان الخروج إلى القاعات المسرحية يشكل لحظة من المتعة، والحرية، والاحتفال، فإن الذهاب لمشاهدة مسرح الشارع يعد خطوة متميزة للاستكشاف، وتهذيب الذوق، والانفتاح على ثقافات جديدة…وطرح أسئلة، أو إيجاد أجوبة على أسئلة عالقة…

تختلط المسافات النوعية بين جمهور مسرح الشارع، وتتداخل فيما بينها. وعادة ما يحافظ الإنسان في وجود الغرباء على مسافة معينة. ومع ذلك، فإن الوضع المزعزع للاستقرار الناجم عن فنون الشارع، من خلال طابعها الاستثنائي والمحفز، يسمح لنا بملاحظة أن هذه المسافات تضيق بين المتفرجين حد التماس، أو أنها تتغير، مكتسبة شكلا مخالفا بحسب السياق. وغالبًا ما نلاحظ أن المسافات بين الأجساد تقل شيئًا فشيئًا لحظة الأداء، ويقترب الناس بعضهم ببعض، ويتلاحمون، أكثر من أي وقت مضى في هذا النوع من الفضاءات العمومية في الأوقات العادية.

يتم تقليص المسافات إذن بين الأجساد إلى بضع سنتمترات، حد التلامس فيما بينها، والتزاحم؛ ويتحول العرض إلى لقاء حميمي، من خلال العلاقات اللمسية، أو عن طريق الرائحة (العطر، العرق، إلخ) والسمع. وهذا هو ما يمكن أن نصفه بوضع “عدم الانتباه المهذب”، حيث يتم أخذ الآخر في الاعتبار، ولكن بدون التزام كبير، مما يسهل إدارة هذا النوع من المواقف في الهنا والآن. وهذا يعني أن مسرح الشارع يؤسس لمدونة سلوك جديدة تقوم على التسامح، واللامبالاة، والتماس العذر للآخر…فقد تكون هناك دردشات بسيطة بين الجمهور قبل، وإبان، وبعد العرض، أو بعض التعقيبات، أو التعليقات المشتركة، أو الضحكات أو الابتسامات، أو ردود الأفعال التلقائية المشتركة غير المبرمجة بشكل قبلي…وهو ما يكرس مرة أخرى مرونة في المسافات الشخصية خلال تقديم هذا النوع من الأعمال الفنية.

يعيد الفنانون العمل في هذه المساحات اليومية  من خلال الكشف، ولكن أيضًا عن طريق تنشيط إمكانات الفعل والإدراك، وجعل البعد الجسدي والحساس لجمهور مسرح الشارع أكثر حضورا. وهو ما يفتح إمكانيات توظيف الفضاءات العمومية بشكل مغاير، ويحرر مساحة الأحلام التي تخدم الخيال، وتوسع طيف إمكانيات العيش المشترك.

وتجدر الإشارة إلى أن جمهور مسرح الشارع في الغالب الأعم غير متجانس، ويمثل مختلف الطبقات الاجتماعية والديانات واللغات، والأعمار، والأجناس. وهو الفضاء الذي لا يمتلك فيه أي شخص سلطة على شخص آخر، حيث تنتفي التراتبية الاجتماعية والألقاب… ويمكن لكل شخص أن يمارس ما يحلو له من سلوكات متصلة بحرية اختيار العرض من بين عروض متعددة، علاوة على مجانية الحضور. وهذا النوع من الفضاءات المفتوحة يدعو الجمهور إلى حضور مادي، ولكن أيضًا إلى حضور إبداعي، لكن ربما نحتاج إلى التساؤل عن كفاءة وتأثير العرض على تحول/محتمل للمتفرج. لذلك يبقى أن نثبت أن إدراك المتفرج لعروض الشارع يؤثر على تفكيره ويعلمه إلى حد كبير، في أفق تغيير منظوره للحياة والكون.

 وقد شهدت مدينة زاكورة في السنة الماضية النسخة من مهرجان الحكاية الذي يتأسس على تقديم مجموعة من العروض المسرحية والفرجات في مختلف فضاءات المدينة، حيث تجوب مختلف الفرق العالمية المشاركة شوارع هذه الحاضرة المنتمية للمغرب العميق، وتخرجها من صمتها، وانعزالها، وتسلط عليها الأضواء، جاعلة منها مركزا بدلا من أن تكون هامشا…غير أن ما يلفت الانتباه هو الاقبال الكبير على العروض، والاندماج التلقائي مع صناعه، حيث ينصهر شباب وشيب ونساء ورجال البلدة، بل حتى أطفالها مع مختلف العروض الممثلة لطيف واسع من الثقافات العالمية، ويتجاوبون معها، بأشكال متباينة تشي بأن الجمال له جمهوره وعشاقه في كل الأمكنة والأزمنة.

وهو ما يؤكد مرة أخرى على كون مسارح الشوارع عابرة للثقافات واللغات والاثنيات، وقادرة على إيجاد موطئ قدم لها في تخوم العالم، عكس مسارح القاعات التي تخضع لشروط موضوعية مختلفة، وفلسفة مغايرة. والملفت للانتباه أن الجمهور غير المتجانس الذي لا يفهم في الغالب الأعم لغة بعض الفرق الآتية من شرق أوروبا تفاعل بشكل كبير مع عروضها القائمة على لغة الجسد، والموسيقى، والألعاب التي يتم فيها إشراك شرائح كبيرة من هذا الجمهور، ويتحول إلى مشارك فعلي في العرض.

خلاصة

يتضح لنا جليا مما تقدم أن إشكالية التلقي المسرحي ترتبط بطبيعة المسرح الذي ينطوي على شتى أنواع التعابير التي تتراوح بين السمعي والمرئي والمكتوب…وهو ما يعقد مهمة المتفرج الذي يجد نفسه أمام ترسانة كبيرة من الإرساليات التي يجب عليه فهمها واستيعاب محتوياتها التقريرية والإيحائية. ويمكن في هذا الإطار تفعيل اجتهادات رواد جمالية التلقي وتكييفها مع طبيعة المسرح حتى يمكن خلق متفرج نوعي ومشارك في صنع العمل المسرحي وليس فقط مجرد مستهلك سلبي لكل أنواع الخطابات. ولن يتم ذلك طبعا إلا بانفتاح هذا المتفرج على الريبرتوار المسرحي العالمي وعلى جل التيارات المسرحية التجريبية والطليعية وإدراكه لتقليعاتها الفنية والجمالية. وهو ما سيمكنه من اكتساب ثقافة مسرحية تساعده على فهم إواليات اشتغال أب الفنون، وتنتشله من دائرة السلب إلى دائرة الإيجاب، ومن محيط الكم إلى محيط الكيف.

        

[1] – عطية عامر، النقد المسرحي عند اليونان، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، دت، ص28.

[2] – أرسطو، فن الشعر، د.ت،ع الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت. لبنان، ص 18.

[3]– Umberto Eco, Lector in Fabula – Le rôle du lecteur.  Ed grasset. 1985 P: 8.

[4] – H.Robert Jauss : Pour une esthėtique de la rėcėption. Ed. Gallimard. 1978.P.45.

[5] – Patrice Pavis. Revue des sciences humaines. N189. Janvier.Mars. 1983.P:51.

[6] – Ibid . P : 56.

[7] – H.R.Jaus : pour une esthėtique de la  rėcėption. P : 44.

[8] – كيرايلام، سيمياء المسرح والدراما، ت. رئيف كرم، المركز الثقافي العربي،  ط. 1. 1992. ص 147.

[9] – W. Iser.Acte de lecture. Theorie de  l´effet esthėtique. Gallimand. 1985.P.14.

[10] – Pavel campiano : le spėctateur un rôle sėcondaire  sémiologie de la reprėsentation. Ed. Complexe. 1975.P :96.

[11] – Anne ubersfeld. lire le théâtre. Ed sociales.Paris. 1993. P :41.

[12] – Anne Ubersfeld : Ecole du spéctateur. Ed. Sociales. 1980. P: 306.

[13] – Ibid : 325.

شاهد أيضاً

“عوالم الأداء” لريتشارد شِكنر دراسات مختارة لباحثين ومترجمين مغاربة

قدمت إدارة مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية في دورته العرشين إصدارا جديدا بمناسبة تكريم البروفيسور …

تكريم ريتشارد شِكنر وحسن يوسفي في افتتاح الدورة العشرين من طنجة المشهدية

انطلقت مساء أمس الخميس فعاليات مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية، بحضور وازن لأكاديميين وفنانين مغاربة …

مهرجان طنجة للفنون المشهدية 2024 برنامج الدورة 20

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *